رمضان وفرانكفونيو الغرب

  • | الأحد, 2 يونيو, 2019
رمضان وفرانكفونيو الغرب

     رمضان شهر الجُود والكرم، شهر العبادة وعُلُوِّ الهمم، شهر يجمع المسلمين على موائد إفطارهم وسحورهم كما يجمعهم في صلواتهم وقيامهم. وتساعد هذه الأجواء التي تملأ أيام هذا الشهر الكريم ولياليه على نشر المحبة والمودة بين المسلمين الذين يصومون معًا ويُفطرون معًا ويجتمعون فيه على الطاعات والعبادات كما يجتمعون عندما يتبادلون الزيارات. إن كان هذا هو فَضل الشهر المبارك على أبناء المجتمع الإسلامي فيما بينهم وخصوصًا في الدول الإسلامية أو تلك التي يتواجد بها جاليات إسلامية كبيرة، فهل يُمكن أن يكون لمظاهر هذا الشهر دور في تدعيم أواصر الأخوة الإنسانية بين المسلمين وغير المسلمين من أبناء الأديان والثقافات المختلفة في بلاد الغرب فضلًا عن بلاد الشرق؟
من المؤكد أن تبادل التهاني والزيارات بمناسبة الأعياد أمرٌ من شأنه تأليف القلوب ونشر مشاعر المودة والسلام ودعم مبادئ قبول الآخر والتعايش السلمي ونبذ العصبية والعنف والخلاف والتناحر بين أبناء الوطن الواحد على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية وثقافاتهم وأديانهم وأعراقهم. وفي هذا الإطار قمنا برصد بعض مظاهر احتفاء الدول الغربية الناطقة بالفرنسية بقدوم هذا الشهر الكريم ومحاولة الجاليات المسلمة -وكذلك غير المسلمين- في هذه الدول اغتنام هذه الفرصة السانحة لإذكاء روح التسامح وقبول الآخر.
ففي فرنسا، وهي واحدة من أكبر الدول الغربية من حيث عدد المسلمين، تستعد المساجد لاستقبال شهر رمضان، فنجد على سبيل المثال مسجد مدينة "بوڤيه" الذي يجتمع فيه بعض المسلمون تحت قيادة إمام المسجد من أجل بذل الصدقات ومساعدة المحتاجين، حيث تقوم دور العبادة في رمضان بجمع التبرعات لإعادة توزيعها على المحتاجين؛ مما يسمح لهم بعيش كريم خلال هذا الشهر. وعلى جانب آخر يحاول المسلمون الانخراط في المجتمع المحيط بهم، فتقول "ابتسام سهلي" وهي مسلمة مِمَّن يرتادون هذا المسجد: "صباح كل يوم أعطي لجيراني غير المسلمين بعضًا من وجبة الإفطار التي أعددتها الليلة الماضية. يجب علينا ألا نُقْصِرَ العطاء على المجتمع الإسلامي"، وتؤكد على الجانب الروحاني للصوم فتقول : "إنه شهر المشاركة ويجب علينا أن نُضاعف خلاله أعمال الخير".
وفي منطقة "رون- ألب"، التي تحتل المرتبة الثالثة من حيث عدد المسلمين في "فرنسا" بعد "باريس" و"مارسيليا"، حيث يُقدّر عدد المسلمين بها بـ 300 ألف مسلم، والمرتبة الثانية من حيث عدد المساجد بعد "باريس"، ويبلغ عدد المساجد بالمنطقة حوالي 300 مسجد، تُعَدُّ وجبة الإفطار في شهر رمضان فرصة للمقابلات الودية بين أفراد العائلة والجيران.
أما عن العاصمة "باريس"، ففي شهادة لإحدى المسلمات المقيمات بها، قالت "فتيحة" وهي من أصل مغربي: "أفضل صوم رمضان هنا عن قضائه في الدار البيضاء بالمغرب"، وعن سبب ذلك قالت: "هنا، أصوم لنفسي. فليس هناك من يسبب لي التوتر أو من يحاول أن يثبت لي أنه مسلم أفضل. وفي عملي، لا شيء يتغير، ولا يعرف أحد إذا ما كنت صائمة أم لا. حتى وإن كان البعض يظن أنني أصوم رمضان إلا أنهم لا يُعلقون على هذا. فصيامي لا يخصُّ أحدًا غيري وليس لأحد الحق في أن يحكم عليَّ أو أن يفرض عليَّ ملابسي أثناء هذا الشهر. أما في "الدار البيضاء" فالأمر مختلف، فأثناء النهار يكون الجو متوترًا ونشعر أن الناس ليسوا في حالتهم الطبيعية، عصبيتهم لا تحتمل لدرجة أننا قد نظن أنهم صائمون رغمًا عنهم، وخصوصًا المدخنون الذين لا يتحملون الحرمان من التبغ طوال ساعات النهار....". ولكنها على الرغم من ذلك ترى أن أجواء رمضان في "باريس" ينقصها الروحانية التي تميز هذا الشهر عن غيره من الشهور، فقالت: "أنا لا أذهب إلى المسجد، ولا أرى هذه الروحانية في وجوه المسلمين الذين أعرفهم. لقد تأثرنا، برغبتنا أو رغمًا عنا، بالمادية الغربية".
وفي "كندا"، هنأ رئيس الوزراء الكندي "جاستن ترودو" مسلميها بمناسبة حلول شهر رمضان الكريم. ولم يكتف رئيس الوزراء الكندي بكلمات التهنئة بل شارك الجالية المسلمة في مدينة "ميلتون" في إقامة مأدبة إفطار جماعي ومساعدة المتطوعين في إعداد عبوات المواد الغذائية المخصصة لمساعدة المحتاجين خلال شهر رمضان. وأكَّد عبر كلمة ألقاها بهذه المناسبة على أن هذا الشهر يُرسِّخ القيم التي يدعو إليها الدين الإسلامي الحنيف كالتضامن ومساعدة الآخرين مما يدعو إلى التحلي بالكرم والإيثار طوال شهور العام. وأضاف "جاستن ترودو": "علينا كذلك العمل سويًّا حتى يتمكن الجميع من ممارسة دينه وشعائره بحرية تامة. فلقد ساهمت الجالية المسلمة في جعل "كندا" بلدًا أفضل، واليوم هو يوم الاحتفال بشعائرهم، فعلينا تهنئتهم". واختتم "ترودو" كلمته بتمني السعادة والسلام لكل من يؤدي شعيرة الصوم.
أما في "بلجيكا"، التي يعيش بها حوالي 800 ألف مسلم، فقد أعلن المتحف اليهودي بـــ"بروكسل"، والذي تعرض لهجوم إرهابي في عام 2014 أدى إلى مقتل أربعة أشخاص، عن تنظيمه حفل إفطار جماعي بمناسبة شهر رمضان، ويتخلل الحفل فقرات من أمسية ثقافية تحت شعار "تمازج الثقافات" بهدف "تعزيز التبادل الثقافي بين الأديان". ويبدأ البرنامج بمسابقة موضوعها الثقافتين اليهودية والإسلامية، كما يمكن للمدعوين أيضًا زيارة معرض "الآخر هو أنا" الذي تم افتتاحه مؤخرًا و"الذي يُسلط الضوء على نموذج التعايش".
ومن جهة أخرى فقد نظم الاتحاد الإسلامي البلجيكي إفطارًا شاركت فيه شخصيات سياسية وممثلون عن منظمات المجتمع المدني، وألقى خلاله "محمد أوستون" رئيس المجلس التنفيذي لمسلمي "بلجيكا" كلمة أشار فيها إلى أن شهر رمضان يعني "عمل الخير والمشاركة والأُخُوَّة". كما أكّد أن هذا الإفطار الجماعي "دليل على عقول متفتحة تعكس حُبَّ الإسلام للتعايش والسلام". كما نظم أيضًا المجلس الأوروبي لعلماء المغرب حفل إفطار في "بروكسل" دعا إليه عددًا من ممثلي الديانات المختلفة، ودبلوماسيين من دول عربية وإسلامية، وممثلين محليين منتخبين، ورؤساء رابطات المساجد. وسار الحفل في جو من المودة والأخوة مع تأكيد الحاضرين على ضرورة سيادة مبادئ السلام والتعايش داخل المجتمع البلجيكي.
وفي "سويسرا" ربما لا يختلف الأمر كثيرًا، ففي حوار مع "سارة مجماج" وهي طبيبة نفسية مسلمة من أصل جزائري تُقيم في مقاطعة "ڤو" الواقعة في غرب البلاد، قالت عن شهر رمضان: "رمضان هو شهر التقرب إلى الله، شهر نتلاقى فيه لنتقدم معًا ونتعاون فيما بيننا". وردًّا على سؤال عن رؤية من حولها من غير المسلمين لصومها في شهر رمضان، قالت: "كل من يعرف عن صومي يُبدى احترامه للأمر. ومرضاي كذلك لأننا أحيانًا ما نتحدث عن الدين لأسباب تتعلق بالطب النفسي. بعض الناس تشعر بالفضول، ولكن الجميع يُبدي احترامه لأن الاحترام وحرية التعبير من القيم المُقدَّرة في سويسرا". ولكنها من جهة أخرى ترى أن أصعب ما يواجهها في الصيام في "سويسرا" هو افتقارها للجو العائلي والديني الذي تجده في النداء للصلاة والذهاب إلى المسجد لأداء صلاة التراويح، حيث لا تجد بعد العمل الوقت الكافي لأشياء أخرى: ومنها جانب العلاقات الإنسانية المُهمَل قليلًا. والجدير بالذِّكْرِ أن عدد المسلمين في "سويسرا" يتجاوز الـ 400 ألف مسلم.
وختامًا نستطيع القول: إنه على الرغم من تعرض المسلمين أحيانًا لبعض المضايقات والأفعال التي تستفز مشاعرهم الدينية، ومنها على سبيل المثال تدنيس المساجد والمقابر، إلا أننا نجد في شهر رمضان فرصةً مواتيةً لنقل صورة صحيحة إلى الغرب عن الإسلام والمسلمين، وفرصة للحوار الحضاري والاندماج على موائد الإفطار أو السحور بين المسلمين وغيرهم من أبناء المجتمعات التي يتواجدون فيها مما يسمح بالتخلص من الأفكار النمطية والأحكام المُسبقة ورُهاب الإسلام حتى يتمكن الجميع من التعايش في سلام واستقرار وتحقيق الأمن والسلام الاجتماعي في شتّى بقاع الأرض، وذلك مصداقًا لقول الله تعالى: "وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ  ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ" (سورة فُصِّلت: الآية 34).

وحدة رصد اللغة الفرنسية

 

طباعة