خطاب الكراهية بين دواعش الشرق والغرب .. رؤية تحليلية

  • | الإثنين, 1 أبريل, 2019
خطاب الكراهية بين دواعش الشرق والغرب .. رؤية تحليلية

     "إن تلك المذبحة "الإرهابية الشنيعة" التي حرص مُنفذوها على تصويرها وبثِّها على الهواء للعالم كله، لا تختلف كثيرًا عن مشاهد قطع الرقاب المُروِّعة التي ارتكبتها عصاباتُ داعش الإجراميَّة، فهما فرعان لشجرةٍ واحدة، رُوِيت بماء الكراهية والعنف والتطرُّف، ونزَعت من قلوب أصحابها مشاعرَ الرحمة والتسامح والإنسانيَّة، بل ما كان لهما أن يتوحَّشا بهذا الشكل المُرعِب لولا حساباتٌ سياسيَّةٌ وعنصريَّةٌ ضيِّقة، غضَّت الطرف عن جرائمهما، وسمحت لهما بالانتشار والتوحُّش".

تلك الكلمات التي أكد بها فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الشريف أن الإرهاب والعنف لا يرتبطان بدينٍ، ولعل مشاهدة الأزمات التي لا تنقضي في حق الأبرياء ما يدعو إلى إعادة النظر والتأمل في امتداد خطابات الكراهية والعنصرية التي تجاوزت الحدود وعبرت القارات.

يعد حادث "نيوزيلندا" الإرهابي ناقوس خطر يدق على أبواب العقلاء، وصيحة تحذيرٍ لأصحاب التُّهم المعلّبة التي دأب أهلها على إلصاقها بالإسلام والمسلمين - كي يتوقفوا عن سياسة الكيل بمكيالين، فليست الجريمة باسم العرق أخف وطأة من الجريمة باسم الدين، بل إننا نؤمن أن التطرف سمة تجذب وتوظف تحت عباءتها كل السياقات والنصوص والاستثناءات التاريخية لتجعلها قاعدة لعملها الإرهابي، ومع قليل من التدقيق في خطاب الإرهابي "برنتون تارنت" المشحون بالغضب والكراهية والرغبة في الانتقام تحقيقًا للرغبة في صناعة البطل الأبيض، نجد أنه ــ ومن العجيب ــ ينفِّذ نفس الإستراتيجية الداعشية في التعامل مع الآخر ولم يختلف عنها في شيء قط، الأمر الذي ينذر بوقوع العالم كله في براثن إرهاب أسود لا يعرف عن الإخوة الإنسانية شيئًا.

الدافع والمحرِّك

كانت الخطوات الأولى التي مر بها "إرهابي نيوزيلندا" توافق تمامًا الخطوات الداعشية بدءً من الغضب والأوهام المبنية على قناعات انتقائية، وانتهاءً بالقتل عن قناعةٍ تصاحبها سعادة وشعور-متوهَّمٌ- بالبطولة!

كان هذا الإرهابي قد نشر بيانًا من 80 صفحة تقريبًا يعلن فيه عن قناعاته وأفكاره، وهذه هي البداية، فعلى غرار "داعش" تبدأ العملية الإجرامية بفكرة مجنونة ودوافع مريضة تظهر لأسباب كثيرة منها (استفزاز الشعور بالغضب)، ثم تستمر بعد ذلك بعقلية انتقائية توظف كل البيانات المتاحة لتسويغ الجريمة النكراء، وهذا تمامًا ما حدث مع الإرهابي المذكور؛ حيث استفزه سقوط فتاة بريئة قتيلة على يد داعشي مهووس، فقرر أن ينتقم بنفس الطريقة المريضة التي رفضها من الداعشي فأصبح شبيهه  وصِنْوه، ومن ثم وظَّف كل الوقائع التي حوله لتدمير أعداء وهميين صنعهم خيال مريض وفكر غير سديد، وحقد دفين، وجهل متين.

يتشابه هذا البيان بل يتطابق مع ما يفعله تنظيم "داعش" الإرهابي، فإذا كان التنظيم يرى أنه ينتقم للأمة ويتحدث باسمها ويناضل من أجلها، فكذلك يقرر ذلك الإرهابي أنه يدافع عن حقوق أمته وأنه يفعل هذا لأجل عودة الأمة البيضاء إلى مجدها، مؤكدًا أنه يمثل ملايين الأوروبيين وغيرهم من الأمة البيضاء، والعجيب أن هذين التيارين مرفوضان من الجموع الحاشدة سواء في الشرق أو الغرب، ولم يفوضهم أحد للحديث بلسان شعوبهم، بل على العكس تمامًا تلفظهم النفوس السويَّة والقلوب النقيَّة!

وفي الوقت الذي ترفض فيه "داعش" الآخرَ وتراه مغتصبًا ولا يستحق العيش على نطاق الأماكن التي تستولي عليها، يرى هذا الإرهابي أن غير الأوربيين الذين لا ينحدرون من جنس أبيض، غير مرحب بهم في أوروبا أو بلاد "الأمة البيضاء" حسب تعبيره.

استغلال المرأة في خطاب الكراهية

وكما تلاعبت داعش ووظفت المرأة قضيةً أصيلة في تسويغهم العنف الممنهج ضد الدول والأفراد - نجد هذا الإرهابي ينتهج الفلسفة ذاتها؛ فيعتمد في دوافع هجومه على أسباب كثيرة منها: "أنهم يغتصبون النساء البيض..." وهذا تمامًا ما تنص عليه أدبيات "داعش"؛ حيث يبرر عناصر التنظيم هجومهم على الآخرين بأسباب كثيرة من ضمنها امتهان المرأة المسلمة وتدنيس عِرضها وشرفها.

توظيف الدِّين في رفض الآخر

وعلى صعيد الدِّين نجد التقارب الفكري بين هذين النموذجين الكريهين للتطرف والإرهاب، فبينما يكره الدواعش "غيرَ المسلمين" كونهم لا يؤمنون بأفكارهم ذاتها، يرفض "إرهابي نيوزيلندا" كلَّ مَن ليس من الجنس الأبيض، رافضًا وجودهم محرّضًا ضدهم وداعيًا إلى اغتيالهم حقيقةً وحكمًا. وعلى الرغم من زعمه أن هذه العملية ليست إلا انتصارًا للعِرق الأبيض وأنه لا علاقة لها بالدِّين الإسلامي، فإننا نجد تناقضًا بيِّنًا في طيات بيانه الذي كتبه بيديه، فقد أعلن أنه في كراهية شديدة لكل مسلم من المسلمين الجدد الذين انخلعوا من ثقافتهم وتراثهم ودينهم وأصبحوا مسلمين، بل إنه اعتبرهم خونة يستحقون القتل!

تلك الازدواجية في التعامل وفي تسويغ العنف تؤكد أن التطرف والإرهاب أشبه ما يكون بـ"فيروس" إذا أصاب العقل البشري عاث فسادًا، وأصبح شَرِهًا للدماء تحت أي دافع وبأي مسمى.

إن هذا الإرهابي لم يستطع أن يحدد تمامًا ماهية قضيته، هل هي العنصرية ضد الأعراق الأخرى؟ أم هي العنصرية ضد المسلمين بذاتهم؟ أم هي الخوف المَرَضي من ازدياد نسبة المسلمين في أوروبا؟ أم هي الانتقام من الدواعش الذين قتلوا الأبرياء؟

كل هذه الأمور تتشابك، بل وتتناقض –أحيانًا- في حديثه عن دوافعه ومسوغاته لهذا العنف، إلا أن الحقيقة التي لا مراء فيها أن "النمط الداعشي" هو خلل في منهجية التفكير ومنظومته يصاب بها العديد، ويجندها ويستغلها العديد، ويدافع عنها بل وتدعمها وتغذيها مؤسساتٌ ودولٌ تنتهج سياسة الكيل بمكيالين.

وفي بيان "إرهابي نيوزيلندا" الكثير مما يستحق إعادة النظر في التهمة المنسوبة كذبًا للإسلام، فهذا الإرهابي قد اتخذ قراره بمهاجمة المسجد جراء ما شاهده من تحول بعض الكنائس إلى مساجد للمسلمين، فالقضية إذن ليست قضية عِرقية بقدر ما هي حقد وكراهية و"فوبيا" من الإسلام والمسلمين، وللإعلام الغربي كلّه اليد الطُّولَى، والحظ الأكبر في تحمل مسئوليته. وبالرغم من الألم الذي تركته هذه الحادثة على نفوس المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، إلا أننا نؤمن أن الأديان بريئة من العنف والإرهاب، ولا يمكن أن يصف مسلمٌ ديانةً ما بالإرهاب بناءً على فعل شرذمة لا تمثل الدِّين ولا تعبر عنه.

استغلال الأطفال والتحريض عليهم

مرة أخرى نلحظ النمط الداعشي في أفكار هذا الإرهابي حين هاجم الأطفال المسلمين وحرَّض الشعوب الغربية عليهم؛ إذ إنهم حسب رؤيته "أطفال غزاة لا يظلون أطفالًا، بل يكبرون ويتزوجون، ومن ثم يوجدون المزيد من الغزاة ليحلوا محل شعبك، يكبرون ويصوتون ضد رغبات شعوبك، من أجل مصالح شعبهم وهويتهم، يكبرون ويأخذون منازل شعبك لأنفسهم، ويشغلون مناصب مهمة في الدولة، ويأخذون الثروة ويهزون الثقة الاجتماعية.." هكذا يخاطب الغربَ ويحرضهم على الاعتداء على أطفال المسلمين؛ لأنهم - حسب رؤيته المريضة - أطفال الغزاة!

أليس هذا عين ما تقوله "داعش"؟ أليس هذا تمامًا ما تنص عليه كتبهم ومنتدياتهم وأفكارهم؟ كيف أصبح العالم في غفلة عن هذا النمط المضطرب من التفكير الذي أصبح يهدد أمن العالم وسلامه دون اعتبار لجنس أو لون أو دين، والذي بات واضحًا لكل منصفٍ انقطاع الصلة المزيفة التي تنسبه للإسلام وحده!

لقد أصبح العالم كله مستهدفًا، الجميع اليوم في مرمى "التطرف" لن تسلم الأمم إلا بالأخذ والضرب بيد من حديد على هذه الأفكار ومواجهتها، والتحلي بقيم العدالة الإنسانية المتزنة، ورفع الغطاء عن التنظيمات الإرهابية كلها سواء بسواء. أما إذا التمس البعض العذر لهذا الإرهابي فسيلتمس غيره العذر غدًا للإرهاب الداعشي، وسيغدو العالم مسرحًا دمويًّا يسوده الأكثر وحشية والأقسى قلبًا، فما الذي ننتظره؟

وبالرغم من أنه تردد في بيانه عدم التزامه بالمسيحية كدِيانةٍ، إلا أنه كما تفعل التنظيمات الإرهابية (داعش وأخواتها) وظَّف المفاهيم القِيمية ورفع شعار الإصلاحات المجتمعية ليمرر خلفها فسادًا وخللًا فكريًّا يهدم الأمم ولا ينهض بصاحبه!

صراع الحضارات

ومن نفس المنطلق الذي تبدأ منه التنظيمات الإرهابية كلها، ينطلق "تارنت" من مبدأ "صراع الحضارات" وفلسفتها، مؤكدًا أن العالم لا يتسع للتنوع والاختلاف، وإنما يجب أن يكون الناس نُسخًا مكررةً عن نموذج واحد لكل بيئة أو مساحة جغرافية معينة، ويظن أنه بذلك سينهي الصراعات وسينعم الناس بالأمان، متناسيًا بل متجاهلًا تلك السُّنة التي أراد الله تعالى أن تجري بين عباده، وهي سنة الاختلاف، والتي لا تعني – بطبيعة الحال- صدامًا أو شقاقًا، فهو اختلاف لا خلاف، وتنوّع لا تضاد، وتكاملٌ لا تناقض.

وفي الوقت الذي يسعى فيه عقلاء العالم لمدِّ يد التعاون وبناء جسور سلام ومحبة بين الشرق والغرب؛ حيث قام الأزهر الشريف وحاضرة الفاتيكان بتوقيع وثيقة الإخوة الإنسانية، التي تؤسس لتمديد العلاقة وترسيخها بين الشرق والغرب، وتؤكد حقَّ الإنسان في حياة كريمة دون النظر إلى العِرْق والدِّين واللون، رافضة نسبة التطرف والإرهاب إلى دين من الأديان - تُصرُّ بعض السياسات والكيانات المتطرفة على زرع ألغام في طريق الحرية والسلام، فمرة "داعش الشرق" وأخرى "داعش الغرب" وبينهما تضيع دماء الكثير من الأبرياء!

إعلاء قيمة الموت على الحياة

وتمامًا كما تفعل "داعش الشرق" يخاطب هذا الداعشي الغربي الشباب محبِّبًا لهم الموت على الحياة، صانعًا لهم بطولة وهمية على مذبح الكذب والدمار، مؤكدًا أن الموت في سبيل الحفاظ على الأمة البيضاء وتحمل مسئوليتها هو ما يجب أن يُسخِّروا أرواحهم لأجله، وفي سبيل ذلك يمهد لهم أن العالم سيرفضهم، وأن الكثيرين سيصفونهم بالمجرمين والأشرار، إلا أن هذا لا يجب أن يكون سببًا في تراجعهم عن نصرة شعبهم.

التغيير العنيف من رأس الهرم

وكما تؤمن تيارات ما يسمى بـ (الإسلام السياسي) بأن التغير الجذري يبدأ من الوصول إلى قمة التسلسل الهرمي للسلطة، يقرر "إرهابي نيوزيلندا" أن تغيير المجتمع الغربي لن يحدث إلا بالوصول إلى أعلى قمة السلطة في البلاد الغربية؛ لتصحيح المسار وإعادة هيمنة العِرْق الأبيض وسيادته على العالم، الأمر الذي يشير إلى صناعة خطابات الكراهية وتمويلها على مستويات مختلفة من العالم لمصالح بغيضة لا تخفى على عاقل.

وكما يدعي ويزعم "دواعش الشرق" من أن السلمية لا تؤتي ثمارها، يرى "تارنت" أن الحلول السياسية والمجتمعية السلمية لن تجدي، وأنه مضى وقتها ولا بدَّ من حمل السلاح والقتال بعنف لاسترداد الكرامة!

وكما يرفض الإرهابي الشرقي التحاكم والاعتراف بالنظم السياسية السائدة مؤكدًا أن الديمقراطية كفر، يقرر الإرهابي الغربي أن الديمقراطية كذبة كبرى ووهم كبير، وأنه على كل رجل أن يدافع عن قناعاته بنفسه، وأن يحمل سلاحه بيديه منتقمًا ومحققًا لجنسه وشعبه الانتصارات.

ولعل أخطر ما يلفت النظر في بيان ذلك الإرهابي استخدامه النمط الذي تطلق عليه "داعش" (الذئاب المنفردة)، وهي تخويل السلطة لكل أحد بممارسة العنف ضد كل مَن تطاله يداه في أي مكان في العالم، وبأيِّ سلاح كان وبأيةِ طريقة ممكنة، مستخدمًا المغزى الداعشي ذاته من (الذئاب المنفردة) لزرع الخوف والقلق في نفوس المسلمين والعرب بما يردعهم ويحقق السيادة للجنس الأبيض!

وعلى صعيد الإرهاب النفسي الذي تمارسه الجماعات الإرهابية كافة جاءت كلمات "تارنت" ترهب جموع الغربيين من وجود المسلمين على أراضيهم، ما ينتهك ويستنزف موارد الأمة البيضاء لصالح "الغزاة" –حسب تعبيره - مكررًا هذا اللفظ مرات عديدة ما يجذر نزعة الغضب والانتقامية في نفوس الشباب المتحمس ويسهل لهم طريق العنف.

وفي هذا البيان ما يثبت - فوق ما ينادي به الأزهر منذ زمن - براءة الإسلام بوصفه دينًا من الإرهاب، وأن العلاقة بينهما منقطعة لا سبيل إلى وصلها؛ اللهم إلا بالتحايل والكذب والادعاء، والتلاعب المقصود لأغراض دنيئة باتت واضحة للجميع، كما بات واضحًا أن الإرهاب والتطرف ليسا صناعة إسلامية ولا علاقة لهما بالدِّين، وإنِّما هما وجهان لعملة واحدة تمثل خللًا فكريًّا لا تقبله النفوس السويَّة، والعقول النّقية.

 

وحدة رصد اللغة العربية

طباعة