مُعضلة "انتشار الفِكر المتطرّف" داخل السجون البلجيكية

  • | الجمعة, 14 ديسمبر, 2018
مُعضلة "انتشار الفِكر المتطرّف" داخل السجون البلجيكية

     إنّ انتشار الفِكر المتطرّف داخل أسوار السجون يؤرق العديدَ من دولِ العالمِ وعلى رأسها "بلجيكا" عاصمة الاتحاد الأوربي، والتي كانت بمثابة المُصدِّر الرئيسي للإرهابيين في القارة العجوز، لذا سعت لإيجاد كافة الوسائل والسُّبُل التي تتصدى لانتشار ذاك الفِكر داخل أروقة تلك السجون التي باتت "حضانة ومفرخة"، لنوع جديد من الإرهاب ناتج عن تزاوج الأفكار المتطرفة مع السجلات الإجرامية، بالرغم من وقوع تلك السجون تحت القبضة الأمنية للدولة.

فبدلًا من أن تُصبح السجون مكانًا لتهذيب المجرمين وتأهليهم نفسيًّا وفكريًّا وسلوكيًّا ، ليكونوا أسوياء ويسهل دمجهم داخل النسيج المجتمعي، باتت بيئة خصبة لنشر الفِكر المتطرّف، ومسرحًا لتجنيد مقاتلين في صفوف الجماعات المتطرفة؛ ما دفع الدول المتضررة إلى محاولة إيجاد حلول لتلك المُعضلة. فمنهم مَن قام بعزل السجناء المتطرفين عن باقي السجناء في جرائم أخرى، على عكس ما رآه آخرون بأنّ ذلك العزل يُعزز من الأفكار المتطرفة لدى الفرد. بينما سارع آخرون بالدفع برجال الدين إلى أروقة تلك السجون لمكافحة انتشار الفِكر المتطرّف من خلال إجراء النقاشات معهم حول الأفكار التي يعتنقونها. وآخرون لجأوا إلى المراقبة المشددة والصارمة للنزلاء أصحاب الفِكر المتطرّف، حيث لا يُسمح للنزلاء المتطرفين بالتواصل مع الآخرين سوى في ساعات محددة تخضع لإشراف رقابي شديد. فهل ستنجح تلك الحلول في التصدي لانتشار الأفكار المتطرفة داخل السجون؟ أم أنّ الدول المعنية ستبحث عن حلول أخرى؟!

انّ البيئة البلجيكية تختلف اختلافًا كثيرًا عن باقي البيئات الأوروبية بكونها ملاذًا للإرهابيين، وممرًا رئيسًا في تصدير المقاتلين الأوروبيين لصفوف الجماعات المتطرفة، فانضم العديد من البلجيكيين إلى صفوف "داعش" في سوريا، وهناك تدربوا وقاتلوا في صفوفه، بل وتولى بعضهم مناصب رفيعة في "جهاز العمليات الخارجية" المُكلف بشنِّ هجمات إرهابية على القارة العجوز، فكان من بينهم منفذو ومخططو العديد من الهجمات الإرهابية التي أدمت القارة العجوز، وعلى رأسها أحداث "باريس وبروكسل". لذا فإنّ التطرف في السجون البلجيكية ومخاطر عودة المُدانين في قضايا متعلقة بالإرهاب إلى تكرار الجرم، يضعان "بلجيكا" أمام تحدٍ مستمر.

مثل "فرنسا"، تعرضت "بلجيكا" مرات عديدة لهجمات إرهابية في السنوات الأخيرة، فعلى سبيل المثال الهجوم الواقع على المتحف اليهودي بـــ"بروكسل" عام 2014م، والهجوم على مطار ومترو العاصمة "بروكسل" عام 2016م والتي أودت بحياة نحو 32 شخص. وفي مايو 2018م، أسفر هجومًا بمدينة "لييج" عن مقتل ثلاثة أشخاص.

          ولأول مرة منذ سبع سنوات أصدر جهاز أمن الدولة وجهاز الاستخبارات المدنية البلجيكية يوم الجمعة 30 من نوفمبر 2018م، تقريرًا لأنشطته في الفترة خلال عامي 2017 -2018م، والذي أُثنى عليه من قِبل وسائل الإعلام البلجيكية بالإجماع لشفافيته وصراحته، ووصفت أسلوبه الذي امتاز بالشفافية النادرة بأنه "ثورة صغيرة".

وخلُص هذا التقرير إلى أنّ البلاد تُواجه تحديًا إرهابيًّا مستمرًا بسبب انتشار التطرّف داخل السجون البلجيكية، وكذلك بسبب خطر معاودة المدانين في قضايا إرهابية إلى أنشطتهم مرة أخرى على الأراضي البلجيكية، ما يُشكل "قضية بالغة الخطورة"، ويجعل "بلجيكا" تخشى من موجة جديدة من التطرّف في البلاد، فكان هذا التقرير بمثابة فرصة للجهاز الأمني البلجيكي لكي يرسم صورة موضوعية للتهديد الإرهابي الذي يُهددها.

وأوضح التقرير أنّ التطرّف في السجون البلجيكية ليس إلا ظاهرة جديدة تشهدها "بلجيكا"، كما أشار إلى أنّ أجهزة الاستخبارات البلجيكية منذ 2014م، قد لاحظت أنّ "قضايا الإرهاب كان لها عواقب داخل مؤسسات السجون، فقد كان بعض الإرهابيين على اتصال مباشر مع المحتجزين في قضايا أخرى؛ الأمر الذي أدى إلى تزايد أعداد المتطرفين من أصحاب الجرائم غير الإرهابية، وأنّ فترة سجنهم كانت سببًا رئيسًا وراء تطرفهم. ما أدى إلى ظهور جيل من "رجال العصابات في صفوف الجهاديين"، حيث انضم مجرمون خطيرون بعد خروجهم من السجن إلى صفوف  المقاتلين البلجيكيين في "سوريا"، وهو ما أكده جهاز أمن الدولة البلجيكي.

واسقاطًا لهذا التقرير على أرض الواقع نجد أنّ الشاب "بنيامين هيرمان" منفذ هجوم مدينة "لييج" في مايو الماضي، والذي قُتل خلاله اثنان من رجال الشرطة البلجيكية، قد اكتشف المحققون أنه أصبح متطرفًا خلال فترة سجنه.

وفيما يتعلّق بالعدد الفعلي للمتطرفين داخل السجون البلجيكية سلّط التقرير الضوء على أنه من المستحيل حصر تلك الأعداد، وسبب ذلك يرجع إلى السلوكيات التي يتبناها المتطرفون في السجون : حيث يكون لدى البعض "موقف راديكالي علني ردًّا على الشعور بالإحباط الذي تفرضه عليهم البيئة"، وهناك آخرون "ينتهجون السرية لنشر أفكارهم ويُرتبون صفوفهم لعدم رصدهم من جهة رقابة السجن"، فهذه السلوكيات تجعل من المستحيل إحصاء الأفراد المتطرفين. ومع ذلك تُشير تقارير الاستخبارات إلى أنّ عدد السجناء المرتبطين بالتطرّف والإرهاب في ازدياد منذ عام 2014م.

ونوّه التقرير إلى أنّ الخسائر الكبيرة التي تعرّض لها تنظيم "داعش" في "سوريا" أبطأت إلى حد كبير من هجمات "داعش" على أوروبا في الأشهر الأخيرة، ومع ذلك فإنّ هذا الصراع كان بمثابة "مُحفز" لعودة السجناء إلى أنشطتهم الإجرامية كمتطرفين أو إرهابيين.

ونظرًا لكثرة أعداد السجناء المحتجزين بسبب قضايا إرهابية داخل السجون البلجيكية اليوم؛ فإنّ خطر انتقال عدوى التطرّف بات أكبر من أيّ وقت مضى، وهكذا ستظل "بلجيكيا" تواجه تهديدًا إرهابيًّا كامنًا، لاسيما بعد مغادرة "بلجيكا" أكثر من 400 شخصًا للانضمام إلى "داعش" في "سوريا". ورُغم عودة ثلث أعدادهم تقريبًا ومقتل العديد منهم، إلا أنَّ التقرير أشار إلى نحو 150 بلجيكيًا لا يزالون نشطاء في منطقة الصراع. الأمر الذي يُنبئ بموجة جديدة من التطرّف، وهذا ما أبدى القائمون على هذا التقرير خوفهم منهم.

لذا كان لزامًا على كافة مؤسسات الدولة تضافر الجهود، لا سيما المؤسسات العقابية التي يجب أن تدفع برجال دين متخصصين وعلماء نفس وأخصائيين اجتماعيين ورياضيين في أروقة السجون؛ للعمل على تأهيل السجناء فِكريًّا ونفسيًّا وسلوكيًّا، مع ضرورة تدريب وتأهيل القائمين على هذه المؤسسات. مع التأكيد على أنّ السلوك غير السوي ليس بالضرورة هو الخطوة التي تسبق التشدد ليصبح الفرد متطرفًا ثم إرهابيًّا، بل ربما هناك أشخاص لا يلتزمون بهذا المسار المتدرج لصناعة إرهابي، فتجد أشخاصًا أسوياء وقد يكون بعضهم من أصحاب الصحائف الجنائية يعتنقون الفِكر المتطرّف، فيتحولون بين عشية وضحاها من النقيض إلى النقيض.   

طباعة