الإرهاب واستهداف دُور العبادة

  • | الإثنين, 18 مارس, 2019
الإرهاب واستهداف دُور العبادة

أَضْحَتْ خطورة الإرهاب واقعًا مفروضًا، لا حالةً وقتيّةً طارئة، ولا يَخفى على أحدٍ أن الإرهاب له أهدافٌ متعدّدة؛ منها: السياسية والاقتصادية، وقد تُحَرِّكُه عنصريةٌ بغيضة أو كراهيةٌ مسمومة ضد ديانة أو هُوِيَّة أو عِرقٍ بعينه، وأهمّ ما نَوَدّ أن نؤكّد عليه هنا: هو أن هذا الطاعونَ لا يُفَرِّق في استهدافه للأبرياء والعُزل بين أتباع الديانات، سواءٌ أكانوا من المسلمين أم غيرهم؛ بل إن أغلب الضحايا الذين سقطوا إثرَ هجماته - وبخاصّةٍ في منطقة الشرق الأوسط - كانوا من المسلمين.
ولم يقتصر جُرم هذه الجماعات الإرهابية على البشر فحسب، بل طال كلَّ شيءٍ، حتى بلغ الأمرُ مَداه، حينما قرّرت استهدافَ دُور العبادة الآمنة؛ فراح عناصرها يُنَفِّذون أعمالَهم الوحشية ومَجازِرَهم التي تقف من الرحمة والإنسانية موقف النقيض، والغريب أن استهداف الإرهابيين لدُور العبادة لم يكن وَليدَ اللحظة، بل هو واحدٌ من أهمّ إستراتيجياتّهم التي يَرَوْنَ فيها أنّ مَن يُخالِف أفكارهم ينبغي قتلُه والتنكيل به؛ ليكونَ عبرةً لغيره.
أمّا استهداف الإرهاب لدُور العبادة على اختلاف عقائدها فهو أمرٌ واضحٌ للجميع؛ فلقد فَتَكَتْ يدُ الإرهاب الغاشم بالمُصَلّين في شَتّى دُور العبادة الإسلامية والمسيحية وغيرها، وسنَعرِض فيما يلي أبرزَ الهجمات الإرهابية التي استهدفت دُورَ العبادة خلال الفترة الأخيرة.
أوّلًا: المساجد:
شهدت المساجدُ سلسلةً من الاعتداءات الإرهابية، كان أولها في الثاني والعشرين من أغسطس لعام 2014م، عندما تَعَرّض مسجد "مُصعَب بن عُمَير"، التابع للسُّنّة في العراق، لهجومٍ، أسفر عن مقتل 70 على الأقل وإصابة آخَرين، ومنذ ذلك الحين بدأت تتوالى الهجمات الإرهابية على المساجد؛ فقد شهدت ليبيا في الثالث والعشرين من يناير 2018، بمنطقة "السلماني الشرقي" التابعة لمدينة "بنغازي"، هجومًا مُزدَوَجًا لسيارتين مُفَخَّخَتَيْنِ أمام مسجد "بيعة الرضوان"، أسفر عن مقتل 40 شخصًا وعشرات المصابين، وفي التاسع من فبراير من العام ذاتِه انفجرت قنبلتان في مسجد "سعد بن عُبادة"، في مدينة "بنغازي" شرقي البلاد، أثناء صلاة الجمعة، ووَفقًا لما ذكرته مَصادِرُ أَمنيّةٌ؛ فإن العَبْوَتَيْنِ الناسفتين قد وُضِعتْ إحداهما داخل نَعشٍ بباحة المسجد، والثانية عند مدخله في خزانة الأحذية.
ومن الواضح أنّ الجماعاتِ الإرهابيّةَ تَتَوَجّه إلى استهداف المساجد يوم الجمعة على وجه الخصوص؛ بغيَةَ إسقاط أكبرِ عددٍ ممكن من الضحايا.
ولم يَكُنْ هذا الأمرُ بالغريب على هذه الجماعات الخسيسة، ففي مصرَ، وتحديدًا في الخامس والعشرين من نوفمبر لعام 2017م، استُهدف مسجدٌ بشمال سيناء، أثناء تأدية المُصَلّين شَعائرَ صلاة الجمعة؛ أسفرَ عن سقوط العشرات من الضحايا والمُصابين.

ولم يُبالِ الإرهابيون بقُدسيّة المسجد، وقَتلوا المُصَلّين الأبرياء العُزل بدمٍ بارد؛ ممّا يؤكّد انعدامَ إنسانيّتهم وغياب ضميرهم، فهذه المجموعات المتطرفة تقتل وتسفك الدماء باسم الدين، وتطبيقًا لشريعةٍ قد ابتدعوها وفسّروها بما يخدم أهواءهم الشخصية؛ ظنًّا منهم أن هذه الجرائم الخسيسة هي الطريق الوحيد للوصول إلى الجنة.
إن استهداف الجماعات والتنظيمات الإرهابية المُتكرر لدُور العبادة وللأبرياء في العالم يبرهن على الفكر الظلامي لهذه الجماعات الضالة، التي لا تعرف عن الأديان شيئًا؛ وأن دستورها هو الدم والعنف.
وقد أطلّ الإرهاب بشبحه الأسود على نيجيريا لينال من مساجدها؛ ففي الثالث من يناير 2018م وقع هجومٌ انتحاريّ على أحد المساجد في بلدة "جامبورو"، التابعة لولاية "بورنو" قُربَ حدود نيجيريا مع الكاميرون، أثناء تأدية المُصَلّين صلاةَ الفجر؛ ممّا أسفر عن مقتل 11 شخصًا، ويُعَدّ هذا الهجوم استهلالًا لاستهداف عِدّة مساجدَ في نيجيريا، خلال عام 2018م، حيث فجّر انتحاريٌّ نفسَه باستخدام حزامٍ ناسف في أحد المساجد في مدينة "موبي"، شمالَ شرق نيجيريا، في الأول من مايو؛ ممّا أسفر عن مقتل ما لا يَقِلُّ عن 26 شخصًا وإصابة العشرات، وفي السابعَ عشرَ من الشهر ذاتِه وقع انفجارٌ آخَرُ على مسجدٍ بولاية "بورنو" شمالَ غرب نيجيريا؛ وأسفر عن مقتل ما لا يَقِلُّ عن ثلاثة أشخاص وإصابة ثمانية آخرين.
وفي أفغانستان وتحديدًا في السادس من مايو 2018، قُتل ما لا يَقِلُّ عن 17 شخصًا وأُصيب 34 آخَرون، في تفجيرٍ استهدف مسجدًا كان يُستخدم مركزًا لتسجيل الناخبين، في ولاية "خوست" شرقي البلاد، وفي الثالث من أغسطس، قُتل ثلاثون شخصًا وأصيب العشرات بجروح، في هجومٍ انتحاري استهدف مسجدًا للشيعة، في مدينة "جرديز" بإقليم "بكتيا" شرقَ أفغانستان، وصرّح قائد شرطة ولاية بكتيا، الجنرال/ "راضي محمد مندوزاي"؛ أن حصيلة الضحايا نحو عشرين قتيلًا وخمسين جريحًا؛ وأن جميعهم من المُصَلّين الذين جاءوا إلى المسجد لأداء صلاة الجمعة.
وفي الثالث والعشرين من نوفمبر لعام 2018م، وقع هجومٌ انتحاريّ، في مسجدٍ بإحدى القواعد العسكرية التابعة للجيش في ولاية "خوست"، شرقَ أفغانستان، وأسفر عن مقتل ما لا يَقِلُّ عن 27 وإصابة 79 آخَرين.
وقد انتفض العالم على جريمةٍ نَكراءَ بالأمس القريب، في نيوزلندا، إزاءَ الهجوم الإرهابي الذي وقع في مسجدين، وأسفر عن استشهاد نحو 49 شخصًا وإصابة العشرات، والذي أدانه فضيلة الإمام الأكبر، الأستاذ الدكتور/ أحمد الطيب، شيخ الأزهر، وقال: إن هذا الحَدَثَ وجرائمَ "داعش" (فَرعانِ لشجرةٍ واحدة، رُوِيَتْ بماء الكراهية والعنف والتطرُّف).
وعلاوةً على ما سبق؛ يمكن إضافة ما تقوم به قوّات الاحتلال الصيهوني من تدنيسٍ للمسجد الأقصى منذ عُقودٍ، إلى ملفّ الاعتداء على المساجد، وهذه الاعتداءات تحديدًا يُفرِد لها "المرصدُ" دراسةً أسبوعيّة وشهريّة، يمكن الرجوع إليها، وما قام به هذا الكِيانُ المُغتَصِب بالأمس القريب من غَلْقٍ للمسجد الأقصى، لَيسَ عنّا ببَعيد.
ثانيًا: الكنائس:
شهِدت الكنائسُ في السنوات الأخيرة سلسلةً من الاعتداءات الإرهابية التي راح ضحيتها عشراتٌ من "المسلمين والمسيحيين"؛ ففي "داغستان"، في الثامنَ عشرَ من فبراير لعام 2018م، قُتل خمسة أشخاص، على يد مواطنٍ يُدعى: "خليل الداغستاني"، الذي قام بإطلاق النار على المُصَلّين في الكنيسة –التابعة لمدينة كيزليار- وفي تبادل لإطلاق النار قامت الشرطة بقتله، وأعلن تنظيم داعش الإرهابي مسئوليته عن هذا الهجوم.
ومن جهةٍ أخرى، كانت إندونيسيا من البلدان التي استهدفت التفجيراتُ الإرهابيّةُ كنائسَها؛ فقد شَهِدت الكنائسُ سلسلةً من الهجمات الانتحارية التي راح ضحيّتها العديد من الضحايا والمُصابين، ففي الثالثَ عشرَ من مايو 2018م، شَهِدَتْ مدينةُ "سورابايا" -ثاني أكبر مدن إندونيسيا- هجماتٍ انتحاريّةً، استهدفت 3 كنائسَ، وخلفت وراءها 13 قتيلًا وأكثرَ من 30 جريحًا.

ووَفقًا لما ذكرته صحيفة "بينتي منوتوس" الإسبانية؛ فإن هذا الهجوم يُعَدّ الأسوأَ من نوعه؛ إذ لم تشهد البلاد نظيرًا له منذ عام 2000م، وفي الوقت الذي أعلن تنظيم داعش الإرهابيّ مسئوليته عن هذا الهجوم الدموي، كشفت أجهزة الأمن أنّ أسرةً إندونيسية عائدةً من سوريا هي التي نفّذتْ هذه الهجماتِ.
ولم يقتصر الأمر في مصرَ على استهداف الكنائس ودُور العبادة المسيحية فحسب؛ بل تمّ استهداف المسيحيين أنفسِهم خلال رحلاتهم الدينية وزيارة مُقَدَّساتهم؛ ففي نوفمبر من عام 2018، تعرّضت إحدى الحافلات التي كانت تُقِلُّ مسيحيين من محافظة سوهاج، أثناء تَوَجُّههم لزيارة دير "الأنبا صموئيل" في محافظة المنيا جنوبي مصر، لإطلاق نار من مسلحين مجهولين؛ ممّا أسفر عن سقوط 7 قتلى و14 مصابًا، وقد سبق هذا الاعتداءَ حادثٌ مُشابِه؛ إذ تعرّضت حافلةٌ كانت تُقِلُّ مسيحيين، في مايو من عام 2017، لهجومٍ؛ راح ضحيّته 29 شخصًا، بينهم أطفال.
كذلك شهِدت البرازيل في الحاديَ عشرَ من ديسمبر 2018م، هجومًا على إحدى الكنائس في مدينة كامبيناس؛ أسفر عن مقتل خمسة أشخاص وإصابة ثلاثةٍ آخرين، ووَفقًا لما ذكره موقع G1 الإخباريّ، دخل شخصٌ مُسَلَّحٌ الكنيسةَ -الواقعةَ على بُعْد 90 كيلو مترًا من مدينة ساو باولو- وأطلق النيران على المُصَلّين، أثناء القُدّاس الذي كانت تقيمه الكنيسة، ثم قام بإطلاق النار على نفسه. ومن جانبها، أكّدت الشرطة البرازيلية –فَورَ وُصولها إلى موقع الحادث- أنه يُعَدّ مأساةً كبيرة، خاصّةً أنه استهدف كبار السن؛ ممّا تَسَبَّبَ في إصابتهم بجروحٍ حادّة في الرأس والرقبة، ولم تُعلِن أيُّ جهةٍ مسئوليّتَها عن الحادث.
إن مرصد الأزهر لمكافحة التطرف يقتبس كلماتِ الإمام الأكبر، التي لخّصت هذه الجرائمَ، في تعليق فضيلته على هجوم نيوزلندا المُرَوِّع: "إن هذا الحدث وجرائم داعش فرعان لشجرةٍ واحدة رُوِيت بماء الكراهية والعنف والتطرف"، على أن مثل هذه الأعمال الإرهابية لا تَمُتُّ بأيّ صِلَةٍ للإسلام أو تعاليمه السمحة، ولا لغيره من الأديان السماوية المُقَدَّسة، قال الله في كتابه العزيز: "ولَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ" (الحج :40)؛ فهذه الآية الكريمة تُبَيِّنُ أن الله -عَزَّ وجَلَّ- أمرنا بالحفاظ على جميع دُور العبادة وحمايتها، وقد أَوصى النبيُّ -صلّى الله عليه وسلم- بالأقباط خيرًا، حينما نهى المسلمين الفاتحين عن هدم الصوامع أو قتل الرهبان أو النساء أو الأطفال في أيّ معركة، وقد سار الخلفاء الراشدون على سُنّته؛ فلم يَثبُتْ أن أحدهم هدَم كنيسةً، أو أمَرَ بالتعدّي عليها.
ويدعو "المرصدُ" عُقلاءَ العالم إلى وقفةٍ حاسمة ضد كلّ حَمَلةِ السلاح المارقين، الذين يَنسُبون أنفسَهم إلى أديانٍ ومُعتقَداتٍ هي منهم بَراءٌ، فيَسفكون دماء الأبرياء بغير جُرمٍ ارتكبوه، غير تَوَجُّههم إلى خالقهم لأداء حقّه وإقامة شعائر دينه.
إن مثل هؤلاء لا يَنبغي أن تَضعُفَ أمامهم يدُ القانون، أو تَتَراخى حيالَهم قبضةُ العدالة، أو تتخاذل عن الثأر منهم، وإلّا فكيف تَحلم أوروبا والعالم بعالَمٍ سلميّ مُتَعايِش، دونَ غَلَبَة القانون، وتَمكينه من حقْن الدماء ورَدّ المَظالِم؟

وحدة رصد اللغة الإسبانية

طباعة