حرية الاعتقاد في ضوء وثيقة الأخوة الإنسانية

  • | الأربعاء, 13 فبراير, 2019
حرية الاعتقاد في ضوء وثيقة الأخوة الإنسانية

     إنه بحقٍّ لَحدثٌ تاريخي، المؤتمر الذي جمع بين إمام المسلمين وبين بابا الفاتيكان، رأس الكاثوليك؛ كي يؤكدا سويًّا على احترامهما الآكَد للسلام ومبادئه، وعلى ضرورة العَيش المُشترَك في ضوء الأخوة الإنسانية، بعيدًا عن أيّ نوعٍ من أنواع التعصب أو التفرقة على أساس اللون أو العِرق أو الدين، والحق أن هذه الوثيقة التي وصفها الإمام الأكبر بالتاريخية قد اشتملت على العديد من المبادئ المهمة والضرورية، التي عليها قِوام الحياة وصلاحها وإعمارها، لكن أبرز تلك المبادئ "الحرية".  
نصّت الوثيقة على "أن الحرية حق لكل إنسان: اعتقادًا وفكرًا وتعبيرًا وممارسةً، وأن التعددية والاختلاف في الدين واللون والجنس والعِرق واللغة حكمةٌ لمشيئةٍ إلهية، قد خلق اللهُ البشرَ عليها، وجعلها أصلا ثابتًا تتفرّع عنه حرية الاعتقاد، وحرية الاختلاف، وتجريم إكراه الناس على دينٍ بعينه، أو ثقافةٍ مُحَدَّدةٍ، أو فرض أسلوبٍ حضاريٍّ لا يقبله الآخَر."
والمتأمّل لهذا النص يجد أنه يتوافق بالكلية مع الشريعة الإسلامية، التي أَعْلَتْ من مبدأ الحرية، وجعلتها شعارًا لها وطريقًا يسير في دَربه أتباعُها، مؤمنةً في الوقت ذاتِه بأن الاختلاف بين البشر في الدين لم يكن - ولن يكونَ بحالٍ- سببًا للتخاصم والتناحر بينهم.
أما الإسلام، فهو يؤمن أن الله قد خلق البشر كلهم سواسية في نشأة التكوين، فهم جميعهم أبناء آدم وحواء -من التراب مبتدأهم وإليه منتهاهم ومآلهم- ثم يخبرنا القرآن -المصدر الأول للتشريع في الإسلام- أن اختلاف الألسن واللون والعِرق والجنس، بل والدين، من سُننه الفاعلة في الكون والدالة على طلاقة قدرته سبحانه وتعالى، فقال: "وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ" (الروم:22)، وهو ما يؤكده قوله تعالى: "ولَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ" (هود:118) بل ويُقَرِّر أيضًا أنه لو شاء لجعَل جميعَ البشر مؤمنين، فقال: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" (يونس: 99)
إذا جمعنا كل هذه النصوص سويًّا وقرأناها بتأنٍّ وإمعانٍ في ضوء السيرة النبوية وفِعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ لتَبَيَّنَ لنا بما لا يَدَعُ مجالًا للشك أن الدين لم يكن أبدًا السببَ وراء النُّعَرات الطائفية والتشرذمات الحزبية، وأنه مِن كل الحروب التي ارتُكبت- خطأً- باسمه بَراء؛ فلم نقرأ في سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم ولم نُطالِع في سنته أنه شَنّ حربًا على غيره بسبب اختلاف الدين، وإنما بسبب تَعَدٍّ أو ظلمٍ أو نقضِ عهدٍ قام به الطرف الآخَر ضد المسلمين، إذ كيف له صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك، وقد وجّهه القرآن بأنه لا إكراه في الدين، وأن الدعوة إلى الله تكون بالحكمة والموعظة الحسنة.
إن الحق الذي لا مِراء فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أكد على هذا المبدأ، حين سمح لوفد نصارى نجران أن يقيم صلاته في مسجده صلى الله عليه وسلم؛ إننا لنعجب كلّ العجب من هؤلاء الذين يُحَرّمون تهنئة إخواننا من النصارى بأعيادهم؛ بدعوى أننا بذلك نُقِرّهم على مُعتقَدهم، في الوقت الذي أحلّ لنا القرآنُ الكريم فيه الزواجَ منهم والأكلَ من طعامهم ومن ذبائحهم.
بل أَرْوَع من ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لم يقتل المشركين الذين أخرجوه من داره ووطنه إلى بلدٍ آخَرَ حين مَكّنه الله منهم، بل أعطاهم الأمانَ، ولم تنقل لنا كتب الأخبار ولو خبرًا واحدًا عن أنه صلى الله عليه وسلم قد أجبر أحدًا على اعتناق الإسلام.
وعلى الرغم من أن هذه الحرية قد كفلها الإسلام لجميع البشر، بل وبَيَّنَ أن الله سبحانه هو مَن سيُحاسِب الناسَ ويَفصل بينهم يوم القيامة؛ فإن بعض الجهلة ممن يقومون بتأويل النصوص الدينية على غير ما أنزلَ اللهُ، يتخذون اختلافَ الدين ذريعةً لترويع الآمِنين ونهب ممتلكاتهم وسفك دمائهم، ويَخالون أنهم بذلك على الصراط المستقيم، مُتَناسين أو جاهلين بالحُكم الشرعي حول الإحسان إلى غير المسلمين، الذين لم يعتدوا علينا ولم يُخرِجونا من بيوتنا.
وأخيرًا؛ نؤكد على أن هذه الوثيقة تُحَقِّق مَقاصِدَ الإسلام، وتُلَبّي حاجةً من حاجات بني البشر، فليس الدين هو الرابط بين الناس جميعًا، بل هي الأخوة الإنسانية التي أوضحها القرآن في قوله تعالى "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (الحجرات: 13)


وحدة الرصد باللغة الإنجليزية

 

طباعة