التنمُّر.. ودوره في صناعة التطرُّف

  • | الثلاثاء, 7 مايو, 2019
التنمُّر.. ودوره في صناعة التطرُّف

     ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ المجتمعَ يعجُّ بالعديد من السلوكيات غير السويّة، والتي تؤثر بطريقةٍ مباشرةٍ أو غيرِ مباشرةٍ في تشكيل ملامح الشخصيّة الأكثرِ عُرضةً للوقوع في براثن التطرّف، ومن بين تلك السلوكيات يأتي "التنمُّر" والذي يُعرَّف بأنّه سلوكٌ عدائيٌّ متكررٌ يتَّسِمُ بالعنف، يمارسه شخصٌ أو جماعةٌ؛ بهدف الاستقواء وإثارة الذُّعر والخوف في نفوس الآخرين، ووضعهم في قفص العزلة الاجتماعيّة بسبب الدِّين أو العِرق أو اللون أو الملبس...، ويُعَبِّرُ التَّنمُّر عن افتراضٍ –وهميّ- بوجود اختلالٍ في موازين القوى والسّلطة بين الأشخاص؛ فالشخصُ الذي يمارس التَّنمُّر يرى في نفسه استعلاءً على الضحيّة التي يمارسُه عليها، وفي كلتا الحالتيْن، سواءً أكان الفرد من المتنمّرين أو من الضحايا، فإنَّه مُعرّضٌ لمشاكلَ نفسيّةٍ خطيرةٍ ودائمةٍ تَصلُ به إلى حَدِّ التطرّف أو الإرهاب.

ووسائلُ التَّنمُّرِ متعددةٌ، منها ما هو عن طريق الاعتداء النفسيّ أو الجسديّ أو اللفظيّ أو الاجتماعيّ أو العِرقيّ. ويُمارَس التنمُّرُ في كل مكانٍ سواءً أكان على مستوى الأسرة أو المجتمع أو مكان العمل أو الدراسة أو عبر منصات التواصل الاجتماعيّ أو المنصات الإعلاميّة أو حتى في الممارسات السياسيّة.

فالتَّنمُّرُ أو "الاستئساد" أو "الاستقواء" أحدُ ركائزَ التطرّف، لا سيما بعد انتشار التَّنمُّر الإلكترونيّ والإعلاميّ؛ لأنَّه يدفعُ الجانيَ المُتنمّرَ إلى ممارسة العنف والخروج عن عادات وتقاليد المجتمع، ويدفع الضحيّة إلى العزلة والانطوائيّة عن المجتمع، ومِنْ ثَمَّ يكونُ فريسةً سهلةً للتطرّف تنخرطُ بيُسرٍ في الحركات والجماعات التي ترفض مبدأَ التعايشِ المُشترك، وتدعو لإقصاء الآخرَ مستخدمةً العنف وسيلةً لذلك.

كما نجد أنَّ الحركاتِ اليمينيّة المتطرّفةِ والجماعات المتطرّفة رُغم تعارض الأيديولوجيّات، قد مارست بجدارةٍ التَّنمُّرَ الإلكترونيّ والإعلاميّ، من خلال بثِّ دعايتها المرئيّة والمقروءة والمسموعة، التي تُعزِّز الفُرقة بين نسيج المجتمع الواحد، وتدعو لرفض مبدأ التعايش المشترك، وذلك لانطلاقهما من مبدأ صراع القوى وصراع الحضارات، وهو ما يوقِع الطرفيْن في بوتقة الكراهية والتعصب الأعمى لآرائهم ورفض الآخر. فالحركات اليمينيّة المتطرّفة ترى في الهجرة طمسًا للهُويَّة الأوروبيّة، واعتداءً على قيمة الإنسان الأوروبيّ الأبيض، لذا تُؤجِّجُ وتُغذّي خطابَ الكراهية ضدَّ المسلمين والعرب المقيمين في المناطق غير العربية. وكذلك الجماعات المتطرّفة تُكفِّرُ كافة طوائف المجتمع ليس فقط غير المسلمين، وذلك للوهم النفسيّ الذي تعيشه من الفوقيّة الحقيقيّة والحكميّة على بقيّة الأطياف المجتمعيّة، وبالتالي ترى قيمة الحياة والموت مرتبطةً فقط بانتماء الشخص إليهم من عدمه؛ فتصبحُ القيم الإنسانيّة العليا بهذا المنظور قيمًا مرتبطةً بفئاتٍ من المجتمع الإنسانيّ تَبرُزُ وتختفي تبعًا لعواملَ اقتصاديةٍ وسياسيةٍ في المقام الأول.

تلك الأعمال الّلاإنسانية التي يُسبِّبُها "التَّنمُّر" تُغذّي لدى قطاع عريضٍ من الشباب حبَّ العنف والإجرام، لاسيما ممّنْ لديْهم ميولٌ إجراميةٌ أو ساديّةٌ ويعشقون المغامرات. فنجدُ أنَّ الدولَ التي تنشطُ على أراضيها حركاتُ "اليمين المتطرّف"، أصبحت مرتعًا عالميًّا للإرهاب بسبب (الإسلاموفوبيا)، ومصدرَ إلهامٍ لإرهابيّي الحركة العنصريّة البيضاء، الذين يعتبرون أنفسَهم في حربٍ صليبيّةٍ ضدَّ الإسلام والمسلمين. فعلى سبيل المثال لا الحصر وقعت العديد من العمليات التي استهدفت المسلمين بشكلٍ جماعيّ، مثل : المذبحة التي ارتكبها "أندرس بريفيك" في 22 من يوليو 2011، والمُنتمي للفكر اليمينيّ المتطرّف في جزيرة "أوتويا" بالقرب من "أوسلو"، حين أطلقَ النَّار على مُخَيَّمٍ للشباب، ما أسفر عن مقتل نحو 69 شخصًا. والأدهى من ذلك أنَّ "أندرس بريفيك"، المُلَقَّبَ بـ"قائد فرسان المعبد"، رفض الاعتراف بأنَّه "مذنبٌ" خلال محاكمته التي يُواجِه فيها تُهْمَتي الإرهاب والقتل العمد، اعتقادًا منه بأنَّه يَشنُّ حربًا على "أسلمة" أوروبا، بالإضافة إلى رفض الإعلام الغربيّ وصف الجاني آنذاك بـ "الإرهابيّ"، مستعيضةً عن ذلك بـوصفه بــــ"الذئب المنفرد"، كنوعٍ من "التَّنمُّرِ الإلكترونيّ والإعلاميّ" على فئات المجتمع الذين ينتسبون للإسلام؛ الأمر الذي يجعل بعضًا من هؤلاء المسلمين يشعرُ أنَّه ضحيةٌ يُمارِسُ عليها تنمُّرًا سياديًّا لا مفرَّ منه؛ ما يُجذِّرُ في نفسيتِهِ ولاوعيه الشعور بالعنصريّة والميْل إلى التطرّف الفكريّ، ومِنْ ثَمَّ إلى العنف المُسلَّح للانتقام من هذه العنصريّة والتنمُّر، فيصبحُ التنمُّرُ في هذه الحالة دافعًا ومُحرّكًا لدى البعض لاعتناق أفكارٍ متطرفةٍ.

 ولا ننسى المذبحةَ التي نفَّذها "ألكسندر بيسونيت" على المركز الثقافي الإسلامي في "كيبك" (CCIQ)، مساء الـ 29 من يناير 2017، والذي أودى بحياة ستة مُصلّين. وكانت هذه المذبحةُ مصدرَ إلهامٍ لمُنفِّذِ أكبرِ مذبحةٍ في حقِّ المسلمين في أوروبا، "برينتون تارنت" داخل اثنيْن من مساجدَ منطقة "كرايست تشيرش" بـ "نيوزيلندا"، خلال أدائهم صلاة الجمعة، والتي راح ضحيتُها نحو خمسين مُصلّيًا، في 15 مارس 2019.

كذلك لا ننسى القوانين المقيِّدة لحريّة المسلمين في المجتمعات الغربيّة،  مثل التي تتعلّقُ بحظرِ الحِجاب في المدارس والنّقابِ في الأماكن العامّة. أَضِفْ إلى ذلك، الجدل الأبديّ حول ارتداء الحجاب والبوركيني، ومصاحبة الأمهات المحجبات لأبنائهنَّ في الرحلات المدرسيّة، والتمييز فيما يتعلق بتوظيف النساء المحجبات، والملابس الرياضيّة للمحجبات، وفرض حالة الطوارئ، والتغطية الإعلاميّة اليوميّة حول الإسلام وتشبيهه بالإرهاب، والكتابات الدوريّة المثيرة للجدل، والتي تُغذّي بشكلٍ دوريّ النقاشات الإعلاميّة الهستيريّة حول الإسلام، والتصريحات الشعبويّة لبعض الساسة الذين يميلون إلى تبرير أعمال العنف من اليمين المتطرّف ضدَّ المسلمين بالإسلاموفوبيا، والتي تُغذّي الخوف من الإسلام، وكذلك الاعتداءات على الأفراد وأماكن العبادة الإسلامية التي تشارك فيها حركات اليمين المتطرّف.

وكذلك فإنَّ الجماعات المتطرفة تُمارس تنمُّرًا ضدَّ كلِّ مَنْ يُخالفهم الرأي، وذلك من خلال استغلال النصوص الدينيّة التي توظّفها الجماعات بشكلٍ مُجْتَزَءٍ يَمتازُ بتدليسٍ قويٍّ من أجل ممارسة التنمُّرِ والتهميشِ الطائفيّ لفئاتٍ مُعيَّنةٍ لا تتوافقُ أيدولوجياتها مع ما تتبنَّاه من فكرٍ متطرّفٍ، فتحاول أنْ تفرضَ رُؤَاها وأفكارَها المتطرّفة دون مراعاةِ الخلفيّات الثقافيّة والتاريخيّة والدينيّة المختلفة والمُتغايرة حسب السياقات الثقافيّة المُتعدّدة.

طباعة