قراءةٌ في مذبحة "نيوزيلندا" الإرهابية

  • | الأحد, 24 مارس, 2019
قراءةٌ في مذبحة "نيوزيلندا" الإرهابية

     يأتي حادث نيوزيلندا الإرهابي ضمن سلسلة الجرائم التي نَجَمَتْ عن خطاب الكراهية الذي تعتمده بعض وسائل الإعلام الغربية ضد المسلمين، ولعل المتأمّل لهذا التناول الإعلامي وتلك الممارسات المتطرفة يرى بعَين المُنصِف أن هذا لن يُشَكِّكَ في الإسلام، ولن تَنْخِرَ عزيمةُ المسلمين، ودليل ذلك: التبعات الإيجابية التي أبطلتْ ما كان يصنعه الإعلام، ورفعتْ مِن أَسْهُم المسلمين عقب تلك المجزرة المُرَوِّعة.
وإيمانًا من مرصد الأزهر لمكافحة التطرف بأن الإرهاب لا دِينَ ولا وطنَ له، ومن مُنطلَقٍ حياديّ للبحث عن الأسباب التي دفعتْ الإرهابيَّ الذي يُدْعى: "برنتون تارنت" لارتكاب مذبحة داخل أَرْوِقَة اثنين من مساجد مدينة "كرايست تشيرش" النيوزيلندية، والتي راح ضحيّتها نحو 50 راكعًا ساجدًا لله في شهرٍ حرام، فلم نجد دليلًا على العنصرية والتمييز والكراهية أقوى من الشعار الذي رفعه هذا الإرهابيّ، وما حمله سلاح تلك الجريمة البغضاء من كلماتٍ وتَواريخَ سَطَرَها هذا الإرهابي بحروفٍ بيضاءِ اللَّونِ؛ انتصارًا للَونه وجنسه الأبيض.
لوحة "تطرف عنصري" مُفْعَمة برصاص الغدر والكراهية والحقد ورفض الآخَر، سطَرتها دماء المسلمين في تلك الجريمة الشَّنعاء، وهي نفسُها اللوحةُ التي ترسمها كبرى الجماعات الإرهابية بدماء الأبرياء، وإذا أمعنا النظر في الشعار الذي رفعه هذا الإرهابي، وفي السلاح المُستخدَم في تلك المذبحة، الذي جعل منه مُتحَفًا لتوثيق وتمجيد عباراتٍ ووقائعَ تاريخيّةٍ، نجد أن الإرهابي "تارنت" دعا الأوربيين إلى البدء في استهداف المسلمين في "أوروبا" بالأعمال الإرهابية؛ لذا بدأ من حيث انتهى "ألكسندر بيسونت" الكندي، مُنَفِّذ حادث إطلاق النار على "المركز الإسلاميّ الثقافيّ" في مدينة "كيبيك" الكندية، في 29 يناير 2017، والذي راح ضحيّته نحو 6 مُصَلّين.

ويبدو أن الإرهابي الغادر قام بهذه المجزرة انتقامًا للعمليات الإرهابية التي ضربتْ "أوروبا"، وضيقًا من سُيول المهاجرين المسلمين إلى تلك القارّة العجوز، إذ إنه سطَر تاريخَ "نهاية التَّوَسُّع الإسلامي" في "أوروبا" حسب زعمه، ومَجَّدَ أسماءَ بعض المعارك والشخصيات التي ارتكبت مذابحَ وجرائمَ بحقِّ المسلمين، مثل: "التركي الفجّ 1683 فيينا"، في إشارة إلى معركة "فيينا" التي هُزمت فيها الدولة العثمانية، ومَثّلَتْ نهاية التوسُّع الإسلامي في "أوروبا"، وكذلك عبارة: "تور 732"، التي تشير إلى معركةٍ وقعتْ في أكتوبر 732م، بين مدينتَي "بواتييه" و"تور" الفرنسيتين، والتي تُعرف أيضًا باسم: "بلاط الشهداء"، حيث دارت تلك المعركة بين المسلمين تحت لواء الدولة الأمويّة، بقيادة والي الأندلس "عبد الرحمن الغافقي"، وقوّات الفرنجة والبرغنديين، بقيادة "شارل مارتل"، وانتهتْ بانتصار "الفرنجة" وانسحاب جيش المسلمين بعد مقتل قائدهم.
أمّا عبارة "اللاجئون.. أهلًا بكم في الجحيم"، فتُعَبِّر عن رفض هذا الإرهابي العنصري ومعاداته للمهاجرين؛ اعتقادًا منه بأنهم غُزاةٌ يحاولون الاستبدال بشعوب "أوروبا"، وبالإضافة إلى ما سبق: التغريدات الأوروبية المؤيّدة لهذا الإرهابي عبر منصّات التواصل الاجتماعي، حيث إنها تعكس الاعتقادَ نفسَه والمَخاوِفَ نفسَها؛ وهو ما يكشف نَوعًا جديدًا من التطرف، ألَا وهو "التطرف العنصري" القائم على الكراهية باسم الدين أو الجنس أو العِرق أو اللون، هذا التطرف الجديد سيُقابِل ما يُسَمّونه بـ"التطرف الأيديولوجي"، الذي تخشاه القارّة العجوز.
إنَّ هذا "التطرف العنصري" الذي ينتهجه اليمين الأوروبي المتطرف سيحصد بلا شَكٍّ العديدَ من أرواح الأبرياء، مثله في ذلك مثل "التطرف الأيديولوجي" الذي تنتهجه التنظيمات الإرهابية التي تَشُنّ هجماتِها الإرهابيّةَ باسم الدين؛ الأمر الذي يُمَثِّل تَصاعُدًا قَويًّا لخطاب كراهية الآخَر، الذي بات يستهدف القارّةَ الأوروبية.
وإذا نظرنا إلى وسيلة ذلك المجرم في توثيق تلك الجريمة النكراء وبَثِّها للعالم على الهواء مباشرةً عبر موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"؛ نجد أن الدافع من وراء ذلك أنه أراد أن يُشَجِّعَ المتطرفين الأوروبيين على ارتكاب مثل تلك المجازر؛ لإرهاب المسلمين القاطنين في أوروبا، وهذا البَثُّ المباشر واختيار يوم الجمعة يعكسان أن هذا الهجوم تَمَّ التخطيط له بشكلٍ محترف من قِبَلِ مجموعةٍ من المتطرفين، وهو ما يَدُقّ ناقوسَ الخطر؛ بسبب انتهاج "التطرف العنصري" إستراتيجياتِ الجماعات الإرهابية على غِرار "داعش" وأخواتها.
وبتحليل التناول الإعلامي الغربي لتلك المذبحة؛ نجد أن "المسلم" يصبح ذا أهميةٍ إعلامية وإخبارية عندما يكون خلف "البندقية" وليس أمامها، حيث وجدنا أن كافّة وسائل الإعلام الغربية عَمَدَتْ إلى وَصْف المجزرة بأنها نوعٌ من جرائم "الإسلاموفوبيا"؛ في محاولةٍ منها لتحويل "الجاني" إلى "ضحية"، وكأنّ مرتكب تلك الجريمة البشعة مريضٌ يُعاني من "فوبيا" الإسلام والمسلمين، وذلك كنوعٍ من تبرير سلوك ذلك الإرهابي المجرم.
وإذا كان الأمر كذلك، فكيف لمريضٍ عقليّ -كما يَدَّعون- القدرة على التخطيط والتوثيق لجريمته في 74 صفحة نشرها على مواقع التواصل الاجتماعي قُبَيْلَ ارتكاب تلك المجزرة البشعة؟! ليكشفَ من خلال تلك الصفحات بوضوح عن هدفه من وراء تلك المذبحة، وهو التطهير العِرقي والديني، الذي ترفضه وتُجَرِّمه كافّة الأديان والقوانين والمواثيق الدولية، والأكثر فظاعةً من ذلك: هو الدعم الواضح لذلك التَّوَجُّه الإرهابي مِن قِبَل ساسة الدول الحاضنة لهذا "التطرف العنصري"، أمثال: السيناتور الأسترالي "فرايزر مانينغ"، الذي غرَّدَ عبر حسابه على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر" قائلًا: "إن السبب الحقيقي لإراقة الدماء في نيوزيلندا اليوم هو برنامج الهجرة الذي سمح للمسلمين بالدخول إلى نيوزيلندا"؛ الأمر الذي نعتبره خطابًا يدعو بكل وضوح إلى الكراهية ويؤسّس للتطرف العنصري، كما أن هناك تساؤلًا مهمًّا لوسائل الإعلام الغربية الداعمة لتلك المجزرة: كيف لمريضٍ عقلي أن يَسطُر وحده تلك الرموزَ والتواريخَ على سلاح جريمته، والتي تشير إلى أحداثٍ تاريخية توَثِّق الصراعَ بين الشرق والغرب؟!
وممَّا سَبَقَ؛ يَتَّضِح أن استخدام وسائل الإعلام الغربية لمصطلح "الإسلاموفوبيا" يعكس النظرة الازدواجية وغير الحياديّة التي يتعامل بها الإعلام الغربي مع الإسلام والمسلمين، كما يعكس انعدام الثقة في الإسلام والمسلمين، وهذا بالطبع يُعَدُّ وَقودًا للأعمال العدائية التي تُرتكَب بحقِّ المسلمين في المجتمعات الغربية؛ لذا يجب على كافّة وسائل الإعلام أن تكون "حياديّةً" في تناول هذه القضايا لتَجَنُّب وُقوع مثل تلك المَجازِر، كما يجب على كافّة الحكومات والمؤسسات الدولية أن تتكاتف ضد جميع أشكال التمييز الأيديولوجي والعنصري، وأن تَنأى بنفسها عن الأحكام السابقة التي قد تستهدف أيَّ جزءٍ من نسيج المجتمع، بالإضافة إلى: العمل على تَدشين الحملات الإعلامية التَّوعَويّة، وتَضمين المناهجِ الدراسية المبادئَ التي تُعَزِّز وتُرَسِّخ معنى احترام التعددية والتنوُّع الثقافيّ والدينيّ بين نسيج المجتمع الواحد؛ وذلك من أجل أن يتمَّ اجْتِثاثُ شجرة الإرهاب من جُذورها.

 

طباعة