نقض عقيدة تنظيم داعش الإرهابي

  • | الثلاثاء, 30 أبريل, 2019
نقض عقيدة تنظيم داعش الإرهابي

1- تكفيرهم للمسلمين بسبب البناء على القبور

ينطلق ما يعرف بتنظيم "داعش"  من عقيدة يقوم من خلالها  بأعمال إجرامية يصبغها بصبغة الدِّين حتى تلقى قبولًا شرعيًّا عند أتباعه، ومع قراءتنا لهذه العقيدة التي نشرها التنظيم عبر إصداراته المختلفة (المقروءة والمسموعة والمرئية) فقد قمنا بعملية استقصائية سنعرضها في سلسلة من المقالات المتتابعة؛ محاولةً منا لمعرفة الأصول التي ينطلقون منها، والركائز التي يعتمدون عليها، ثم نقضها بما يكشف زيغها وباطلها، ولسوف يرى القارئ الكريم في عقيدة الدواعش ما يثير العجب، ذلك أن منها ما لا علاقة له بالعقيدة وهو من باب الفقه أقرب، ومنها ما هو خاص بالأمور الجِبِليَّة، ومنها ما هو من العادات الاجتماعية، ومنها ما هو كذبٌ محضٌّ.

وهذه العقيدة قد أعلنها أحد قادة التنظيم أبو عمر البغدادي فقال: «رمانا الناس بأكاذيب كثيرة لا أصل لها في عقيدتنا فادَّعوا أننا نكفر عوام المسلمين ونستحل دماءهم وأموالهم ونجبر الناس على الدخول في دولتنا بالسيف!»

ثم عرض أبو عمر البغدادي عقيدته والتي خلت من وجهة نظره من التكفير فقال: «وعليه فهذه بعض ثوابتنا، تردُّ على تلك الأكاذيب، وحتى لا يبقى لكذاب عذر، أو لمحب شبهة:

أولًا: نرى وجوب هدم وإزالة كل مظاهر الشرك، وتحريم وسائله لما روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تدع تمثالًا إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته». [أخرجه مسلم في صحيحه، 2/666].

هذه أول نقطة ينطلق منها الدواعش، وبادئ ذي بدء فمظاهر الشرك التي يعنونها إنما هي المشاهد على قبور الصالحين والأولياء، ويدخل فيها أيضًا القبور المشْرِفة كما هو الحال في قبور أهل مصر، فهدم هذه القبور وإزالتها عندهم واجب؛ لأن ذلك في نظرهم مظهرٌ من مظاهر الشرك.

والحق أن هذه المسألة من مسائل الفقه التي يقال فيها (يجوز أو لا يجوز) وليست من مسائل العقيدة بحال، ولذلك ذكر الإمام مسلم هذا الحديث في باب الجنائز وهو من أبواب الفقه، وعلى ذلك فلا بدَّ من توضيح هذه المسألة من وجهة نظر العلماء:

من ذلك أن الأصل أن يرتفع القبر بمقدار شبر فقط؛ ليُعرف ويُزار، أما ما زاد على ذلك، ففيه تفصيل تبعًا للمقبرة الموجود فيها:

فإذا كان القبرُ في مقبرة موقوفة على المسلمين ولم يكن هناك ضرورة تستدعي البناء عليه كخوف سرقة القبر، أو نبشه أو نحو ذلك فلا يجوز البناء عليه لما فيه من التضييق على المسلمين، وحرمانهم من مكان القبر بعد أن يبلى الميت؛ لوجود البناء عليه، وهذا معتمد المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية والمالكية، والشافعية والحنابلة.

أما إذا كان القبر في مقبرة غير موقوفة، كوجوده في مِلك الميت، أو أحد أقاربه، فيكره البناء عليه عند جمهور الفقهاء. ونص كثير من الفقهاء على استثناء قبور الصالحين.

قال الأحناف: « وفي الأحكام عن جامع الفتاوى: وقيل لا يكره البناء إذا كان الميت من المشايخ والعلماء والسادات اهـ قلت: لكن هذا في غير المقابر المسبلة كما لا يخفى » [يراجع: ابن عابدين الحنفي: الدر المختار وحاشية ابن عابدين رد المحتار (/237].

 وقال المالكية: «كُره تطيين قبر، أي تلبيسه بالطين، أو تبييضه بالجير... أو في أرض مُحْبَسَةٍ، كقرافة مصر، أو مرصدة للدفن، أو في ملك الغير بغير إذنه حرم، ووجب هدم» [يراجع: محمد بن عرفة الدسوقي المالكي: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/425)].

وقال الشافعية: « (وَلَوْ بُنِيَ) عَلَيْهِ (فِي مَقْبَرَةٍ مُسَبَّلَةٍ) وَهِيَ الَّتِي جَرَتْ عَادَةُ أَهْلِ الْبَلَدِ بِالدَّفْنِ فِيهَا (هُدِمَ) الْبِنَاءُ؛ لِأَنَّهُ يَضِيقُ عَلَى النَّاسِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَبْنِيَ قُبَّةً أَوْ بَيْتًا أَوْ مَسْجِدًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ " [يراجع: الخطيب الشربيني الشافعي: مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج (2/55)].

وقالوا: "وإن كان في ملكه جاز له أن يبني ما شاء؛ لأنه لا يضيق على غيره، بخلاف المُسَبَّلة" [يراجع: الإمام العمراني الشافعي: البيان (3/110)].

وقال الحنابلة: «وَكَرِهَ أَحْمَدُ الْفُسْطَاطَ وَالْخَيْمَةَ عَلَى الْقَبْرِ» [يراجع: منصور بن يونس البهوتى الحنبلى: كشاف القناع عن متن الإقناع (2/ 139)].

وقال العلَّامة ابن مفلح الحنبلي: "وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمُسْتَوْعِبِ وَالْمُحَرَّرِ: لا بَأْسَ بِقُبَّةٍ وَبَيْتٍ وَحَصِيرَةٍ فِي مِلْكِهِ؛ لِأَنَّ الدَّفْنَ فِيهِ مَعَ كَوْنِهِ كَذَلِكَ مَأْذُونٌ فِيهِ، قَالَ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ: وَيُكْرَهُ فِي صَحْرَاءَ لِلتَّضْيِيقِ وَالتَّشْبِيهِ بِأَبْنِيَةِ الدُّنْيَا. وَقَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ: وَيُكْرَهُ إنْ كَانَتْ مُسَبَّلَةً، وَمُرَادُهُ وَاَللهُ أَعْلَمُ: الصَّحْرَاءُ. وَفِي الْوَسِيلَةِ: يُكْرَهُ الْبِنَاءُ الْفَاخِرُ كَالْقُبَّةِ، فَظَاهِرُهُ: لا بَأْسَ بِبِنَاءٍ مُلاصِقٍ؛ لأَنَّهُ يُرَادُ لِتَعْلِيمِهِ وَحِفْظِهِ دَائِمًا، فَهُوَ كَالْحَصَى، وَلَمْ يَدْخُلْ فِي النَّهْيِ؛ لأَنَّهُ خَرَجَ عَلَى الْمُعْتَادِ، أَوْ يُخَصُّ مِنْهُ".  [يراجع: ابن مفلح: الفروع 3/380].

 وعلى ما تقدم فكراهة البناء على القبر في نظر الفقهاء لم يكن لأمر يختص بالعقيدة، وإنما لشيء آخر، واستدلال الدواعش بالحديث السالف الذِّكر استدلالٌ في غير موضعه، كما أنه ليس لهم فيه حجة؛ لأن المقصود به قبور الكفار والمشركين؛ بدليل أنه ذكر التماثيل مع القبور.

ومما يتعلق بهذا الأمر كذلك وأولته الجماعات المتشددة عناية، حكم الصلاة في المساجد التي بها قبرٌ لأحد الصالحين والأولياء؛ فقد ذهبوا إلى أنَّ الناس يذهبون إلى هذه المساجد لا لعبادة الله تعالى، وإنما تعظيمًا وعبادة للقبر، وهذا لعمري فيه مغالطات شنيعة؛ إذ ترتب على سوء ظنهم أن قام المتشددون من الجماعات الإرهابية بنبش وهدم مشاهد الأولياء والصالحين، وقالوا: إنَّ الصلاة لا تصح في المساجد التي فيها قبور.

والحق أنَّ الصلاة في تلك المساجد صحيحةٌ مقبولة إن شاء الله تعالى.

قال الشهاب الخفاجي في تفسير قوله تعالى: {فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف: 21]: «وكونه مسجدًا يدلُّ على جواز البناء على قبور الصلحاء ونحوهم كما أشار إليه في الكشاف وجواز الصلاة في ذلك البناء". [يراجع: الشهاب الخفاجي: عنايه القاضي وكفاية الراضي (6/86].

كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "في مسجد الخَيفِ قَبرُ سبعين نبيًّا" [أخرجه الفاكهي في أخبار مكة (4/ 237)، والطبراني في المعجم الكبير (12/ 414)].

ولم يُحرِّم النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في هذا المسجد، ولم يأمر بنبش هذه القبور وإخراجها من هذا المسجد.

وجاء في موطأ الإمام مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «توفي يوم الإثنين، ودفن يوم الثلاثاء، وصلى الناس عليه أفذاذًا لا يؤمُّهم أحد». فقال ناس: يُدفن عند المنبر، وقال آخرون: يُدفن بالبقيع، فجاء أبو بكر الصديق، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما دُفنَ نبيٌّ قط إلا في مكانه الذي توفي فيه»، فحفر له فيه، فلما كان عند غسله، أرادوا نزع قميصه. فسمعوا صوتًا يقول: «لا تنزعوا القميص»، فلم ينزع القميص، وغسِّلَ وهو عليه صلى الله عليه وسلم" [موطأ مالك (1/ 231)].

والشاهد في هذا الحديث: أن دفنه عليه الصلاة والسلام بجوار المنبر كان رأيًا لبعض الصحابة ولو كان دفنه في هذا المكان شركًا أو ذريعةً تجرُّ إلى الشرك لما قاله بعض الصحابة، ولو قاله البعض لنبَّههم عليه بقية الصحابة بأن ذلك مخالف للعقيدة، وهذا لم يحدث.

وقد يقال: قد ورد حديث أمنا عائشة رضي الله عنها " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ والنَّصارى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنبِيائِهم مَسجِدًا" [أخرجه البخاري في صحيحه، (1330)].

فيقال لهم: المسجد مصدر ميمي يصلح للدلالة على الزمان والمكان والحدث، ومعنى اتخاذ اليهود والنصارى قبور أنبيائهم مساجد: أنهم سجدوا لها عبادة كما يفعل المشركون في سجودهم للأصنام والأوثان، ومما يؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبَد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد».

 [أخرجه مالك في الموطأ، (85)، وعبد الرزاق في مصنفه (1587)، أحمد في المسند (7358)، والبيهقي في معرفة السنن والآثار (7822)].

فتبين مما سبق أن تكفير داعش للمسلمين بسبب البناء على القبور مخالف للعقيدة منشأه الوهم في عقول المتشددين من جهة، والجهل بأقوال العلماء المعتبرين من جهة أخرى؛ لا سيما والأمر مختلف فيه بين الفقهاء بناء على طبيعة البناء، ولم يقل أحدٌ من العلماء بتكفير من أقام بناءً على القبر إلا من شذَّ عن إجماع الأمة من أمثال هؤلاء.

 

طباعة