ما بين العالم والمُتَعالِم.. من يُستقى منه العِلم؟

  • | الجمعة, 15 مارس, 2019
ما بين العالم والمُتَعالِم.. من يُستقى منه العِلم؟

     أحاط الإسلام التعليمَ بعنايةٍ فائقة؛ فالقرآنُ الكريم، وهو المصدر الأول للتشريع، قد افتُتح بالدعوة إلى القراءة والتعليم، مُبَيِّنًا بجلاءٍ ووُضوحٍ تامَّين أنَّ لأهل العلم منزلةً وفضلًا يَسمون بهما على غيرهم من البشر، حتى العُبَّاد الذين يجتهدون في العبادة، ومِن هنا بَيَّنَ الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن طلب العلم فريضةٌ على كلّ مسلمٍ ومسلمة، وأنّ العالِم يستغفر له كلُّ مَن في السموات والأرض حتى النمل في جحوره والسمك في الماء، وأن الملائكة تَضَعُ أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع، وأن طالب العلم له أجرُ المجاهد في سبيل الله، إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في فضل العلم، والتي تَحُثُّ المسلمين على طلبه.
ولكن يبقى التساؤل الأهمّ حول مَن يُستقى منه هذا العلم؟ أو بمعنًى آخَرَ: ممّن يُطلب هذا العلم الذي به صلاح الإنسان وعمران الأرض؟
ينبغي هنا أن نُفَرِّقَ بين نوعين من العلوم: العلوم الشرعية، والعلوم الطَبَعيّة الحِكميّة؛ فالعلوم الشرعية مدارها على النقل، بمعنى: أنها قد نُقلت إلينا جيلًا عن جيلٍ إلى أن وصلت إلينا كما بلَّغها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ربه، وأما العلوم الأخرى فمدارها على التجرِبة والمشاهدة والاستنتاج.
ويحتاج الإنسان في حياته لكلا النوعين من العلوم، فبهما استقامة حياته، وبقاء جنسه في ضَوء القواعد والمصالح التي وضعها الشارع الحكيم؛ من حفظ النفس والدِّين والمال والعِرض والعقل، بما يكفل للجميع حياةً آمنةً مطمئنةً، بعيدةً كلَّ البُعد عمّا يُنَغِّص العَيش أو يَجلب الكَدَر.
ورجوعًا إلى السؤال المطروح حولَ مَن يُستقى منه العلم بنوعيه؛ فنقول: إن لكلّ علمٍ من القواعد والأصول ما يجب على طالب العلم أن يَعيَهُ بشكلٍ تامّ؛ حتى يكونَ مؤهَّلًا لسَبْر أغواره وخَوْض غماره.
 ونحن هنا حقًّا لا نُفَرِّق في هذه الناحية بين العلوم الشرعية والعلوم الطَّبَعيّة؛ فالخطر الناجم عن التناوُل الخاطئ لكلّ واحدٍ منهما أشدُّ ما يكون على بني الإنسان إذا ما تَسَبَّبَ في إلحاق الضرر بالبشر، وإذا ما أردنا أن نُقَرِّبَ الصورةَ في الأذهان؛ فَلْنَعْقِدْ المقارنة بين ما يقوم به تنظيم "داعش" من إرهابٍ يُمارِسه باسم الدين، قُتلَ  بسببه الآلاف من الأبرياء، وشُرِّد آخرون وهُجِّروا من دُورهم، فأفقرهم وأحوَجهم، وروَّعهم وتركهم بلا مأوى، وانظر إلى ما فعلته الحضارة الحديثة القائمة على مُكتسَبات العلم الحديث في الإنسان، وتأمَّلْ ضحايا الحروب التي وقعت في هذه الحِقبة من الزمان، فضغطةُ زِرٍّ واحدة بإمكانها أن تقتل مئات الألوف من البشر، إن لم يكن الملايين، ومن خلال ذلك يتبيّن لنا أنَّ كلا النوعين قد يَنجُم عن سوء توظيفه خطرٌ عظيمٌ يَحيق بالبشرية جمعاء.
بَيْدَ أنَّنا في هذا الطرح بحاجةٍ إلى أن نؤكد أمرًا مُهِمًّا؛ هو أنَّ النَّوع  الأول من العِلْمين هو الذي يَكبَحُ جِماحَ الثاني ويردعه، فهؤلاء الذين ارتكبوا هذه المجازر الشنيعة في  حقّ ملايين الأبرياء من البشر ما كان لهم أن يفعلوا ذلك لو علموا كيف أنَّ الأديان قد كفلت حقَّ الحياة للنفس البشرية، وحرَّمت إزهاقها بغير حقٍّ، وهنا نقول بجلاءٍ: إنها واحدةٌ من اثنتين؛ إمَّا أن يكون هؤلاء الذين قاموا بهذه المَجازِر قد اعتمدوا على فهمٍ خاطئ لنصوص الدِّين، وانطلقوا من فتاوي ردَّدها عليهم قادتُهم جهلًا عن عمدٍ أو غير عمدٍ، أو أنهم من الأساس لا يتبعون الأديان ولا ينطلقون من مُعطَياتها.
فأمَّا فهْم النصوص الدينية على غير وجهها الصحيح وإسقاط الدليل الشرعي في غير مَناطه؛ فتلك آفةٌ كُبرى ورَزيَّةٌ عُظمى، يضيع معها الحق، وقد نبَّه الرسول الأكرم -صلى الله عليه وسلم-  إلى هذا الأمر، حين أمر بنقْل العلم مُبَيِّنًا السبب، فقال: «فرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعى من سامعٍ»، بل حذَّر الرسول من مُدّعي العلم فقال: «يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ أَحْدَاثُ الأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الأَحْلاَمِ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَقُولونَ مِنْ قَوْلِ خَيْرِ البَرِيَّةِ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ».
ولا شَكَّ أنَّ مدّعي العلم هم الأشدُّ خطرًا على الناس؛ إذ إنهم يُحَلِّلون ما حرَّم اللهُ، ويُحَرِّمون ما أَحَلَّ الله، فيُخادِعون أتباعَهم ويوردونهم مَوارِدَ الهلاك، لا لشيءٍ إلا لتحقيق مَكاسِبَ خاصّةٍ، وتنفيذ أجنداتٍ مُعَيَّنة، تَجلب الهلاكَ والدمار للعباد والبلاد.
 ويبقى الالتفاف حول العلماء العاملين ودعاة الخير المخلصين سبيلًا من سُبُل النجاة في خِضَمّ هذه الحياة التي تموج بالفتن مَوجًا، تلك الفئة الموَفَّقة هي التي قال عنها  الرسول الأعظم -صلّى الله عليه وسلم-: «يَحمِل هذا العِلمَ من كل خَلَفٍ عُدولُه، يَنفون عنه تحريفَ الغالين وانتحالَ المُبطِلين وتأويلَ الجاهلين»؛ فبَيَّنَ أن الراسخين في العلم من العلماء سيكونون في كل عصرٍ ومِصرٍ حِراصًا على هذا الدِّين، يؤدّون الأمانة، ويحفظون للناس أصول الديانة، ويَنفون عن الدِّين  كلَّ تحريفٍ قام به هؤلاء الغُلاة وغيرُهم من الجُهّال وأنصاف المتعلمين.
وتبقى مسئولية اختيار مَن نَستقي منهم هذه العلومَ مُلقاةً على عاتق الوالدين فترةَ الصِّغَر؛ فهما مَن يختاران لأولادهما مَن يؤدّبهم ويقوم على تعليمهم، فإذا لم يقوما بهذا الواجب فلا عجبَ مِن أن يَشِبَّ الطفل وقد حاد عن جادّة الصواب وضَلَّ طريقَ الحق، وابتعد عن المنهج السديد، أمَّا إذا تَرَبّى منذ صغره على منهجٍ سديدٍ بفهمٍ صحيح، فلا غَرْوَ أن ينشأ على المحبة والتسامح، وقَبول الآخَر، ونشر ثقافة السلام، والسعي إلى إعمار الأرض، التي هي رسالة كل الديانات؛ قال الإمام الغزاليّ -رحمه الله-: «قلبُ الطفل جَوهرةٌ نفيسة ساذَجةٌ خاليةٌ عن كلّ نَقْشٍ وصورة، وهو قابلٌ لكلّ ما نُقِشَ، ومائلٌ إلى كلّ ما يُمال به إليه».
فإذا كان تنظيم "داعش" الإرهابي وغيره من جماعات التكفير والظلام قد تنبّهوا لهذا؛ فأخذوا يُعِدُّون الناشئة من أبناء المُنتَمين للتنظيم، أو ممّن اختطفوهم من ذَويهم، على القتل والتخريب والدمار، ويَغرِسون في عقولهم كلَّ ما هو قبيحٌ، يُخالِف الدينَ وثَوابِتَه، أليسَ مِن الأَوْلى بأهل الحقِّ أن يَفطنوا لذلك؟ بأن يَختاروا لأبنائهم مَن يقوم على رعايتهم وتعلميهم وغرس العلم الصحيح في قلوبهم وعقولهم، وأن يتعهّدوهم بالنصح والإرشاد في كلّ حينٍ، بمُقتضى الأمانة المُلقاة على عاتقهم؛ لقَوْل النبي -صلّى الله عليه وسلم-: «كلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسئولٌ عن رَعيَّته».

وحدة رصد اللغة الإنجليزية

 

طباعة