"داعش" بين الانهيار وإعادة التكوين

  • | الإثنين, 3 يونيو, 2019
"داعش"  بين الانهيار وإعادة التكوين

     مر تنظيم داعش الإرهابي بأطوارٍ مختلفة، وتعرض لظروف متباينة منذ نشأته الأولى أو نواته الأولى التي كانت جماعة "التوحيد والجهاد" بقيادة "أبو مصعب الزرقاوي"، ثم "قاعدة العراق"، ثم "مجلس شورى المجاهدين"، ثم مسميات أخرى لا نريد ذكرها في مقالنا لأن التنظيم أقحم فيها اسم الإسلام، وهو منها براء.

ومن بين الظروف التي تعرض لها التنظيم ما جعله قويًا، وتقدم به خطوات نحو الأمام، ومنها ما جعله ضعيفًا منكفئًا على نفسه، يحاول أن يبدأ من جديد من حيث بداياته الأولى، الأمر الذي جعل التنظيم يمتلك خبرة إستراتيجية قوية وطويلة سواء في الانكفاء والانزواء على النفس أو العودة من جديد بعد هذا الانكفاء.

لذلك يمكننا أن نقول إن وجود التنظيم أو كينونته قائمة على عدة مراحل "مرحلة التكوين" ثم "مرحلة التمهيد للظهور" ثم "مرحلة التمكين"، ثم "مرحلة الضعف" وأخيرًا "مرحلة الانهيار"، التي يعقبها الانزواء والانكفاء لفترة من الوقت، ثم العودة مرة أخرى من حيث البداية الأولى وهي "مرحلة التكوين"، وكأن التنظيم يدور في حلقةٍ مفرغة. 

في الفترة بين عامَي 2009 و2012، تعرض التنظيم لهزيمة تكتيكية ثقيلة أضعفته وجعلته ينكفأ على نفسه، وقُتل عدد من قادته حينذاك أمثال "أبو عمر البغدادي" و"أبو حمزة المهاجر"، وتولى قيادة التنظيم بعدهما "أبو بكر البغدادي" الذي أعاد هيكلة "داعش" من جديد على قواعد مؤسسية أشبه بمؤسسات الدول، ومنح كل مؤسسة مهام محددة وواضحة.

وفي غضون فترة بسيطة استطاع التنظيم لملمة قواته، ومهد لظهوره عن طريق تقديم نفسه كممثل لأزمة الهوية السنية في العراق مستفيدًا من الأوضاع السياسية التي كانت موجودة في البلاد آنذاك.

وعاد التنظيم مرة أخرى أشد قوة في أبريل 2013 باسمه الحالي الذي يُعرف اختصارًا بـ "داعش"، وأعلن مبايعته لخليفتهم المزعوم "أبو بكر البغدادي".

ولذلك يُمكن اعتبار الفترة ما بين عامي 2009 و 2012 مرحلتي التكوين الجديد، والتمهيد للظهور مرة أخرى. أما المرحلة التالية -والتي تجاوزًا يمكن أن نطلق عليها مرحلة التمكين- هي بين عامين 2014 و 2015، وخصوصًا عام 2015 الذي بلغ التنظيم فيها أوج قوته، واستولى على مساحاتٍ شاسعة من الأراضي في العراق وسوريا، وامتلك ترسانة إعلامية قوية، وقامت عدة مجموعات إرهابية في مناطق مختلفة بالانضمام إلى التنظيم عن طريق مبايعة "البغدادي".

وفي عام 2016 بدأت مرحلة الانهيار وتحديدًا مع سقوط مدينة "الفلوجة" العراقية من يد التنظيم، وحينها تحدث المتحدث الرسمي للتنظيم "أبو محمد العدناني" الذي قتل في العام ذاته عن ضرورة العودة والبداية من جديد من حيث بدؤوا قديمًا، حيث قال (لا بد أن نرجع من حيث بدأنا)، وكأنه يشير إلى دورة ثابتة يمر بها التنظيم في العراق كل 4 سنوات، يبدأ بالتكوين ثم التمهيد ثم التمكين، وعندما ينهزمون يعودون من مرحلة التمكين الي مرحلة التكوين مرة أخرى.

ومرحلة التكوين فيها الكثير من اللامركزية في القرار، والتمويل الذاتي، وأيضًا محاولة الحفاظ على نواة التنظيم من القادة المؤسسين، غير أن الهزيمة في عام 2016 كانت ثقيلة للغاية، أربكت التنظيم، وتسببت في مقتل معظم قادته التاريخيين في كل الميادين، العسكرية والإعلامية وغيرها، وليس أدل على ذلك من حديث "البغدادي" الأخير الذي عدد فيه مقتل الكثير من قادته، وولاته، وقادته العسكريين، ورجال الإعلام في معركة "الباغوز".

ولذلك فربما يبدأ التنظيم مرحلة التكوين من جديد معتمدًا على ما لديه من أموال، ونواة جديدة من القادة الذين تربوا على يد القادة السابقين ممن كانوا في معية "أبو بكر البغدادي"، منذ التكوين 2010 صعودًا إلى التمكين عامي 2014 و 2015، ثم الانهيار ابتداء من 2016 ثم ذروة الانهيار 2018-2019.

وهذا ما يجعلنا نقول إن تجلية المصطلحات مهمة للغاية في أي دراسة علمية، ولذلك عندما يسأل أحد كيف تحدث عمليات إرهابية وتفجيرات انتحارية في سوريا أو في العراق الآن، بالرغم من إعلان "قوات سوريا الديمقراطية" القضاء على داعش في سوريا، وإعلان الحكومة العراقية القضاء على داعش في العراق؟ الجواب أنه تم القضاء بالفعل على الدولة المزعومة للتنظيم، وتمت استعادة المساحات الشاسعة التي كان يُسيطرُ عليها، وأصبحت دولة التنظيم دولة افتراضية لا وجود لها على أرض الواقع، وجودها مقصور فقط على منصات التنظيم الإعلامية، وألسنة قادته.

أما التنظيم ذاته فموجود، لكنه انكفأ على نفسه وتحول إلى خلايا نائمة. وهذا يُمثلُ بعدًا آخر تفوح فيه رائحة الخطورة، حيث الانتشار في شكل أفراد أو مجموعات صغيرة، والاندماج وسط المجتمعات المحلية في الريف والقرى والمناطق الصحراوية التي لدى التنظيم خبرة الاختفاء فيها، ومحاولة التنظيم البداية كما ذكرنا سابقًا من جديد، من "مرحلة التكوين".

ولقد بدأت "مرحلة التكوين" في العراق عن طريق التمركز في مناطق مفتوحة وقرى مهجورة في المناطق الغربية والشمالية الغربية، ومحاولة خلق بيئة حاضنة، إذ يصعب على التنظيم الآن صناعة بيئة منسجمة عقائديًا معه، بسبب ما ارتكبه من جرائم، خصوصًا في حق المدنيين، لذلك يسعى إلى خلق بيئة متخادمة أو بيئة وظيفية اقتصادية.

ومعظم الذين اعتُقلوا بتهمة الدعم اللوجيستي لتنظيم داعش في مناطق شرق العراق ومناطق غرب العراق كانوا من كبار السن والنساء، واعترفوا في التحقيقات أنهم بحاجة إلى الأموال التي توفرها لهم هذه الجماعات التي تقطن في الجبال والبوادي. 

أما عن طبيعة العمليات التي يقوم بها "داعش" الآن في مرحلة الانهيار ومحاولة التكوين من جديد، فهي أيضًا عمليات تختلف اختلافًا كبيرًا عن عملياته في عام 2015.

هذا الاختلاف الكبير يمثل حجم الاختلاف بين قوة التنظيم عام 2015 وانهياره الجغرافي الحالي، فبعد أن كان التنظيم يقوم بعمليات قوية أشبه بعمليات الأسلحة المشتركة للجيوش النظامية بمشاركة جميع وحداته من عناصر استخباراتية، وعناصر عسكرية بتشكيلاتها كافة، أصبح الآن يقوم بعمليات فردية أشبه بحرب العصابات، حيث يقوم فرد بزراعة عبوة ناسفة في إحدى السيارات، أو في إحدى أماكن التجمعات، وذلك لأن المرحلة الحالية هي مرحلة تحول فيها التنظيم من دولة كان يريد إقامتها إلى تنظيم إرهابي تقليدي لا مركزي.

كما تختلف مرحلة التنظيم عن مرحلة الدولة أيضًا من ناحية ضعف الروابط بين قيادات التنظيم من ناحية، وبين عناصره ومحبيه والمتعاطفين معه من ناحية أخرى، حيث يصعب التواصل بينهم، ومن ثم يختار الفرد المتطرف الداعشي، أو الخلية الداعشية الهدفَ المُراد الاعتداء عليه، ويضع خطة الاعتداء، ويختار توقيت التنفيذ بشكلٍ مستقل دون الرجوع إلى قيادة التنظيم، التي تفاجأ بعمليةٍ إرهابية تُرتكب باسم التنظيم.

 بل ربما تختلف هذه القيادات حول الهدف من وراء هذه العملية كما هو الحال في أحداث "سيرلانكا" الأخيرة التي نشرت بعض المنصات الإعلامية للتنظيم أنها كانت ثأرًا لأحداث "نيوزيلندا"، فيما أعلن "البغدادي" أنها كانت ثأرًا لما حدث في "سوريا" وتحديدًا في منطقة "الباغوز". 

في النهاية يمكن القول بأنه قد تم القضاء بالفعلِ على دولة "داعش" المزعومة، في حين لا يزال التنظيم موجودًا، ويحاول العودة من جديد، من أجل ذلك وجب العمل على تجفيف منابعه ضمن خطة شاملة تستهدف تجفيف منابع الفكر المتطرف.

وحدة الرصد باللغة التركية

طباعة