مذبحة نيوزيلندا بين الألم والأمل

  • | الأحد, 7 أبريل, 2019
مذبحة نيوزيلندا بين الألم والأمل

     فاجعة كبرى ومذبحة أليمة راح ضحيتها خمسون مسلمًا وعشرات المصابين، إثر هجوم إرهابي غادر على مسجدين بمدينة «كرايست تشيرش» النيوزيلندية، أثناء صلاة الجمعة الموافقة 15 من شهر مارس الماضي. آلام وأوجاع، أفراح وأتراح تُميز الخبيث من الطيب وتُسقط الأقنعة، وتظهر المعدن الأصيل. الضحايا مسلمون كالعادة، والمجرم عنصري أبيض بغيض، راح يتلمس ما يبرر به فعلته الإجرامية من نظريات تحضُّ على الكراهية والعنف بامتياز. بطل المعركة هذه المرة امرأة غير مسلمة، سياسية محنَّكة تختلف عمَّن نعرفهم من الساسة، ولكنها قبل كل ذلك «إنسان»، اتخذ من إنسانيته درعًا في معركته السياسية، إنها رئيسة الوزراء النيوزيلندية «جاسيندا أرديرن».
أسابيع تمرُّ على المذبحة ولا نعرف من تصرفات «أرديرن» إلا خيرًا، لقد أثبتت رئيسة الوزراء -منذ اللحظة الأولى- أنها محاربة وسياسية حقيقية تحارب العنصرية وتؤمن بالتعددية وتزدري القاتل، وتعدِّل تشريعات حمل السلاح في بلادها وتواسي الضحايا، كما أظهرت أيضًا مدى العقم الإنساني لدى كثير من القادة الذين لا ينفكون -في مثل هذه الأحداث- عن الردِّ بعبارات الأسى الممزوجة بعبارات إدانة الإرهاب وشكر قوات الأمن التي -في أغلب حالاتها- تخفق في منع الجريمة من الحدوث. لكن الحال مختلف مع «أردرين» التي خرجت لتحدثنا عن عنصرية وتطرف الحركات العالمية التي تؤمن بتفوق العرق الأبيض، هذه النظرية التي أتت رئيسة الوزراء النيوزيلندية على جذروها أمام الجميع حين أعلنتها مدويةً: «إنهم نحن»، تقصد بذلك المسلمين الذي أُخذوا غدرًا، وعندما خرج السياسي العنصري الأسترالي «فريزر أننغ» ليلقي باللائمة على المسلمين وقوانين الهجرة عقب المذبحة، وصفت «أرديرن»  تصريحاته بـ«العار».
لقد كانت التغطية الإعلامية وردود الفعل الصحفية على هذا الحادث الإرهابي مأساوية؛ إذ استخدمت بعض وسائل الإعلام النيوزيلندية والصحف البريطانية الفيديو الذي بثَّه القاتل بنفسه وبيانه الذي أصدره، لتأييد رواياتهم للحادثة! إنه لفشل ذريع حين تهتم بعض تلك الوسائل بالقاتل وقصة حياته ومنزله القديم وأيامه الأولى، وكيف أنه كان طفلًا ملائكيًّا، وغيرها كثير من التفاصيل حول هذا الإرهابي الغادر، لكن في ذات الوقت اهتمت رئيسة الوزراء النيوزيلندية بالضحايا وأسرهم. بعد أسبوع من تلك المذبحة المروِّعة وأمَام أحد المسجدين الذين خُضِّبت أرضهما بالدماء الطاهرة وتناثرت فيهما أشلاء الأبرياء، بثَّت هيئة الإذاعة والتليفزيون الرسمية لـ«نيوزيلندا» أذانَ صلاة الجمعة، وحضر المصابون الناجون من هذا الهجوم الإرهابي في الصف الأول على كراسي متحركة، ومن ورائهم الآلاف من النيوزيلنديين غير المسلمين، وانضمت رئيسة الوزراء التي حضرت مرتدية الحجاب إظهارًا لتعاطفها وتضامنها مع المسلمين، إلى الآلاف المشيعين والمصلين، ووقف الجميع دقيقتي حداد.
وفي أثناء خطبة الجمعة قال جميل فودة، إمام المسجد الذي نجا بأعجوبة من تلك المذبحة: «في الجمعة الماضية، وقفتُ في هذا المسجد ورأيت بنفسي الكراهية والغضب يشعَّان من عيني الإرهابي، واليوم ومن نفس المكان، أنظر فأرى الحب والود في عيون الآلاف من النيوزيلنديين والإنسانية جمعاء حول العالم»، مضيفًا أن «هذا الإرهابي حاول أن يمزِّق أمتنا إربًا بفكره الخبيث الذي مزَّق العالم، ولكننا أثبتنا أن نيوزيلندا عصيَّة على الانقسام والتمزق». من جانبها قالت رئيسة الوزراء النيوزيلندية في كلمتها أمام الجموع: إن «نيوزيلندا تعزيكم، ونحن واحد... المصاب نيوزيلندي، والفاجعة إنسانية»، مستشهدة بحديث النبي محمد ﷺ: «مَثَل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».
وما كادت الجراح تندمل، حتى طالعتنا الأخبار بأن الشرطة البريطانية تحقق في اعتداءات عنيفة استهدفت خمسة مساجد ليلًا وحتى الصباح في مدينة «برمنجهام» ، حيث قالت الشرطة إنها تلقت بلاغات تفيد بأن رجلًا هشَّم نوافذ مسجد بمطرقة في منطقة «بريشفيلد رود» في الساعة الثانية والنصف صباحًا، وبعدها بنحو 45 دقيقة، أُبلغت الشرطة بحدوث اعتداء مماثل في منطقة «إردنغتون»، وبلاغات أخرى عن اعتداءات استهدفت مسجدين في منطقتي «أستون» و«بيري بار»، واعتداء على مسجد في منطقة «ألبرت رود»، ووصفت الشرطة الاعتداء بأنه «عمل تخريبي ومقلق للغاية ومحزن»، مضيفة أنَّ وحدة مكافحة الإرهاب تحقق في الأمر.
وقد بثَّت هذه الحوادث الخوف في قلوب كثير من الجالية المسلمة، حيث قرر بعض المسلمين إبعاد أطفالهم عن المساجد نظرًا للمخاوف الأمنية المتعلقة بالحضور إليها، ولعل هذا وغيره ما دفع الشرطة البريطانية إلى اتخاذ قرار بزيادة عدد الدوريات الأمنية أمام المراكز الإسلامية؛ لطمأنة المسلمين الذين يشعرون بأنهم مستهدفون. مجلس مسلمي بريطانيا رحَّب بخطوة زيادة التشديدات الأمنية على المساجد، حيث صرَّح المتحدث الرسمي للمجلس "مقداد فيرسي"، بأن تلك الإجراءات «مطمئنة جدًّا».
ويشيد مرصد الأزهر لمكافحة التطرف بالدور الإيجابي الذي تبنته السيدة «جاسيندا أرديرن»، رئيسة الوزراء النيوزيلندية، بالإضافة إلى التضامن الكبير من آلاف النيوزيلنديين في إشارة منهم إلى رفض هذا العمل الإرهابي الغادر. ويندد المرصد بتناول بعض وسائل الإعلام الغربية لخطاب الكراهية الذي نجم عنه أعمال إرهابية ضد المسلمين منذ سنوات، مرورًا بمذبحة نيوزيلندًا وحتى الاعتداءات الأخيرة التي استهدفت خمسة مساجد في مدينة «برمنجهام» البريطانية، مؤكدًا على أن التناول الإعلامي الذي لا يلتزم بميثاق الحيادية والذي يذكي خطاب الكراهية سيؤدي إلى ممارسات متطرفة؛ إذ إنها الوقود الذي يتغذَّي عليه المتطرفون، والمحرِّك الذي يدفع المجرمين إلى ارتكاب أعمال إرهابية ضد المسلمين ودور عبادتهم.     

وحدة الرصد باللغة الإنجليزية

 

طباعة