المساجد في ألمانيا بين شبهة التطرف وتعذر المواجهة القانونية

  • | السبت, 15 ديسمبر, 2018
المساجد في ألمانيا بين شبهة التطرف وتعذر المواجهة القانونية

     تحظى المساجد بأهمية عظمى، ومكانة سامية رفيعة في المجتمع المسلم، وهبتها لها الشريعة الغرّاء، ووعد من يعمرها ويعتني بها بالثواب العظيم، فالمسجد هو بيت الله - تبارك وتعالى - في الأرض، وفي هذا دلالة على قدسية المسجد ونزاهته، وخلِّوه من الأغراض والمقاصد الدنيوية، وأن من يدخله لا بد أن يجعل عمله خالصًا لله -تبارك وتعالى- ولذلك حث النبي –صلى الله عليه وسلم- المسلمين على بناء المساجد، فقال: " من بنى مسجدًا لله، بنى الله له مثله في الجنة" ، وبيّن –صلى الله عليه وسلم- أن المواظبة على الصلاة في المسجد تكون سببًا لمحو الذنوب والخطايا. وكان للمساجد دورٌ عظيمٌ في بناء الفرد وتربيته تربية إسلامية؛ حيث كانت ولا تزال خير مكان للتربية في العصور الإسلامية السابقة، فكانت المساجد مصدر إشعاع ومنبع نور للبشرية كلها، تخرّج منه علماء أعلام وقادة كبار حملوا رسالة الإسلام السمحة، ونشروها في ربوع العالم كله.
لا يقتصر هذا الاهتمام لدى المسلمين بالمساجد على الدول ذات الأغلبية المسلمة فحسب، بل يتعداه إلى الدول التي يمثل المسلمون بها أقلية ومنها دولة ألمانيا، غير أن المسلمين بألمانيا يواجهون عند تشييد المساجد عقبات كبيرة ومناقشات حادة، يشارك فيها الرأي العام الألماني ووسائل الإعلام الألمانية المختلفة والسلطات الإدارية المختصة، بل يصل بعضها إلى ساحة القضاء الألماني، وجُلُّ هذه المناقشات تدور غالبًا حول مكان المسجد والترخيص له وشكل البناء من الناحية المعمارية والهندسية وارتفاع المآذن والسماح باستخدام مكبرات الصوت فيها، فإذا وافقت السلطات المحلية من ناحية على بناء مسجد ما، احتج السكان على البناء من ناحية أخرى، مما يزيد الأمر صعوبة، ففي مطلع الشهر الجاري احتج حزب البديل من أجل ألمانيا على وضع حجر الأساس لمسجد بمدينة "إيرفورت" التابع لطائفة الأحمدية، وشاركهم في هذا بعض المحتجين، حيث أقام النشطاء المسيحيون صلبانًا خشبية كبيرة في المكان احتجاجًا منهم على بناء المسجد، حسبما ذكرت إذاعة ألمانيا في 13 من الشهر الجاري.
ويرجع احتجاج البعض على بناء المساجد إلى التعميم الذي يقوم به بعض الإعلاميّين والصحفيّين، فنراهم يضخمون التجاوزات الفردية القليلة التي تحدث في بعض المساجد، فيعممونها على جميع المساجد، ويشوهون بذلك صورة الإسلام والمسلمين، مدَّعين أن المساجد هي معقل المتطرفين في ألمانيا وفيها يتحول الشباب من حديثي الإسلام إلى جهاديين متطرفين، فيزداد خوف المواطنين الألمان من المساجد، لذا يسعون جاهدين إلى منع بنائها، والسعي وراء إغلاقها، والسبب وراء ذلك هي الادعاءات بأن المساجد تدعوا إلى الكراهية.
وفي هذا الصدد نشير إلى الجولة الصحفية التي قام بها الصحفي "شمس الحق" متنكرًا داخل بعض المساجد في مدينة برلين، حسبما ذكرت صحيفة مورجن بوست (Morgenpost) في عددها الصادر يوم 28 من أكتوبر 2018م( )، حيث إنه ادعى أن إمام مسجد الصحابة ببرلين، وهو الشيخ أحمد أبو البراء أحد الدعاة السلفيين في ألمانيا، أحد أخطر الأئمة في ألمانيا لتأثيره على الشباب، وذلك لأنه يستقطب العديد من الشباب بحديثه المعسول، واستدلالاته من الكتاب والسنة على ما يقول، فلذلك هم يثقون به، ويدرجه الصحفي، شمس الحق، في قائمة دعاة الكراهية لمجرد أنه إذا تطرق للحديث عن القتال في سوريا قال: إن الأسلحة التي تُستخدم هناك ضد المدنيين أسلحة ألمانية – في إشارة أن ألمانيا شريكة في قتل الأبرياء هناك- وإن كان هذا صحيح بشكل أو بأخر، حسبما جاء في جوابه على السؤال الذي طرح عليه من قبل الصحيفة. فاستغل الإعلام ذلك، فشهروا بالرجل، وعمموه على كثير من الأئمة هناك.
ومن ناحية أخرى إذا قمنا بإلقاء نظرة فاحصة على أئمة المساجد في ألمانيا، نجد أن هناك بعض المساجد ينتسب أئمتها إلى التيار السلفي، ممن تلقو تعليمهم على أيدي أئمة متشددين من خارج ألمانيا، ولا يدركون روح الإسلام السمحة، وكانوا سببًا مباشرًا في جعل المساجد عرضة للخضوع لمراقبة هيئة حماية الدستور، حيث يقوم بعضهم بالاستدلال ببعض النصوص في غير مواضعها، وليّ عنق بعض النصوص، مما يتسبب في فهم خاطئ وإثارة للرأي العام الألماني، وسبب ذلك هو النقص الشديد في إلمامهم بالعلوم الإسلامية، وعدم إدراكهم أن علماء الإسلام أسسوا (فقه الأولويات) ومن قبله (فقه فهم النص) و(إدراك الواقع) و(فقه المقاصد) و(المآلات) و(الموازنات)، لصناعة عقول قادرة على (الريادة الحضارية) في هدي من الوحي الشريف وتقدير لقيمة العقل، ولكي نكون جزءًا من تأسيس قيم التقدم في المجتمع رسموا لنا الطريق في ترتيب أولويات عقولنا فعلمونا بأن فقه الأولويات يقتضي أن يكون التعلم قبل التكلم، والحوار قبل القرار، وبناء الإنسان قبل البنيان، وبناء الساجد قبل المساجد، والإنارة قبل الإثارة، وأن التعايش والتفاعل والحوار أولى من التعصب والكراهية والصدام، وهكذا صاروا في صناعة العقول القادرة على البناء والتقدم، غير أننا نجد بعض الأئمة بعيدين كل البعد عن المنهج الوسطي، ولا يمت ما يعظون به إلى الفهم الصحيح للإسلام بصلة.
وفي هذا السياق رصد الصحفي شمس الحق، خطبة لإمام مسجد النور بمدينة "فينترتور"(Winterthur) بسويسرا دعا فيها صراحة لمقاتلة ما سماهم بالكفار، وبدوره كصحفي قام شمس الحق بإبلاغ الشرطة، فأتت الشرطة وتحققت من الأمر وأغلقت المسجد، حسبما ذكرت صحيفة "هوفنجون بوست" (HuffPost) في عددها الصادر يوم 18من نوفمبر 2018م.
وأثار الصحفي شمس الحق جدلًا إعلاميًا كبيرًا حول مسجد السلام بمدينة إيسن Essen في كتابه الجديد، الذي عنون له ب" قوانينكم لا تهمنا"، حيث إنه قال أنه يعتقد أن مسجد السلام يُعد من أخطر المساجد في ألمانيا، ونوَّه أنه يتم جمع تبرعات كثيره جدًا بعد صلاة الجمعة من كل أسبوع قد تصل إلى أكثر من 2000 يورو، ولا يُعرف فيما تُنفق هذه الأموال، حسبما ذكرت صحيفة "فاتس" WAZ" في عددها الصادر يوم 20 من الشهر الجاري، وشاطره هذا الاتهام صحفية مسلمة تسللت أيضًا داخل مصلى السيدات بمسجد السلام بمدينة إيسنEssen، وقالت أنه يتم التحريض ضد اليهود والنصارى في هذا المسجد، من جانبه نفى "محمد بوعمير"، إمام وخطيب مسجد السلام، في العدد نفسه، اتهام المسجد بأنه أصبح معقلًا للتطرف، قائلًا أن كل شيء في المسجد يقع تحت سيطرته، ولا يُدرس فيه إلا الإسلام الوسطي، أما إذا قام المتطرفون بغير هذا في منازلهم، فماذا عساه أن يفعل إذن؟
وتعليقا على هذا نرى أن غلق المسجد ليس حلاً ولكن الحل يكمن في تعليم الأئمة وتأهيلهم تأهيلًا علميًا على أيدي متخصصين في العلوم الإسلامية يُشهد لهم بوسطية منهجهم واعتدال فكرهم، ومن الجدير بالذكر أن الأزهر الشريف أعرب في كثير من اللقاءات الرسمية على المستوى الدولي عن استعداده التام للمشاركة في تأهيل الأئمة تأهيلًا علميًا صحيحًا قائم على ترسيخ قيم التعايش وحب الوطن والتفاعل الجاد في المجتمع والحوار البناء، ونبذ العنف والكراهية.

وحدة الرصد باللغة الألمانية

طباعة