"داعش" واليمين المتطرف وجهانِ لعُملةٍ واحدة

  • | الخميس, 28 مارس, 2019
"داعش" واليمين المتطرف وجهانِ لعُملةٍ واحدة

     بعد مجزرة نيوزيلاندا التي ارتُكبت في حق مسلمين مسالمين يسجدون في بيتٍ من بيوت الله، أراد الله -عزّ وجلّ- أن يُظهِرَ حقيقةً أجراها على لسان فضيلة الإمام الأكبر، أ.د/ أحمد الطيب، شيخ الأزهر، في أكثرَ من مكانٍ وزمان، حين قال: "إن الأديان بريئةٌ من الدماء التي تُراقُ باسم هذا الدينِ أو ذاك، وأنَّ الإرهابَ الذي يُرعِب الآمنين، ويسرق منهم أمنهم واستقرار حياتهم، لا يمكن أن يكـون صنيعةَ قـومٍ يؤمنـون بالدين وتعاليمه، وهو بكل تأكيد صناعةُ قـومٍ آخـَرين، ممّن يَسـهُل وقوعُهم فريسةً للتضليل والإغواء وغسْل الأذهان، والمُتاجَرة بالضمائر والنفوس"، جاءت هذه الحادثة لتعيدَ إلى الأذهان مذبحة المصلين بمسجد الروضة، والتي راح ضحيتها الكثير من الأبرياء، الذين لم يرتكبوا ذنبًا أو يقترفوا إثمًا، غير أن قدرَهم قضى أن يكونوا ضحيةً لفكرٍ آثِمٍ بغيض، يَدّعي امتلاكَ الحقيقة المطلقة والصواب المطلق؛ فيَستعلي على الغير باتهامه بالكفر، كما حدث في مذبحة الروضة؛ فتارةً يتّهم الدواعشُ المصلين بالكفر وعبادة الأصنام، وتارة يتهمونهم بالغزاة المحتلين، ومن ثَمّ استباحوا قتلهم وإراقة دمائهم، وفي مجزة نيوزلندا؛ استعلى السفاح على الأبرياء، الذين لم يأتِ أجدادهم إلى أوروبا طمعًا في مال ولا في سلطان، وإنما جاءوا تلبيةً لطلب العَون والمساعدة؛ مثل: الأتراك في ألمانيا، والجزائريين والمغاربة في فرنسا، فإن التاريخ يشهد أنهم ما جاءوا لاجئين، بل إن لاجئي اليوم من المسلمين وغيرهم لم يأتوا إلى الأوروبيين طواعيةً، وإنما جاءوا إليها هربًا وفرارًا من حربٍ، لن نكونَ مبالغين إن قلنا: "صنعتها أيديهم، وشاركتْ فيها أسلحتهم"، فلماذا يستعلي هذا وأمثاله، الذين يَحذون حَذْوَهُ، ويسيرون على منهجه، ممّن يُطلق عليهم: اليمين المتطرف؟ فصاروا يرغبون بإقصاء الآخَر بدافع الخوف المُزَيَّف والكُره الأعمى، الذي يستغل الدينَ، والدينُ منه بَراء، وهنا يَنبت التطرف ويَنبع الإرهاب؛ فإرهابي نيوزلندا استحوذ عليه الكُره والخوف؛ فبات يُسَوِّغ لصنيعه الإرهابي الذي ظل يخطط له طَوال عامين، فذكر أن من أكبر دوافعه لارتكاب هذا الجُرم خوفَه من "أَسْلمة الغرب"، واحتلال المسلمين والمهاجرين له عن طريق الهجرة، وارتفاع مُعَدَّلات الولادة في أوساطهم، والتي من الممكن أن تكون طريقًا لحلول المسلمين بمرور الزمن محلّ الأوروبيين والغربيين، واستشهد المجرم بكتابٍ لمؤلّفٍ فرنسي يَمينيّ بعنوان: "الاستبدال العظيم"، يُبرهن به واهمًا على صحة ادّعائه وسلامة موقفه.
إن المتابع لحادث مجزرة نيوزيلندا سيتضح له أن الذي قام بهذا الحادث هو داعشيُّ المنهجِ بامتياز؛ يحمل عقيدة "داعش" وأفكارها، ويُنَفّذ إستراتيجيتها، فهو يُصَوِّر جريمته، كما كانت تصنع داعش في دعايتها، بل سَبَقَ "داعشَ" في هذا المضمار بفكرة "البَثّ المباشر" عَبْرَ موقع الـ "فيس بوك"، وقد برع الإرهابي في استغلال "السوشيال ميديا" كما برعت في ذلك "داعش" من قَبلُ؛ بهدف تجنيد عناصرَ جديدةٍ من أيّ بُقعةٍ من بِقاع الأرض، تصلح لأن تكون حاضنةً لأفكارها وأيديولوجيتها، وهو ما نجحت فيه "داعش"، حيث مثّلت وسائل "التواصل الاجتماعي" السلاحَ الأقوى في الدعاية والتجنيد؛ ولذلك نشَر هذا السفاحُ مذكراتِه عَبْرَ "تويتر"، والتي كانت بهدف الدعاية لفكره وأيديولوجيته، وهي دعوةٌ صريحة للاقتداء بصنيعه وتقليد جُرمه، والذي يُعَدّ من وجهة نظره السقيمة عملًا بطوليًّا، سيُسارِع إليه كلّ مَن يحمل فكره أو ينتمي لأيديولوجيته، ولعله صرّح بذلك حين قال: "سأستحق جائزة نوبل للسلام، بعدما أقضي في السجن 27 عامًا؛ فقد مُنحتْ للإرهابي في جنوب أفريقيا"، في إشارةٍ للرئيس "نلسون مانديلا"، الذي مُنح جائزة "نوبل" للسلام؛ بسبب مكافحته للعنصرية، لكنه سيستحقها -من وجهة نظره- لأنه سيُعيد هذه العنصريةَ ضد المهاجرين والمسلمين، والتي يرى فيها السبيلَ الوحيد لخلاص أوروبا والغرب من هؤلاء الغُزاة، على حَدّ زعمه.
ومن خلال هذا الطرح لا يمكن أن يَمُرّ صوتٌ أو إشارة في هذا الحادث الإرهابي دون أن نفهم منه رسالة، أو على الأقل أراد المجرم من خلال كلماته توصيلَ رسالةٍ لمُناصريه أو خصومه على حَدٍّ سواء، ولعل مِن أهمِّ تلك الرسائل وأَوْضَحِها ما كتبه على بنادقه، لا ما كتبه في مذكراته، فقد سَجّل المجرمُ كتاباتٍ تُثبِتُ أنه يحمل عقيدةً تجمع بين الفكر الديني المتطرف والعنصري المَقيت؛ فتارةً يَسرُد أحداثًا تاريخيّة لهزائمِ المسلمين عَبْرَ قرونٍ من الزمن، بدايةً من معركة "بَلاط الشهداء"، ونهايةً بـ "حصار فيينا"، وتارةً أخرى يكتب أسماءَ أشخاصٍ قاموا بأعمالٍ إجرامية ضد المهاجرين دون دافعٍ ديني مثل: "أندرس بيهرينغ بريفيك"، مرتكب هجمات النرويج عام 2011م.. وحتّى الموسيقى، التي كان يَبُثّها، وهو في طريقه لارتكاب جريمته، هي من أغنيةٍ مُناصِرة لـ "رادوفان كاراديتش"، الذي كان يُلَقَّب بـ"سَفّاح البوسنة"، والذي جَرَتْ محاكمته بسبب ارتكابه "جرائمَ ضِدَّ الإنسانية"، حيث قاد هذا السَّفّاحُ مَذابِحَ ضد المسلمين في "البوسنة"، وهو ما يُمَثِّل خَلطًا في دَوافِع هذا المجرمِ بينَ ما هو دينيٌّ، وبينَ ما هو عنصريٌّ؛ وبذلك يصبح هذا النوعُ من التطرف والإرهاب، والذي يَتَبَنّاه الكثيرون من أبناء اليمين المتطرف حول العالم، أعظمَ خطرًا من تنظيم "داعش"؛ ولربّما يمتدّ هذا الخطرُ إلى بِقاعٍ آمِنة، عُرفتْ بتسامُح أهلها وتَعايُش أبنائها في سلامٍ وأمان.
ومن ثَمّ؛ يجب أن يُحارِبَ العالَمُ هذا الفكرَ، الذي لا يَقِلُّ خطورةً عن فكر "داعش"، بنفْس القدْر وبنفس القوّة، وهذا ما أكّده فضيلةُ الإمام الأكبر، شيخ الأزهر، في هذا السياق؛ أنه لَطالما بَقي الكُره والتعصُّب هو الداء العُضال، الذي بات يعاني منه عالمنا اليومَ، وأن تلك المذبحةَ، التي حدثتْ بنيوزيلندا، وجرائم "داعش"؛ هما فَرعانِ لشجرةٍ واحدة، رُوِيَتْ بماء الكراهية والعنف والتطرف، وقد آنَ الأوانُ أن يَكُفَّ الناسُ شرقًا وغربًا عن تَرديد أُكذوبة "الإرهاب الإسلامي"؛ فالإرهابُ لا دينَ ولا وطنَ له.

وحدة رصد اللغة الألمانية

 

طباعة