"أمنيات".. جهاز "داعش" الاستخباراتي

  • | الجمعة, 18 يناير, 2019
"أمنيات".. جهاز "داعش" الاستخباراتي

   رغم الروايات المختلفة حول ظهور تنظيم "داعش" وصناعته، إلا أنَّ مؤسّسي التنظيم قد حرصوا منذ بدايته – كفِكرة- على حمايته من الاختراق، سواءً من قِبَلِ جواسيس أجهزة الاستخبارات الأخرى، أو جواسيس التنظيمات الإرهابية التي تنشط في المنطقة التي نشأ بها، أو من قِبَلِ الحكومة التي كانت تفرض سيطرتها على تلك المنطقة.
فكان لِزامًا على هذا التنظيم منذ نشأته وضع نواة لجهاز استخباراتي فعّال، يعمل في المقام الأول على وضع قواعد منظِّمة له، وفرز النشطاء والعسكريين الذين يسعون للانضمام إلى صفوفه. وفي المقام الثاني، يعمل على استطلاع البيئة الحاضنة له لجذب مؤيدين محليين، وتوفير الموارد المالية اللازمة لعملية ولادته، لبزوغه وسط بيئة خِصبة لانتشار الجماعات المسلحة المتطرفة. ويعمل في المقام الثالث على نشر فِكره وأيديولوجيته على المستوى الدولي؛ لجذب مؤيدين من مختلف الجنسيات، واكتساب طابع مختلف عن التنظيمات المتطرفة الأخرى، والتخطيط لهجمات إرهابية مُنظمة ومُوجَّهة لإرهاب الدول والمؤسسات الدولية؛ في محاولة عبثية منه للتأكيد على شرعية وجوده، وتوجيه رسالة إلى مؤيديه والمتعاطفين معه بأنَّه – وهو الذي يسعى منذ نشأته لأن يأخذ شكل دولة ذات مؤسسات- أقوى من كُبريات قوى العالم.
فبداية هذا الجهاز الاستخباراتي مع ميلاد التنظيم لم تكن للترفيه، بل كان لخدمة أهداف هذا التنظيم الإرهابي، وكأن نواة هذا الجهاز هم المؤسسون الفعليون من قادة التنظيم. ثم أخذ هذا الجهاز في التوسّع ليُلبي احتياجات نمو وتطوّر هذا التنظيم، لذا كان لِزامًا على المتصدين لــــ"داعش" أن يحاولوا الوقوف على حقيقة هذا الجهاز وطبيعته، ومن يقف وراءه، بيد أنَّ طبيعة هذا الجهاز كانت غامضة للغاية.
ولقد ظلَّت طبيعة هذا الجهاز محض تصورات، حتى سارعت أجهزة الاستخبارات العالمية، لا سيما أجهزة الاستخبارات الأوروبية، للبحث عن طبيعية هذا الجهاز، من خلال أجهزتها السِرية، ومن خلال شهادات الفارين من "داعش" أو المنشقين عنه. وفي المقابل عَمِلَ الجهاز الاستخباراتي الداعشي على تنفيذ مخططاته من خلال استغلال الثغرات الأمنية، واخفاقات تلك الأجهزة الاستخباراتية، ووضعها أمام تحدٍ كبير لإرهاق أجهزتها الأمنية والشُرطية.
ومن جانبها حرصت أجهزة الاستخبارات الفرنسية، والتي تعرّضت دولتها للنصيب الأكبر من هجمات "داعش" على القارة العجوز، على الوقوف على طبيعة الجهاز الاستخباراتي الداعشي، من خلال استجواب "المقاتلين الفرنسيين" العائدين من صفوف داعش، والذين تقلدوا مناصب رفيعة داخل هذا التنظيم، وهم كُثُر، فكان من بينهم "نيكولا مورو"، الشقيق الأكبر للفرنسي "فلافيان مورو"، ليكشف عن اسم جهاز الاستخبارات السِري لــــ"داعش" وهو "أمنيّات" " L'Amniyat". وأشار في شهادته إلى أنّ جهاز "أمنيّات" هذا هو الذي خطط من مدينة "الرِقة" معقل التنظيم في سوريا، لجزء كبير من الهجمات الإرهابية التي ضربت القارة العجوز، لا سيما في "فرنسا وبلجيكا".
كما سارع "ماتيو سوك"، الصحفي الفرنسي المتخصص في الجماعات الإرهابية، إلى تقصي حقيقة "جهاز داعش الاستخباراتي"، من خلال قراءة ملفات قضايا العائدين من "داعش" أو ذات الصلة خلال الأعوام الأخيرة، والوثائق التي نُشِرَت في هذا الصدد، ومن خلال إجراء مقابلات مع قضاة وخبراء ورجال شرطة وعملاء للمخابرات. ثم قام بتجميع ثمرة عمله في كتاب أسماه "جواسيس الرعب".
ويرى "ماتيو سوك" أنه "من المنطقي جدًا أن يكون لتنظيم "داعش" جهاز استخباراتي سِري، ولكن متى تم إنشاء هذا الجهاز؟ ومن يقف وراءه؟ من الصعب تحديد الشخص الذي يقف وراء إدارة هذا الجهاز، لكن هناك شخصيتان تفرضان نفسهما وهما: "عبد الحميد أباعود" الملقب بـ "أبي عمر"، و"حِجي بكر". فالأول كان العقل المدبر لهجمات "باريس" و"بروكسل"، لكن من وِجهة نظره يرى أنَّ المؤسس الرئيسي لهذا الجهاز هو "حِجي بكر"، العضو السابق في جهاز الاستخبارات العسكرية لـ"صدام حسين"، وهو الشخص الذي سيُصر على ضرورة إنشاء جهاز استخباراتي لفرض السيطرة على المزيد من الأراضي.
وأرجع "ماتيو سوك" تاريخ إنشاء هذا الجهاز إلى أغسطس 2014، أي بعد بضعة أشهر من إعلان الخلافة على لسان "أبو بكر البغدادي". وذكر "ماتيو سوك" أنّ فكرة إنشاء هذا الجهاز كانت من قِبَلِ "عبدالناصر بن يوسف"، وهو جزائري الأصل نشأ في "فرنسا"، وكان قائدًا لـ "كتيبة" من مقاتلي "داعش" في "سوريا"، وكان من بين أفرادها "عبد الحميد أباعود". ثم ذهبت قيادة هذا الجهاز الاستخباراتي إلى البلجيكي "أسامة العطار"، الذي وُصِفَ فيما بعد بأحد الرُعاة الرئيسيين لهجمات "باريس" الدامية، والتي وقعت في الثالث عشر من نوفمبر 2015.
كما أوضح "ماتيو سوك" أنّ السبب الرئيسي وراء إنشاء جهاز "أمنيات"؛ هو تجنب تسلل عملاء الاستخبارات الأجنبية وسط المقاتلين في "سوريا"، وإحكام السيطرة لمنع تسريب أيَّ معلومات عن التنظيم.
ومن واقع الهجمات الإرهابية التي أدمت القارة العجوز نُجزم أنه من الطبيعي أن يضم جهاز "أمنيّات" "وِحدة مخصصة للتخطيط للهجمات خارج الأراضي الواقعة خارج سيطرة التنظيم"، وتهتم هذه الوِحدة بتدريب وإرسال انتحاريين "فُرادى أو جماعات" إلى جميع أنحاء العالم، لاسيما "أوروبا"، لتنفيذ هجمات إرهابية، أو لتجنيد أعضاء جُدد، أو لجمع المعلومات أو المواد التي يستخدمها التنظيم في عملياته الإرهابية.
كما كشفت لنا هذه الهجمات الإرهابية أيضًا أكثر الخطط الإستراتيجية التي اعتمدت عليها "وِحدة الهجمات الخارجية" في تنفيذ هجماتها الإرهابية، والتي تتمثل في "الخلايا العنقودية" المرتبطة بالتنظيم، والتي تعمل كل خلية منها بمعزل عن الأخرى لإعاقة رصدها، أو في "الذئاب المنفردة" والذين يتم تجنيدهم من خلال دعوات فردية عبر وسائل التواصل الاجتماعي للأشخاص الذين تبدو عليهم علامات الاستعداد للتضحية بأنفسهم، أو من خلال التجنيد الذاتي للذئاب الذين يخشون وسائل التواصل؛ خوفًا من أن تكون مراقبة من قِبَلِ الأجهزة الأمنية، كما تتمثل الخطط الاستراتيجية في تجنيد "أصحاب السوابق الإجرامية" ممن ليسوا على دِراية بالإسلام.
ومما لا شك فيه أنّ أجهزة الاستخبارات الفرنسية قد خاضت مواجهة شرسة للتصدي لهذا الخطر الداعشي الذي يُهدد أمنها، وشنَّت حربًا ضروسًا سِرية من أجل القضاء على الإرهابيين الناطقين بالفرنسية، والذين لا يزالون ضمن صفوف تنظيم داعش، ولا يزالون يُشكلون تهديدًا حتي بعد سقوط التنظيم في "الموصل والرقة". حيث يقوم فريق من الخبراء الفرنسيين داخل مكاتبهم الموجودة في قلب مبنى "المديرية العامة للأمن الداخلي" (DGSI)، في "لوفالوا – بيري"، كل يوم بتقييم المعلومات التي يمكنهم جمعها حول "هؤلاء الفرنسيين". وتتلخص مهمته إجمالًا في "تحييد" هؤلاء الفرنسيين إما عن طريق "اعتقالهم" أو عن طريق "القضاء عليهم".
ويتكون هذا الفريق من (8) هيئات استخباراتية داخلية وخارجية، ويحمل اسم "اللات"، قياسًا على اسم أحد آلهة الجاهلية قبل الإسلام، والذي تم إنشاؤه  لاقتفاء أثر الإرهابيين الفرنسيين الذين غادروا أو عادوا من "سوريا والعراق". يعمل هذا الفريق بالتنسيق مع خلية أخرى مشتركة بين الوحدات، تحمل اسم حركي "هيرميس"، وتترأسها مديرية الاستخبارات العسكرية (DRM)، وتعمل في الخفاء، تحت اسم "مركز تخطيط وإدارة سلوك العمليات" (CPCO)، في المبنى الجديد لوزارة الدفاع الفرنسية "Balardgone"، حيث يقوم الفريق بإعداد "ملفات استهداف" وعرضها على هيئة أركان الجيوش الفرنسية.
ومن بين (1700) فرنسيًّا مدرجة أسماؤهم في ملفات فريق "اللات"، هناك أكثر من (300) فرنسيا عادوا بالفعل إلى فرنسا ويتم متابعتهم، وهناك ما لا يقل عن (300) فرنسيًّا قد قُتلوا في "العراق وسوريا"، بالإضافة إلى أقل من (100) فرنسي تم اعتقالهم وسجنهم هناك.
ومن جهة أخري حرصت أجهزة الاستخبارات الفرنسية على جمع المعلومات والدلائل والقرائن حول هذا التنظيم الإرهابي ومُناصريه، وعناصره الذين تمكنوا من التسلل إلى التراب الأوروبي، وتحليلها للكشف عن التهديدات الإرهابية التي تؤرّق الأمن الفرنسي الداخلي والخارجي، وإحباط العمليات الإرهابية قبل وقوعها، لأنَّ كل هجوم يقع على الصعيد الفرنسي دليل على إخفاق أجهزة الاستخبارات في التصدي لهذا الإرهاب الغاشم.
فمنذ نوفمبر 2013، بفضل عمل أجهزة الاستخبارات، تم إحباط حوالي (55) مشروعًا لهجوم إرهابي على الأراضي الفرنسية، من بينهم ستة هجمات خلال عام 2018. فعلى سبيل المثال، واحدة من تلك الهجمات الستة التي تم إحباطها، تم التوصل إليها من خلال مداهمة أحد المنازل من قِبَلِ قوات مكافحة الإرهاب، والاستفادة الفورية من تحليل العناصر التي تم جمعها خلال المداهمة.
لذا يجب أن تتكاتف كافة الدول المعنية وأجهزتها الاستخباراتية والأمنية لوضع إستراتيجية واضحة لتطوير منظومة مكافحة الإرهاب، لتجنب وجود الثغرات الأمنية التي قد تستغلها التنظيمات الإرهابية لنشر الرعب والذعر بين الأبرياء. وكذلك يجب التأكيد على ضرورة تبادل المعلومات بشأن الأشخاص الذين يمثلون خطرًا على الأمن العام، والتحديث المستمر لقاعدة بيانات الأجهزة الاستخباراتية، وتوفير الموارد المالية والبشرية للأجهزة الأمنية والاستخباراتية.


وحدة الرصد باللغة الفرنسية

 

طباعة