قراءةٌ في الإرثِ الإعلاميّ لداعش

  • | الخميس, 9 مايو, 2019
قراءةٌ في الإرثِ الإعلاميّ لداعش

     تُضفي كلُّ دولةٍ على مستوى العالم الكثيرَ من المزايا على المُلتحقين بجيشها؛ لأنّ الجنود قد يتعرَّضون لمواقفَ يُضحُّون فيها بأنفسهم في سبيل الوطن، ومِنْ ثَمّ كانت كلُّ مزيةٍ في مقابل هذه التضحية، مهما عَظُمَت، قليلةً؛ إلا أنَّنا عندما ننظر إلى ما فعله تنظيم داعش الإرهابي المتطرّف، نجد أنّه قد اهتمّ بفئةٍ أخرى، وأغدق عليها المزيد من المزايا التي تفوق أضعاف مزايا الجنود المقاتلين، وهم فئةُ العاملين في مجال الإعلام؛ حيثُ ذكر موقع "وور أون ذا روكس" الأمريكي نقلًا عن صحيفة "ذا واشنطن بوست"، في عام 2015، أنَّ "مصوري الفيديو والمنتجين والمحررين في التنظيم هم فئةٌ مهنيةٌ متميّزةٌ ذات مراكزَ ورواتبَ وترتيباتٍ معيشيّةٍ يحسدهم عليها المقاتلون العاديُّون".
وبعد بضعة أشهرٍ، كان التنظيمُ يدفعُ للعاملين في المجال الإعلاميّ سبعةَ أضعاف ما يتقاضاه المقاتلُ العاديّ تقريبًا، وأنَّ المُجنَّدين ذوي الخلفية المتخصّصة في القدرات المتعلقة بالمعلومات - ابتداءً من الإنتاج والتحرير وانتهاءً بالتصميم الجرافيكي – كانوا يحصلون على مكافآتٍ وتقديرٍ لقاءَ مهاراتهم التي يراها التنظيم مهمةً للغاية بالنسبة لمشروع "دولته الإسلامية" المزعومة.
وعلاوةً على ذلك، فإنَّ "المصوّرين الصحفيّين" كانوا يمثّلون أهميةً بالغةً في كلِّ مكانٍ في أرض الخلافة؛ حيث كان للتنظيم الإرهابي في ذروة أوجه 54 مكتبًا إعلاميًّا حول العالم، ومئاتٍ - وربما أكثر - من العاملين في وسائل الإعلام الذين يعملون على إنتاج الآلاف من المنتجات الإعلامية شهريًّا – كما هو موضح في الشكل أدناه:

Image

وقد آتتْ هذه الآليّة التي تبنَّاها التنظيم الإرهابي أُكُلَها؛ حيث نجدُ أنَّ المنتجات الإعلاميّة له لم تضاهيها منتجاتُ التنظيمات الإرهابيّة الأخرى مجتمعةً، ليس فقط من حيث جودة الإنتاج، بل من حيث الكمّ أيضًا. فمنذ إعلانِ الخلافة المزعومة عام 2014، أنتجت داعش عشراتِ الآلاف من المنتجات الدعائيّة. وفي حين كان التنظيم الإرهابيّ في أوهن مراحله، كان يقوم بإنتاج حوالي 20 منتجًا إعلاميًّا كل يومٍ.
ومن الملفت للنظر أيضًا تنوُّعُ المنتجِ الإعلاميّ الذي تنشره هذه المنافذُ الإعلاميّةُ التابعةُ للتنظيم الإرهابيّ حسبَ الجمهور المُتلقي؛ حيث يختلف المحتوى باختلاف جمهور القراء. ففي البداية، نجد أنَّهم كانوا يحرصون على مخاطبة كلّ بقعةٍ باللغة التي يجيدونها، ومِنْ ثَمَّ تنوَّعت إصداراتهم بمختلف اللغات، هذا إضافة إلى حرصهم على عوامل الجذبِ من حيث التصميم عالي الدقةِ، ونقاء الصورة، وبراعة الإخراج.
وإذا كان التنظيم الإرهابي يشهد حالةً من التفكُّكِ والانهيار في الوقت الحالي؛ فإنَّ الأراضيَ التي يسيطر عليها آخذةٌ في التَّقَلُّص على نحوٍ كبير، والعنصرَ البشريَّ لديه آخذٌ في الانخفاض الشديد، واحتياطياته النقديّة تُستنزف. وعليه فبحلول هذا الوقت من العام المقبل، فلن يكونَ التنظيمُ على عهده القديم من القوة، بَيْدَ أنَّ الإرثَ الذي خلَّفه وراءه من وسائل اتصالاتٍ إستراتيجيّةٍ سيبقى. وهذا بدوره يطرحُ سؤالًا بالغَ الأهميّةِ حول هذا المحتوى الإعلاميّ الضخم الذي خلّفه: هل القضاءُ على داعش ميدانيًّا يقضي على هذا المحتوى وهذا الإرثِ الإعلاميّ الضخمِ له؟ أمْ إنَّ القضاءَ على التنظيم في هذا الجانب يتطلَّبُ خوْضَ حربٍ إعلاميّةٍ أكثر ضراوةٍ؟
لقد تنبَّه الأزهرُ الشريفُ إلى هذا الأمر من البداية، فقرَّرَ إمامُه الأكبر إنشاءَ مرصدِ الأزهرِ بالُّلغَات الأجنبيّة عام 2015 والذي تطوَّر تطوُّرًا طبيعيًّا ليصيرَ الآن مركزَ الأزهرِ العالميّ للرصدِ والفتوى الإلكترونيّة الذي يعملُ الآن بجناحيْن؛ الجناح الأول: مرصد الأزهر لمكافحة التطرّف الذي يرصد أحوالَ الإسلام على مستوى العالم، وأخبارَ الجماعات المتطرفة وإصداراتِها وشبهاتِها ويُحلِّلُها ويردُّ عليها وفقًا للمذهب الوسطيّ الذي يتبنَّاهُ الأزهرُ منذ نشأته؛ والجناح الآخر: المركز العالمي للفتوى الإلكترونيّة الذي يسعى الأزهر من خلاله إلى التواصلِ مع جميع المُسْتَفتين حول العالم مِمَّنْ يرغبون في معرفة الرأي الشرعيّ الصحيحِ في أيّةِ مسألةٍ شرعيّةٍ. لقد جاءت هذه الخطوةُ إيمانًا من الأزهر بحتميّةِ المواجهة الفكريّة؛ حيث إنَّ الأفكارَ لا تموت إلا إذا تمَّتْ مواجهتُها فكريًّا، ومِنْ ثَمَّ كان من الضروريّ والحتميّ أنْ تَسيرَ المواجهةُ الفكريّةُ جنبًا إلى جنبٍ مع المواجهةٍ الأمنيّة.
إنَّ النَّجاحَ في القضاء على تأثير هذا الإرثِ الإعلاميّ لداعش يتوقَّفُ على عدةِ عواملَ، يتمثَّلُ أُولَاها في تضافر الجهود فيما بيْن دول العالم كافةً من أجل المواجهة الفكريّة، وذلك من خلال تخصيص الموارد الكافية لهذا الغرض والكفاءات المُدرَّبة التي تستطيع التعاملَ مع مثل هذه الأيديولوجيات والأفكار، فضلًا عن توفير المنصات التي يمكنُ من خلالها نشرُ الردودِ على شبهات هذه التنظيمات وتفنيدها على أوسعِ نطاقٍ مُمْكنٍ. أمَّا العاملُ الثاني فيتمثَّلُ في تطوير برامجَ وآلياتٍ تحول دون نشر منتجات هذه الجماعات على نطاقٍ واسعٍ، وذلك من خلال التعاون بيْن كُبْرَيَات شركاتِ البرمجةِ ومُزَودي خدماتِ الإنترنت في هذا الصدَد. ومن أهمِّ العواملِ أيضًا الرجوعُ إلى الهيئاتِ الإسلاميّةِ المُعْتمدة من أجل استقاءِ المعلومات الصحيحة والتفسير الموثوق لكلّ ما يتعلقُ بالشئون الدينيّةِ من أجل التغلب على المخاطر التي تنتجُ عنْ تَصدُّرِ بعضِ قاصري الفَهْمِ وأنصافِ المتعلّمين وغير المؤهلين فيما يخصُّ الشئون الدينيّة.

وحدة الرصد باللغة الإنجليزية

 

طباعة