الإرهاب لا دين له .. نيوزيلاندا نموذجًا

  • | الثلاثاء, 19 مارس, 2019
الإرهاب لا دين له .. نيوزيلاندا نموذجًا

إن المجزرة البشعة التي وقعت في نيوزلاند ضد المسلمين المسالمين في أثناء تأديتهم لصلاة الجمعة ما هي إلا رسالةٌ للضمير الإنساني بأن يتحركَ فى كلّ مكانٍ لمكافحة الإرهاب، وأنْ يمنعَ تداولَ الأفكار المتطرّفة التي تحض على الكراهية والعنف، وأنْ يكفَّ عن إلصاق تهم الإرهاب بالإسلام والمسلمين في حين يغُضُّ الطَّرْف عن وجوه التَّطَرف والإرهاب لغير المسلمين.

أَمَا بات أن يعلم الجميع حقيقةَ أن التَّطرفَ ظاهرةٌ عالميّة قديمةٌ، لها جذورُها التّاريخيّة، وأبعادٌ أخرى كثيرةٌ، قد تكون اقتصاديّةً، أو أخلاقيّةً، أو سياسيّةً، وأنَّ التطرفَ أيًّا كانت توجهاته يؤدّي في النهاية إلى الإرهاب البغيض، وأنَّ الإرهاب الذي يلصقه البعض "بالإسلام" ظلمًا وزورًا ليس له دينٌ أو وطنٌ.  إنَّ المتأملَ المنصفَ من ذوي العقول المتفتحة والضمائر الحيَّة يجد أنَّ الجرائم الإرهابية التي تُرتَكَبُ في حقِّ الإنسانية جمعاء تثبت يومًا بعد يوم حقيقة أنَّ "الإرهابَ لا دينَ له"، وإنما هو وليد التطرّف؛ إنّه انحرافٌ فكريٌّ وأيدلوجيٌّ، فالأديانُ كلُّها تدعو إلى الحب، والسلام. والإسلامُ دين الرحمة، وما أرسل اللهُ نبيَّ الإسلام "إلا رحمة للعالمين".

إنّ مرصد الأزهر لمكافحة التطرف يؤكد أنَّ تلك المذبحة الإرهابية تتنافى مع كل مبادئ الإنسانية، وتذكّر العالم مجددًا بضرورة التواصل والتضافر وتكثيف الجهود الدولية لمحاربة الإرهاب، معلنًا أنَّ هذا الإرهابي الذي نفَّذَ المذبحة بكلّ هذه القسوة والجبروت على المصلين المسالمين وهم داخل المسجد - قاتلٌ متطرفٌ لا يعرف الإنسانية، ونموذجٌ صارخٌ للإرهابي عدو الحضارة الإنسانية. ولعل هذه الجريمة البشعة تذكرنا بالجريمة التى جرت قبل عام وشهور قليلة في مسجد الروضة بسيناء عندما هاجم الإرهابيون المصلين داخل المسجد، وراح ضحيتها العشرات من الشهداء، إنَّه الإرهاب الذي يهدد كل مكانٍ ويحتاج إلى تكاتف كل الدول والشعوب من أجل التصدى له والعمل على محاربة الفكر المتطرف الذي يغذي مشاعر الكراهية والعداء.

وبات من الإنصاف أنْ نؤكّدَ على أنَّ الدوافع الدينية المتطرفة وحدها لم تكنْ هي المحرك الوحيد لقوى الإرهاب في العالم، وقد نبَّه مرصد الأزهر لمكافحة التطرف على هذا الأمر، فأصدر دراسةً تكشفُ لنا وجوه التطرُّف الأخرى التي تغضُّ وسائل الإعلام الطَّرْف عنها، وأوضحت الدراسة أنَّ راية التطرف قد حملها على مدار الـ150 سنة السابقة، أناسٌ من دياناتٍ شتّى، منهم المسلمون، واليهود، والفوضويّون، والشيوعيّون، والمسيحيّون، والبوذيّون، جميعهم قد تدفعهم بشكلٍ ما تفسيراتهم الخاطئة إلى الإرهاب الغاشم. ليس هذا فحسب، بل وأكدت الدراسة وفقًا لما ورد في تقرير وكالة "يوروبول" الصادر عام 2014م - وهي وكالةُ تطبيق القانون الأوروبيّة، ومنوطٌ بها حفظ الأمن في أوروبا- أنّ معظم الهجمات الإرهابيّة في أوروبا ارتكبتها الجماعات الانفصاليّة، وأنّ عدد الهجمات التي تعرّضت  لها أوروبا عام 2013م بلغ (152)؛ اثنان منها فقط كانا بدوافعٍ دينيّة؛ ولذلك يجب علينا أنْ نطّلِعَ بنظرةٍ موضوعيّة على الجماعات المتطرفة غير الإسلاميّة حول العالم، والتي تتّخذ من الدين ستارًا لأهدافها الخفيّة، وأفكارها المنحرفة، والتي على اختلاف أسبابِ نشأتها، وأيديولوجياتها تُسقط كل يوم العديدَ من الضحايا الأبرياء، ولا تزيد العالم إلا بؤسًا، ولا يزداد الإنسان بوجودها إلا شقاءً.

ونذكر هنا ما قاله فضيلة الإمام الاكبر شيخ الأزهر في مؤتمر "الحريّة والمواطنة"، والذي عُقد في القاهرة في 29 فبراير - 1 مارس 2017م: "بينما مرَّ التطرُّف المسيحيي، واليهوديّ بردًا، وسلامًا على الغرب دون أن تُدنَّس صورة هذيْن الدينيْن الإلهيّيْن؛ إذا بشقيقهما الثالث (الإسلام) يُحبَسُ وحده في قفص الاتّهام، وتجري إدانتُه وتشويه صورتهِ حتى هذه اللحظة."

وقد نبه فضيلته مرارًا وتكرارًا على خطورة أنْ يكيل الغرب بمكياليْن، فيلصق الإرهاب بالدِّين الإسلامي وحده في حين يغضُّ النَّظرَ عن وصف العمليات الإرهابية للجماعات غير المسلمة بأنها إرهابٌ ويكتفي بوصفها بأنَّها مجرد جريمةٌ؛ الأمر الذي عمل في السنوات الماضية على تدنيس صورة الإسلام في أذهان الشعوب الغربية، وأدّى في النهاية إلى شيوع ظاهرة الإسلاموفوبيا وظهور الجماعات اليمينية المتطرفة المعادية للإسلام في أوروبا.  

ونذكر هنا ما قاله فضيلته في بيانه عن مذبحة نيوزلاند المروعة " ولعل الذين دأبوا على إلصاق الإرهاب بالإسلام والمسلمين يتوقَّفون عن ترديد هذه الأكذوبة بعد أن ثبت لكلِّ مُنصف مُتجرِّد من الغرَض والهوى أنَّ حادثة اليوم، بكل ما خلَّفته من آلامٍ شديدة القسوة، لم يكن من ورائها عقلٌ منتمٍ للإسلام ولا للمسلمين، وإنَّما وراءها عقل بربري وهمجي متوحش، لا نعرف ما هي دوافعه وعقيدته المنحرفة التي أوحت له بهذه الجريمة النكراء، غير أنَّنا - نحن المسلمين - رغم فاجعتنا التي فتَّتت أكبادَنا لا نستطيع أن نقول كلمةً واحدةً تَدِين المسيحيَّة والمسيح -عليه السلام- والتي قد يدَّعي الإيمانَ بها هذا القاتلُ الأثيم؛ لإيماننا بالفرق الهائل بين الأديان وسماحتها، وبين المتلاعبين بها من تجَّار السياسة وتجَّار السلاح، ولسنا نفهم الفرق بين إرهابٍ يرتكبُه مُنتمٍ للإسلام فيُضاف على الفور إلى الإسلام والمسلمين، وبين إرهابٍ يرتكبه مُنتمٍ إلى أي دينٍ آخر فيُوصف فورًا بأنه متطرف يميني، كما أننا لا نفهم كيف لا يوصف هذا الهجوم بأنه إرهاب ويقال: إنه جريمة".

ومرصد الأزهر لمكافحة التطرف يؤكد أيضًا أن الأفكار المتطرفة المعادية للإسلام والتي تنامت في خطابات اليمين المتطرف عبر وسائل التواصل الاجتماعية على شبكة الإنترنت في السنوات الماضية، تعد أحد أبرز العوامل التي ساعدت على وقوع هذا الهجوم الإرهابي الآثم على المسجدين في نيوزيلندا. وقد حذر المرصد في مقال له نشرفي العدد العاشر من مجلة المرصد تحت عنوان " الإسلاموفوبيا وإرهاب اليمين المتطرف" من خطورة "اليمين المتطرف"، موضِّحًا أنه اتجاه سياسي يدعو إلى المحافظة على العادات والموروثات المجتمعية والثقافة العامة والتمسك بها، وأن ممثلو هذا الاتجاه يؤمنون بالطبقية الاجتماعية، وأن بعض ممثلي هذا الاتجاه يبالغون في فرض تقاليدهم أو الدعوة إلى إقصاء الآخر أو حمل السلاح في سبيل توجههم، وهذا ما حدث في السنوات الأخيرة الماضية؛ حيث هاجمت الأحزاب اليمينية والجماعات اليمينية المتطرفة في أوروبا الإسلام والمسلمين، وطالبت بعدم استقبال المزيد من اللاجئين المسلمين على الأراضي الأوروبية؛ بذريعة أنّ هؤلاء سوف يقومون بتغيير العادات والتقاليد الأوروبية الأصيلة، وأنَّ تعاليم الإسلام لا تتوافق مع تقاليد المجتمعات الأوروبية، الأمر الذي أحدث في الحقيقة تأثيرًا كبيرًا على العامة، وبسبب هذا الشعور بالخوف والتهديد فإنهم يقومون بمهاجمة المسلمين جسديًّا أو معنويًّا، كما تتعرض مساجد المسلمين لبعض محاولات الحرق، أو تلطيخ جدرانها برسومات عنصرية مسيئة للمسلمين، الأمر الذي انتهى بارتكاب تلك المجذرة المروعة. كما أصدر المرصد كتابًا بعنوان "مسلمو العالم" وخصص فيه دراسة كاملة عن ظاهرة الإسلاموفوبيا وتبعاتها إيمانًا منه بخطورة هذه الظاهرة على العالم أجمع.

ونذكر هنا ما قاله فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر في بيانه حول تلك المجذرة البشعة "إنَّ ظاهرة الإسلاموفوبيا وتيَّارات العداء العنصري للأجانب والمُهاجرين في الغرب لم تحظَ حتى الآن بالاهتمام الكافي، رغم خُطورتها وتحوُّلها في كثيرٍ من الحالات لأعمالِ عُنفٍ وكراهيةٍ مَقِيتة، وهو ما يستوجبُ سرعةَ التحرُّك الفاعل لتجريمها ومُحاصرتها ورفع أيِّ غطاءٍ سياسيٍّ أو دينيٍّ عن أصحابها، مع بذل مزيدٍ من الجهد لتعزيز قِيَمِ التسامح والتعايش والاندماج الإيجابي القائم على المساواة في الحقوق والواجبات، واحترام الخصوصية الدينيَّة والثقافيَّة.

هذا ومرصد الأزهر لمكافحة التطرف إذ يواسي ببالغ الحزن والأسى أسر الضحايا وذَوِيهم، فإنه يسأل المولى - سبحانه وتعالى - أن يتغمَّد الضحايا بواسع رحمته، ويُدخلهم فسيح جناته، وأن يُنعِم على المصابين بالشفاء العاجل، وأن يُعِيد لمَن روَّعتهم تلك المذبحةُ النكراءُ السكينةَ والطمأنينة، ويؤكد المرصد ضرورة التصدي لكل أنواع التطرف، بحزمٍ وقوةٍ حتى تُستأصل شأفته، وتُقتلع  جذوره، أما ما يخصُّ ظاهرة الإسلاموفوبيا فيجب - وهذا ما أكدنا عليه كثيرًا - اتخاذ التدابير والإجراءات اللازمة على المستويين التشريعي والسياسي لوضع حلول فعَّالة تحدُّ من انتشارها، حتى لا يتطور الأمر إلى أحداثٍ أكثر سلبيةٍ قد لا تستطيع الدول الأوروبية مواجهتها.

وحدة الرصد باللغات الإفريقية

 

طباعة