جينغ خه .. حامل لواء الدبلوماسية الصينية المسلم

  • | الثلاثاء, 27 نوفمبر, 2018
جينغ خه .. حامل لواء الدبلوماسية الصينية المسلم

     لم يكن المسلمون الصينيون يومًا منعزلين عن تاريخ الصين، بل كانوا جزءًا لا يتجزأ من حضارتها وثقافتها العامة، والتى جعلت منهم مُكَوِّنًا حضاريًّا أثّر في تاريخ هذه الدولة؛ ومن هذا المُنطلَق حرَصت وحدة اللغة الصينية بمرصد الأزهر على إبراز دَور إحدى الشخصيات التي تُعَدّ من أهم المؤثّرين في تاريخ الحضارة الصينية، والتي لا تزال الصين تستخدم اسمها حتى الآنَ كشعار ورمز للدمج بين الأقليّات وتحتفي بذكراه كل عام، ألَا وهو (جينغ خه) "鄭和Zhèng hé" أحد أشهر الرحّالة الصينيين؛ حيث سافر بأمر من الإمبراطور الصيني مُبحِرًا من الصين في سبع رحلات شهيرة؛ ليطوفَ العديد من دول العالم ابتداءً من الهند ومرورًا بماليزيا وإندونيسيا وشرق إفريقيا حتى وصل إلى جزيرة العرب، ليكونَ سفيرًا للصين في دول العالم ويُقيم عَلاقاتٍ اقتصاديةً وسياسية معها، والتي جعلت الصين واحدةً من أهمِّ مراكزِ العالم في ذاك الوقت.
وُلد (جينغ خه) عام 1371 بمقاطعة "يوننان" الصينية، وسط أسرة مسلمة تنتمي لقومية "الهِوي" المسلمة، واسمه الأصلي (ما سان باو)، وكعادة المسلمين الصينيين في إطلاق أسماء عربية على أبنائهم فقد أُطلق عليه اسمٌ عربيٌّ وهو (حِجي محمود شمس)، وترجع أصوله إلى سلالة "يوان" المغولية، لكن بعد سقوط أسرة "يوان" وبداية عهد أسرة "مينغ" أُسر"جينغ خه" وأُحضر ليعمل خادمًا في البلاط الإمبراطوري، لكن ما لبث أنْ ظهر ذكاؤه؛ فاستعان به الإمبراطور الثالث لأسرة "مينغ" وهو الإمبراطور (يونغلي)، ليُصبحَ "جينغ خه" ذا شأن كبير في البلاط الملكي ومستشارًا للإمبراطور، كما اختاره الإمبراطور ليكونَ رسولًا للدبلوماسية الصينية إلى العديد من بلدان العالم، ويصير بعدها رجل السلام الصيني الذي يجوب المحيطاتِ والبلدانَ؛ ليَضَعَ الصينَ في مكانه اقتصادية وسياسية رفيعة.


رحلات أسطول الكنز (1405_1433)

عُرفت الحضارة الصينية بأنها حضارة ذات طابع سِلمي، فلم تهتم بالتوسّعات خارج حدودها أو إرسال جيوش غازية إلى البلدان، بل كان غالب اهتمام حُكامها يَصُبّ في تنمية الأنشطة التجارية والاقتصادية، ويظهر ذلك جليًّا في "طريق الحرير" والذي حقّق الرخاء للشعب الصيني، ومن هذا المنطلق فكّر الإمبراطور (يونغلي) في إرسال بعثات لتنشيط التجارة الصينية، وبالفعل بدأ تجهيزَ أسطول بحري ضخم أُطلق عليه اسم "أسطول الكنز"، والذي تَكَوَّنَ من 62 سفينةً ضخمة تمّ بناؤها على عِدّة مراحل، على متنها 30 ألف بحّار وجندي وعشرات المترجمين والأطباء والعديد من الحِرفيين، واختير (جينغ خه) ليكون قائدًا لهذا الأسطول البحري الكبير، وكانت المهمة الرئيسة التي أوكلت إلى (جينغ خه) في رحلته إلى المحيط الهندي هي القضاء على القراصنة، وحماية الاستقرار والأمن البحري في جنوب وجنوب شرق آسيا.
وقد ضمّ هذا الأسطولُ أضخمَ سفينةٍ عرفها العالم في ذلك الوقت من القرن الخامسَ عشرَ، وكانت سفينة جينغ خه تُسَمَّى "سفينة الكنز" بطولٍ يصل إلى 400 قدم، ليقودَ على مدار 30 عامًا سَبعَ رحلاتٍ بحرية جابت الموانئ والبلدان في آسيا وإفريقيا، وصل خلالها بأسطوله البحري إلى جزيرة "جاوة" الإندونيسية جنوبًا، ومنطقة الخليج والبحر الأحمر ومكة المكرمة شمالًا، وجزيرة تايوان شرقًا، والسواحل الشرقية لقارة إفريقيا، وكانت السفن تحمل على متنها البضائع والكنوز الصينية؛ لتوزيعها على البلدان التي ستصل إليها.
وكان لكثرة السفن وضخامتها وعدد البحّارة الكثير أثرٌ كبير في نجاح الرحلة، فقد استطاعت رحلات الكنز إقامة عَلاقاتٍ وطيدة مع بلاد شرق آسيا والساحل الإفريقي، وتمّت مُبادَلة البضائع الصينية ببضائعَ أخرى لم تكن تعرفها الصين من قبلُ، كما اصطحب "جينغ خه" معه خلال عودته إلى الصين وُفودًا من البلدان التي زارها، فوصلوا إلى الصين وقدّموا جليلَ الاحترام والتقدير لأسرة "مينغ"، وقضى "جينغ خه" بأسطوله القوي على قراصنة المحيط الهندي.
كما كان لوثائقِ "جينغ خه" والتي أرّخ فيها رحلاتِه السبعةَ دورٌ كبير حيث أمدّت المؤرخين بمعلومات وافية عن أوضاع البلاد التي وصل إليها، كما أظهرت قدرة أسطوله على تصدّيه للقراصنة التي كانت تعوق التجارة البحرية وتمنع الإمبراطورية الصينية من توسيع نفوذها في دول جنوب شرق آسيا.
ورغم النجاح الكبير الذي حققته "رحلات الكنز" فإنّ التغيرات السياسية داخل البلاط الإمبراطوري كان لها أثرٌ كبير في تَوَقُّف هذه الرحلات، فقد قرّر الإمبراطور عدم اتّساع هذه الرحلات، ليقومَ بعدها (جينغ خه) بآخِر رحلاته عام 1434، ويختار بعدها البقاء في بلدة "جينغهاي" بمدينة "نانجينغ" حتى وفاته عام 1435، عن عمرٍ ناهَزَ 65 عامًا.
الجدير بالذكر؛ أن القرن الخامسَ عشرَ معروفٌ بأنه قرنُ الاكتشافات الجغرافية العظيمة والتي بدأها (جينغ خه) وتبعه الرحّالة الأوروبيون، لكن كان لدبلوماسية (جينغ خه) أثرٌ كبير ومُخالِفٌ عمّن تَبِعوه من الرحّالة الأوروبيين، فبينما كان اهتمام هؤلاء في المقام الأول هو الحصول على ثروات الدول المُستكشَفة، وربما الرغبة في استعمار تلك الأراضي، لكن كان هدف الرحّالة (جينغ خه) هو التبادُل التجاري وتعريف الشعوب المختلفة بالحضارة والثقافة الصينية، ولم يلجأ إلى العنف مع أصحاب الديانات الأخرى، ولم تكن له نظرة استعمارية، فقد سعى إلى جذب وُدّ واحترام الشعوب الأخرى، كما لم يغتصب أو يَنهَب أيًّا من ممتلكات الشعوب.
وكانت لرحالات (جينغ خه) نتائجُ كبيرةٌ، سواء على مستوى الصين أو على المستوى العالمي، فقد شجعت رحلاته الكثيرَ من البحّارة حول العالم على محاولة اكتشاف العالم الجديد اعتمادًا على خرائطه، كما نقل العديد من أبناء القوميات المسلمة الصينية إلى مناطقَ لم يصل إليها الإسلام من قبلُ، مثل: جزيرة تايوان وجُزر جنوب شرق آسيا، ليقوموا فَورَ وصولهم بنشر الإسلام بين أبناء تلك البلدان، كذلك اعتمد الكثير من الرحّالة الأوربيين على خرائطه، وقد أشار عددٌ من الباحثين إلى أنّ رحلاتِ الكنز قد وصلت إلى القارّة الأمريكية قبلَ أن يكتشفها (كولومبس) بعشرات السنين، لكن لا توجد دلائلُ قاطعةٌ على هذه الأقاويل.
ولأهمية هذه الرحلة؛ قرّرت الدولة الصينية اعتبار يوم الحاديَ عشرَ من يوليو عيدًا للبحرية الصينية، كما قامت دارُ الساعات السويسرية "أوليس ناردين" بإصدار نوع جديد من الساعات باسم "كلاسيكيو جينغ خه"؛ في خطوة منها لتكريم البحّار والمُستكشِف وصاحب لقب "أمير أسطول الصين" (جينغ خه)، كما توجد العديد من البِنايات التذكارية لـ(جينغ خه) في دول جنوب شرق آسيا.
إنّ سيرة الرحّالة الصيني المسلم (جينغ خه) هي إحدى الحلقات في سلسلةٍ ذهبية لكلّ مَن يريد أن يعرف دَور المسلمين في النهضة العلمية، وقدرتهم على الاندماج في أوطانهم والإسهام في بنائها.
و"مرصد الأزهر" يُشيد بهذه الشخصية وأثرها في إثراء هذا الجانب من التاريخ الإنساني، ويَعُدُّهُ نموذجًا من أهمِّ نماذجِ الشخصيات في التاريخ الإسلامي، فلم يُشعِل حربًا ولم يقتل بشرًا، وإنما كان مثالًا للتعايُش ووسيطًا لمُلتقى الحضارات.

 
وحدة الرصد باللغة الصينية

 

طباعة