قراءةٌ في وثيقة الأُخوّة الإنسانية.. "الإمام الطيب والسَّير على خُطى النبي صلى الله عليه وسلم"

  • | الخميس, 7 مارس, 2019
قراءةٌ في وثيقة الأُخوّة الإنسانية.. "الإمام الطيب والسَّير على خُطى النبي صلى الله عليه وسلم"

     من جديدٍ، يثبت الأزهر الشريف وعلماؤه أنهم أكثر الناس فهمًا لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ثَمّ الأجدر بحمل راية الإسلام والتجديد في زمنٍ قلَّ فيه العلماء الأثبات، وساد فيه أنصاف المُتعالِمين.

يضرب الأزهر الشريف من خلال مواقفه جميعها أروعَ الأمثلة؛ فهمًا وعملًا، في تطبيق سنة النبي صلى الله عليه وسلم، غاضًّا الطَّرْفَ عن التُّرَّهات والسَّفاسِف التي يُرَوِّج لها هؤلاء الذين يكرهون الخيرَ للبشرية، ممن لا يريدون لهذا العالم أن يَسودَه الأمانُ والاستقرار.

إن القراءة الأولى لوثيقة "الأُخوّة الإنسانية"، التي وقّعها الإمام الطيب مع بابا الفاتيكان، تُثبِت ــ بما لا يساوره نزعةٌ من شَكٍّ ــ أن "الطيب" ماضٍ في طريقه بثباتٍ على نهج الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، فما وثيقةُ الأُخوّة الإنسانية إلا تجسيدٌ ومثالٌ واقعيّ حيٌّ لدستور المدينة، الذي عقَده الرسول صلى الله عليه وسلم مع يهود المدينة، وقبائلها، لا لشيءٍ إلا من أجل أن تَنعمَ المدينة بالأمن والاستقرار، وأن تَسودَها رُوح المحبة والأُخوّة الإنسانية، بعيدًا كلَّ البُعد عن التفرقة الدينية البغيضة التي يَمقتها الإسلام ولا يعرفها.

يقول ابن إسحاق ــ رحمه الله ــ عن دستور المدينة – أو: صحيفة المدينة ــ حسَبَ ما يحب بعض المؤرخين تسميتَها: «كتَب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابًا بَيْنَ المهاجرين والأنصار، وَادَعَ فيه يهودَ وعاهدهم، وأقرَّهم على دينهم وأموالهم، وشرَط لهم واشترط عليهم: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتابٌ من محمدٍ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم، فلحق بهم، وجاهد معهم؛ أنهم أُمَّةٌ واحدة مِن دون الناس»، ثم نَصَّ الدستور بعد ذلك على أنَّ «لليهود دينُهم وللمسلمين دينُهم...».

إن المتأمّل لهاتين الفِقرتين يجد أنهما يحويان كلَّ المُثُل العُليا التي تضمّنتها وثيقة الأُخوّة الإنسانية، فحينما تقول الوثيقة: "أُمَّةٌ واحدة"، فهل يقول متقوّل: إنها تعني غيرَ الأُخوّة الإنسانية؟!.. الأمر الذي يُعَضّده قولُه صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: «لليهود دينُهم وللمسلمين دينهم..»، ما يعني بجلاءٍ ووضوحٍ: أن اختلاف الدين لا يمكن أن يكون بحالٍ مُسَوِّغًا أو مُبَرِّرًا لحالة التشرذُم التي تَعتري العالمَ في هذه الآونة.

وحينما نقرأ نَصَّ وثيقة الأُخوّة الإنسانية؛ نجد فيها هذا المعنى الذي اشتمل عليه دستور المدينة، "باسم (الأخوة الإنسانية) التي تجمع البشر جميعًا، وتوَحّدهم، وتُسَوّي بينهم"، ثم تؤكد الوثيقة بعد ذلك أن التعددية الدينية أمرٌ بَدَهيٌّ وناموسٌ من نواميس الكون التي نَصّ عليها القرآن، حين قال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [سورة يونُس:99]، حيث تقول: «إن الحرية حقٌّ لكلّ إنسان؛ اعتقادًا وفكرًا وتعبيرًا ومُمارَسةً، وأن التعددية والاختلاف في الدِّين واللون والجنس والعِرْق واللغة حكمةٌ لمشيئةٍ إلهية، قد خلَق اللهُ البشرَ عليها، وجعَلها أصلًا ثابتًا تتفرّع عنه حرية الاعتقاد وحرية الاختلاف وتجريم إكراه الناس على دينٍ بعينه أو ثقافةٍ مُحَدَّدةٍ، أو فرض أسلوبٍ حضاريٍّ لا يقبله الآخَر».

إنه اتفاقٌ جليٌّ وواضح مع مواد دستور المدينة؛ من حيثُ: إعلاءُ مبادئ الأخوة الإنسانية، والتسامح، والعَيش المُشترَك والعدل والرحمة فوق غيرها من المبادئ الزائفة للحضارة الحديثة، التي لا تعرف غيرَ القتل والتدمير والتخريب.

فإنْ تَخَرَّصَ مُتَخَرِّصٌ وتَجَرّأ على هذه الوثيقة بأنها تُخالِف الدينَ الإسلاميّ، زاعمًا أنها توادِع غيرَ المسلمين؛ قلنا له: وما بالك بفِعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألم يوادِع يهودَ المدينة؟ فإن قال: لكنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم عقَد هذه المعاهدةَ حين كانت دولة الإسلام ضعيفة، وعندما قويت أجلاهم؛ قلنا له: أنت بذلك تتهم الرسول الأمينَ صلّى الله عليه وسلم ــ حاشاه ــ بأنه قد وادَعهم حتى تَمَكَّنَ منهم، بمعنى: أنه قد غدر بهم، وهو القائل صلى الله عليه وسلم: «ما كان لنبيٍّ أن تكونَ له خائنةُ الأَعْيُن»؛ ألا تراه قد حرَّم حتى الخيانة في النظرة، فما بالنا بالفعل! إنما كان إجلاؤهم وإخراجهم؛ لأنهم تآمروا عليه، ونقَضوا هذا الميثاقَ بينهم وبينه.

وعليه؛ نستطيع أن نُقَرِّرَ بجلاءٍ، بعيدًا عن المغالاة والتحيُّز؛ أن الأزهر يَبقى الحصنَ المَنيع الذي يَذُبُّ عن حياض الإسلام كلَّ الشُّبَه والأباطيل؛ هو المَعين الذي يُستقى منه صحيحُ الدين؛ هو المَنارةُ التي تعمل على إنارة وتثقيف الناس؛ حتى يعيشوا مع بعضهم البعض أُمّةً لا يُفَرِّقها الدينُ أو اللَّون أو الجِنس أو العِرْق؛ لَزِمَ إمامُه وعلماؤه غَرْزَ النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يُغَيِّروا ولم يُبَدِّلوا.. فكان مِن نِتاج عملهم الجهيد هذه الوثيقةُ التي هي بَحَقٍّ شرفٌ لكلّ مَن شارَك فيها وعمل على إصدارها.

 شكَرَ اللهُ لكم سيدي.. إمامَ المسلمين.

وحدة رصد اللغة الإنجليزية

 

 

طباعة