ماذا وراء كواليس الظهور الثاني للبغدادي؟!!

  • | السبت, 4 مايو, 2019
ماذا وراء كواليس الظهور الثاني للبغدادي؟!!

     إنّ دحر تنظيم داعش عسكريًّا في معاقله الرئيسة بـــ"العراق" و"سوريا"، لا يعني بالضرورة نهاية هذا التنظيم، لا سيما وأنّ الركائز التي يقوم عليها من الفِكر المتطرّف، والآلة الإعلامية، والتمويل، والمقاتلين، والبيئة الخصبة، ما زالت موجودة وإن ضعفت. إضافة إلى أنّ الصفوف الأولى لقيادة هذا التنظيم لا يُعرَف أماكنُ تواجدهم، ومصيرهم مجهول حتي الآن، وربما يكونون متمركزين في دول خارج نطاق الشرق الأوسط؛ وذلك لامتلاكهم الكثير من الأموال ووثائق السفر المزورة، ما يمكِّنُهم من الفرار. فمنذ أول وآخر ظهور علني لزعيم تنظيم "داعش" "إبراهيم عواد البدري" الملقب بـــ"أبي بكر البغدادي" في يوليو2014م، ليُعلن عن دولته المزعومة ويُنصِّب نفسه "أميرًا وخليفة للمسلمين"، من على منبر الجامع "النوري" الكبير في مدينة "الموصل"، معقل تنظيم "داعش" في "العراق" آنذاك، يُعاود الظهور علنًا للمرة الثانية بعد قرابة خمس سنوات من التخفي، ليُسدل الستار على التكهنات حول مصير البغدادي المجهول، ويؤكد لأعدائه قبل مناصريه أنه لا يزال حيًّا يرزق وبصحة جيدة، حيث ظهر زعيم "داعش" "أبو بكر البغدادي"، يوم الإثنين الموافق 29 أبريل 2019م، في مقطع فيديو بثته "مؤسسة الفرقان" التابعة لإعلام التنظيم عبر تطبيق "تليجرام"، مدته 18:22 دقيقة، ومؤرخ بشهر شعبان 1440هـ، ويحمل عنوان "في ضيافة أمير المؤمنين" – الخليفة إبراهيم عواد البدري الحسيني القرشي البغدادي.
ومن الواضح أن الظهور الثاني لـ "البغدادي" يختلف تمامًا عن الظهور الأول من عدة أوجه أهمها: الزمان والمكان، والحديث واللهجة ولغة الجسد، حيث كان الظهور الأول له والتنظيمُ في أوج قوته، ولذلك ظهر علانية أمام الناس، واعتلى المنبر، وخطب الجمعة في أشهر مساجد "الموصل" على مرأى ومسمع من الناس، وكان الرجل أكثر شبابًا وقوة، وكأن له نصيب من حالة هذا التنظيم قوةً وضعفًا؛ حيثُ ظهر في المرة الثانية في مكان مجهول، ولم يُعلن عنه، شيخًا وهن منه العظم، مُركزًا على الخسائر التي تعرضت لها دولته المزعومة، ودعائه لمن فقدهم من قادة التنظيم في جميع فروعه العسكرية والإعلامية وقادة الولايات على حد زعمه، الأمر الذي يؤكد بالفعل أن الضربات التي تعرض لها التنظيم في المدة الأخيرة كانت ضربات موجعة أفقدت التنظيم جزءً كبيرًا من قوته، وعددًا غير قليل من قادته، الأمر الذي يدل على أن "البغدادي" كان في انتظار أية عملية يقوم التنظيم بها؛ لحفظ ماء الوجه، وحتى يستطيع الخروج إلى أتباعه وإخبارهم أنه لا يزال موجودًا.
ويبدو أن التنظيم يُراهن على "ذئابِهِ المنفردة" في برهنة وجوده، وفي الثأر من أجل الخسائر التي تكبدها في معاقله الرئيسة في "العراق" و"سوريا"، ونقل ساحة معركته إلى دول عديدة متفرقة، لاسيما وأن تنظيم "داعش" كان له السبق في تفعيل "الذئاب المنفردة" وتجنيدها من خلال استغلال التكنولوجيا المتطورة ووسائل التواصل الاجتماعي، ببث الدعوات التي يطلقها قادة التنظيم لتنفيذ هجمات إرهابية في العديد من الدول لاسيما الغرب. وكل هذه النداءات يجب أن تؤخذ على محمل الجد، لأن "الذئب المنفرد" يتحرك وحده على نحو يصعب رصده أو توقعه خارج إطار أية جماعة منظمة، ومن هنا فإن قيام "المقاتلين الأجانب" العائدين من "سوريا" و"العراق" بأعمال إرهابية فردية يمثل خطرًا حقيقيًّا؛ لأن ما تتوصل إليه الأجهزة الأمنية من المشاريع الإرهابية التي يخطط لها هذا "الذئب المنفرد" غالبًا ما تُكتشف بمحض الصدفة.
وهذا ما تؤكده سلسلة الهجمات الإرهابية الأخيرة التي ضربت دولًا عديدة؛ حيث أشاد "البغدادي" في حديثه بسلسلة التفجيرات التي ضربت "سريلانكا" في "عيد القيامة"، يوم الأحد الموافق21 من أبريل 2019م، وأشار إلى تلك الهجمات على أنها جزء من الثأر. كما أشار في حديثه إلى أن جنود الخلافة قد نفّذوا في الآونة الأخيرة "92" عملية عسكرية ضربت "ثماني" دول دون أن يذكر تلك الدول.
وفي محاولة لتجميل صورة المقاتلين وشيطنة صورة قوات "قسد" المدعومة من التحالف الدولي؛ أثنى "البغدادي" على ثبات أفراد تنظيمه ومقاتليه حتي الرمق الأخير مُدَّعيًا أنه ثبات لنصرة الإسلام وأهله!!. وكان مما يلفت الانتباه في ذكره لأسماء قادته أن "الباغوز" احتوى على جنسيات مختلفة منها – كما ذكر من أسماء القادة- " البلجيكي- الفرنسي- الشيشاني- العراقي – السيناوي- الحجازي (السعودي) " ومن الملاحظ أن القادة السياسيين والعسكريين كانوا عربًا، بينما الجنسيات الأجنبية كانت تتولي المسئولية الإعلامية. كما تضمنت الكلمة اعترافًا بالهزيمة في معارك ( بيجي- الموصل – سيرت- الباغوز) وأن العدو ما سيطر على الأرض إلا على جثث عناصر التنظيم وأشلائهم. فنجد أن "البغدادي" شدد في كلمته على تنوع جنسيات قادة التنظيم، ليؤكد على أن التنظيم يُرحب بمختلف الألوان والأجناس والجنسيات في صفوفه، وأنه لم يُقصِر تعيين الولاة على جنس بعينه، ومحاولة منه للتأكيد على وحده صف التنظيم.
ولكن هل ظهور "البغدادي" في هذا التوقيت صدفة؟ أو أن ظهوره يمهد الطريق لإعلان أرض جديدة لخلافته المزعومة مثلما حدث عند ظهوره الأول؟ أو أنه مجرد دعم معنوي لمناصريه، وتأكيد لأعدائه على أنه ما زال حيًّا وقادرًا على البطش؟
مهما كان السبب وراء ظهور "البغدادي"، إلا أن هذا الظهور يجب استغلاله بقوة من قِبَلِ جميع الخبراء والباحثين في مجال الحركات الإرهابية والمتطرفة؛ ليستخلصوا منه أكبر قدر ممكن من الرسائل والمعلومات، ليساهم ذلك في دحر التنظيم واتقاء شروره. فعلى سبيل المثال، في الظهور الأول لـــ"لبغدادي"، كان يرتدى "لباس رجل دين" ويعلن لمناصريه من فوق منبر "مسجد النوري" بمدينة "الموصل" العراقية، قيام الخلافة المزعومة في "الشام". ولكنه في الظهور الثاني كان يرتدى "جلبابًا فوقه سترة لها صبغة عسكرية"، ويحمل بندقية "كلاشينكوف" من طراز قديم، نفس الطراز الذي كان يحمله زعيم القاعدة "أسامة بن لادن"، وهو طراز " krinkov aks-74u"، حيث يحتوي الطراز، إضافة إلى مميزات البندقية الآلية العادية، على مخفف للارتداد، وهذه ميزة تناسب هذا الشيخ الإرهابي. والصورة تحمل رسالة إلى مناصريه بأن الوضع أصبح خطيرًا بسبب ما وصفه البغدادي قائلًا : "المعركة الطويلة للإسلام وأهله مع الصليب وأهله"، وفي هذا الأمر رسالة إلى مناصريه بضرورة حمل السلاح والتصدي لدول التحالف الدولي، خاصة بعد خسارتهم المعركة الأخيرة في مدينة "الباغوز"، آخر جيب كان يتشبث فيه مقالتو التنظيم في "سوريا". كما قام بتذكير مقاتلي التنظيم بمن سبقوهم من أبطال وقادة إلى الشهادة، وأخبرهم "لسنا مأمورين بالنصر وإنما بالجهاد"، ما يوحي بأن التهديد الداعشي ما زال مستمرًا؛ بل ويشمِّر عن ساعده للتخطيط وشنِّ هجمات جديدة.
وانتقل بعد ذلك "البغدادي" ليطوف في البلاد؛ فذكر دخولهم بلدة الفقهاء وهزيمتهم فيها (مع التنبيه أنه لم يذكر أبدًا أنهم هُزموا لا في الباغوز ولا في غيرها، وإنما يختار ألفاظًا أخرى مثل : انحسارهم عنها، لجوؤهم...إلخ)، وذكر أن الحرب الآن حرب استنزاف، وهذا يعني عدم قدرة التنظيم على المواجهة المباشرة كما كان سابقًا بل هي حرب شوارع وعصابات يتعاملون فيها كالفئران.
ولم يكُف "البغدادي" عن ذكر تلك الاسطوانة الفارغة التي يرددها دائمًا أتباع الجماعات المتطرفة من وجوب الجهاد وأنه ماضٍ إلى يوم القيامة. ويبدو- من كلامه - أن التنظيم في "العراق" و"الشام" لم يعد له أية قوة فهو لم يتطرق من قريب أو بعيد إلى الوضع في "سوريا" أو "العراق"، لذا وجه الحديث بعد ذكر ليبيا إلى مبايعة بعض التنظيمات له في "بوركينا فاسو" و"مالي" و"خراسان"، وكأنه يريد أن يرفع الروح المعنوية لتنظيمه لاسيما عند ذكره لــ"خراسان" معقل تنظيم "القاعدة".. فهو يبشرهم باتساع دولتهم المزعومة مع أنهم أفراد معدودة في بقع محدودة مجهولة لا ترقى إلى أن تكون قوة معتبرة في تلك الدول ولكنها حيلة المفلس حين يتباهى بأقل شيء ويعتبر ذلك نصرًا ومجدًا!
ويمكن أن يكون الظهور العلني لزعيم "داعش" والاعتراف بخسارة معركة "الباغوز"، مؤشرًا للمرحلة الانتقالية التي يعيشها التنظيم، حيث يسعى وبقوة إلى تدشين مركز قيادة مركزي لخلافته المزعومة بديلًا عن مركزه الذي فقده في "العراق" و"سوريا"، والأكثر ترجيحًا أن مركز القيادة هذا سيكون في إحدى الولايات التي تم عرض التقرير الشهري للعمل فيها على "البغدادي" خلال هذا الفيديو، وهي : ولاية العراق، ولاية الشام، ولاية خراسان، ولاية غرب إفريقية، ولاية وسط إفريقية، ولاية ليبيا، ولاية الصومال، ولاية اليمن، ولاية القوقاز، ولاية تركيا، وتونس. ومن خلال العرض هناك إبراز بكاميرا التصوير على "ولاية اليمن"، ما يدل على أن التنظيم سيكثف نشاطه الإجرامي فيها خلال المرحلة المقبلة. ولكن الغريب في أمر هذه الولايات، أن التنظيم قد ذكر ولايات غير معلنة من قبل، مثل "ولاية تركيا" إضافة إلى أنه لم يصف "تونس" بكلمة "ولاية".
كما أنه في عرض تقرير العمل اليومي في تلك الولايات، إشارة إلى أن "البغدادي" يتابع حال الوضع في المناطق التي أعلن التنظيم سيطرته عنها من قبل، حتى وإن كان قد فقدها على أرض الواقع، ما يؤكد على أن التنظيم يسعى بقوة إلى توفير مناخ فوضوي ليعبُر مرحلته الانتقالية التي يعمل فيها الآن على توحيد صفوفه وإعادة ترتيب أوراقه في "سوريا" و"العراق"، والعودة إلى تصدر المشهد الإرهابي بشراسة.
فمن المحتمل أن يكون معقله الجديد في منطقة بعيدة عن دائرة الصراع في الشرق الأوسط، أو ربما فيه، وصالحة لاحتضانه ونشر أيديولوجيته، وذلك حال تمكنه من إيجاد بيئة مواتية في أراضي إحدى الولايات المبايعة سلفًا له؛ ليستغلها في التخطيط للهجمات الخارجية، ولتجميع مقاتليه المشردين بعد سقوط معاقله في "سوريا" و"العراق"، ولاستقبال مقاتليه المفرج عنهم من السجون المحلية أو الأوروبية بعد انقضاء مدة عقوبتهم، ما يشكل تهديدًا عالميًّا أشرس من ذي قبل، لا سيما وأن "البغدادي" قد أشاد بمقاتلي التنظيم في "ليبيا"، و"بوركينا فاسو" و"مالي"، وطالبهم بتكثيف الهجمات ضد دول التحالف الدولي، لا سيما "فرنسا". ووجه النصيحة لأتباعه بالثبات والوحدة والنصر، وكأنه يريد أن ينبههم إلى سبب مهم كان له بالغ الأثر في تقهقر التنظيم وهزيمته ألا وهو الفرقة والاختلاف فيما بينهم.
وفي خضم كل تلك التفاصيل والأحداث ذكر أنه يتابع تولي "نتنياهو" حكومة "يهود" وفقط، لم يوجه لهم تهديدًا ولم يستغرق ذلك من تحذيراته وتهديداته، بل ولا كلماته سوي بضع ثوان، وكأنه يخاف منهم، في حين يحكي انتفاخًا صولة "الأسد"، ويكيل الاتهامات حين يتكلم عن غيرها من الدول العربية والإسلامية!.
وانتقل بعد ذلك إلى الوضع في "الجزائر" والسودان معبرًا عن أسفه تجاه هذه التغيرات التي تستبدل طاغوتًا بطاغوت، ويظهر أن الرجل لم تستطع كتائبه التواجد بشكلٍ كبيرٍ في هذه الأماكن- مع ضرورة الحذر في تلك البلاد حيث تنشط هذه التنظيمات وتتسلل في مثل تلك الظروف التي تمر بها "تونس" و"الجزائر" من فراغ سياسي وأمني- ووجه الناس هناك إلى سلوك السبل الشرعية لتغيير النظم المرتدة، فهؤلاء لن ينفع معهم إلا السيف "الجهاد".
وهنا موقف في الفيديو غريب جدًّا حيث بدأ الكلام بشأن "سريلانكا" وحادثة الزلفى في الرياض ولكن نبرة الصوت تغيرت وصورة البغدادي اختفت، مع أن حدثًا كهذا من المفترض أن يتباهى به "البغدادي" بنفسه إذ هو مَكَسب كبير لهم، مقارنة بهؤلاء في "بوركينا فاسو" و"مالي"، ولكن يبدو أن الفيديو تم تسجيله في جزئه الأول المرئي قبل أحداث "سريلانكا" ، ثم بعد ذلك أضيف إليه هذا الصوت، وهذا يعطينا نتائج منها:
1- أن "البغدادي" ينتقل في أماكن مختلفة إذ لو وجد في المكان ذاته مع الأشخاص أنفسهم لسهل عليهم إضافة هذه الجزئية صوتًا وصورة.
2- أن المقربين له ومن يملكون أسراره قلة فليس كل أهل التنظيم ثقة بالنسبة له، وإلا لماذا لم يسجل قضية "سريلانكا" صوتًا وصورة؟ الجواب أنه لم يستعد لذلك بالمكان والكاميرات والمصورين.
3- ربما لم يسجل "البغدادي" ذلك في المكان الذي يختبئ فيه؛ إذ يظهر أنه كان يرتدي جوربًا ويحمل سلاحًا بمحتوياته وحزامه الذي يربطه حول وسطه فنزع الحزام والسلاح ووضع ذلك إلى جواره، أما الأشخاص الآخرون فلا يرتدون جوارب، ويحملون أسلحتهم وأحزمتهم، فإما أنهم جميعًا مرتحلون أو أن "البغدادي" مرتحل إليهم من مكان ما.
وإذا أمعنا النظر فيما يرتديه "البغدادي" ورفقاؤه الثلاثة الذين تم إخفاء ملامح وجوهم يدل على برودة الطقس نظرًا للملابس الشتوية الثقيلة التي يرتدونها. ويجلسون على ما يُطلق عليه "مجلس عربي"، ما يشير إلى احتمالية وجود "البغدادي" في شرق "سوريا" أو غرب "العراق"، حيث ينتشر هذا النوع من الأقمشة، وربما يكون هذا الكادر مقصودًا لصرف الأنظار عن المكان الحقيقي الذي يتواجد فيه البغدادي الآن.

 

طباعة
كلمات دالة: مرصد الأزهر