الحجاب في ألمانيا بين الحظر القانوني والحرية الدينية

  • | الأربعاء, 13 مارس, 2019
الحجاب في ألمانيا بين الحظر القانوني والحرية الدينية

     حظيت المرأة بعناية فائقة في الإسلام بما يصون عِفَّتَها، ويحفظ كرامتها، ويجعلها عزيزة الجانب، سامية المكانة، ولم تكن الضوابط التي فرضها عليها في ملبسها وزِينتها وعلاقتها بالرجال إلا لسدِّ ذريعة الفساد وتجفيف منابع الافتتان بها، إذ المقصد الأعلى الذي يريد أن يحققه الإسلام من خلال نظامه الاجتماعيِّ هو صون الأعراض وكبح جماح الشهوات، وترويضها وضبطها وتقييدها بضوابط أخلاقية تضمن استعمالها في خير الإنسان وطهارته.
ولمَّا كان الحجاب أحد التشريعات الإسلامية التي توخَّت حفظ كرامة المرأة من مشاعر الامتهان، وتحصين أنوثتها من مرامي العابثين، كان ارتداء الفتاة المسلمة للحجاب إعلانًا للعالم أجمع أنّها فتاة تعظِّم شأن دينها، وتحترم أمر ربِّها، ودلالات النصوص تعزل الحجاب عن أن يكون علامة تمييز دينية أو غيرها، فهو تشريع يساعد على ضبط الأخلاق في المجتمع، ويستند إلى فلسفة العفاف في الإسلام.
فالحجاب لفظٌ ينتظم جملة من الأحكام الشرعية الاجتماعية المتعلقة بوضع المرأة في المجتمع من حيث علاقتها بمن لا يحل لها أن تُظهر زينتها أمامه، ومن هنا ندرك تمسُّك المواطنات المسلمات بارتدائهنَّ الحجاب، غير أنه في كل مرحلة من المراحل تطفو تلك القضية على السطح من جديد، وتثار من قبل جهات مختلفة، وتكون المدخلَ الذي يحاول أن يلج خصوم الإسلام  منه إلى طرح قضايا عدة تخص المسلمين، وإثارة إشكالات متنوعة تزيد من وتيرة الجدل حول تحقيق الاندماج في المجتمع.
وتتخذ الهجمة على الحجاب طرائق مختلفة، فقد أصبح في السنوات الأخيرة رمزًا للإسلام في ألمانيا وموضوعًا يُطرح للنقاش كثيرًا، وتسبب في مناقشات حادة بشأن موضوع الاندماج، وتتعالى على نحو متزايد أصواتٌ تدعو إلى حظر ارتداء الحجاب في ألمانيا، حتى أقدمت ثمان ولايات ألمانية من الولايات الـستة عشر، على فرض حظر ارتداء الحجاب للمعلمات في المدارس الحكومية، وتشمل معظم قوانين الحظر الرموز الدينية -باستثناء رموز التراث المسيحيِّ أو اليهودي- لكنَّ المحكمة الدستورية العليا الألمانية أصدرت عام 2015، قرارًا يعتبر الحظر العام لحجاب المعلمات في المدارس مخالفًا للدستور؛ لأن المنع يتعارض مع الحرية الدينية.
 ورغم قرار المحكمة الدستورية بإلغاء حظر الحجاب على المعلمات، إلا أنه ما زال هناك من ينادي بحظره عمومًا، ولم يتوقف الأمر على هذه النداءات بل أخذ الأمر منحىً عنصريًّا بشعًا، ففي الأيام القليلة الماضية زادت وتيرة العنف والاعتداءات العنصرية والإهانات تجاه المواطنات المسلمات في ألمانيا، ففي قلب العاصمة الألمانية تعرَّضت بعض المواطنات المسلمات لعدة اعتداءات عنصرية، وإهانات لفظيَّة من قبل بعض الألمان لارتدائهن الحجاب، حيث يُذكر أنَّ الشرطة الألمانية فتحت تحقيقًا في حادثتي اعتداءٍ عنصري ضد مسلمات محجبات شهدتها العاصمة الألمانية "برلين"، والتي استهدفت ثلاث محجبات بينهنَّ فتاتان سوريتان، وطفلة في الثانية عشرة من عمرها.
 وبعد أن كان الحديث عن حظر الحجاب يدور في المؤسسات التعليمية فحسب، تطور الأمر الآن وألقى بظلاله ليصل إلى الأماكن العامة أيضًا، ولا سيما أماكن البيع والشراء، حيث قام اثنان من روَّاد متجر لبيع المواد الاستهلاكية بتسجيل شكواهما في رسالة لصاحب المتجر، الذي يدعى "بلال ميرت"، حيث انتقدا السماح بتوظيف سيدتين ترتديان الحجاب في المتجر، مدَّعين أن ارتداء الحجاب لا يناسب المجتمع الألماني حاليًا، ولهذا السبب شعرا بعدم الارتياح، على الرغم من أن السيدتين تعملان في المتجر منذ سنوات، ولم يصدر عنهما شيء يزعج العملاء، بل كانا يتعاملان مع المترددين على المتجر بذوق ولطفٍ؛ لذا لم يتفهم صاحب المتجر هذه الشكوى.
وبدوره يثمِّن مرصد الأزهر لمكافحة التطرف احترام صاحب المتجر للحرية الدينية والشخصية، طالما لم يصدر عن الشخص أذى للآخر، مؤكدًا أن الحجاب لا يعيق المرأة المسلمة عن القيام بمهام وظائفها الموكولة إليها، ولا يمنع الطالبة المسلمة من الدراسة، مشيرًا إلى أن المحجبات في المدارس الألمانية يدرسن جنبًا إلى جنب مع غير المحجبات، ويشاركن في مختلف النشاطات التي تنظمها المدارس، وبالتالي يمارس المحجبات في ألمانيا مهنًا مختلفةً منها التدريس، ويمارسن الأنشطة الرياضة المختلفة.
ويشيد المرصد بتضامن الرئيس النمساوي السيد/ "ألكسندر فان دير بيلين" مع المواطنات المسلمات، حيث قال: "إنه قد يأتي يوم يطلب فيه من النمساويات ارتداء الحجاب تضامنًا مع المسلمات، إذا استمرت حملة الإسلاموفوبيا في بلاده"، ويؤكد المرصد أن هذه التصريحات الناقدة للخوف المستشري من الإسلام في النمسا أرسلت إشارة مهمة للمواطنين تحثهم على مكافحة التمييز والعنصرية ضد المسلمين، التي أصبحت مقبولة اجتماعيًّا في أوروبا.
ويشدد المرصد على أهمية مؤازرة ضحايا العنصرية فوق الأراضي الألمانية، ودقِّ ناقوس الخطر بسبب تزايُد العنف ضد مواطنات مسلمات هناك، مطالبًا المجتمع الألماني بالوقوف صفًّا واحدًا ضد العنصرية وكافة أنواع التمييز، وعدم السماح للتيارات المتشددة داخل وخارج البرلمانات أن تُعيد البلد إلى الحِقَب الظلامية السوداء من التاريخ الألماني.
ويدعو المرصد المجتمعات الأوروبية إلى مواجهة جميع أشكال العنصرية ومظاهر "الإسلاموفوبيا" التي انتشرت في عدد من المدن الغربية، بالطرق السلمية المسموح بها، لا سيما وأن هذه العنصرية باتت تنتشر في شكل اعتداءات لفظية وجسدية تستوجب المواجهة الأمنية والمساءلة القانونية، مهيبًا بتلك المجتمعات عدم الانسياق وراء هذه الدعوات التي تتعارض وما وصل إليه المجتمع من تقدم، كما يقترح المرصد في هذا الصدد تنظيم دورات تثقيفية تعمل على غرس روح المواطنة وقبول الآخر، واحترام حقوق الإنسان، وحماية الحريات الدينية، والتعددية الفكرية، وتعزز من دور الاندماج في المجتمع، وتُعلي من قيم التعايش والتسامح بين أفراده.

 

طباعة