قضية الحجاب في المدارس النمساوية

  • | الأحد, 9 يونيو, 2019
قضية الحجاب في المدارس النمساوية

     شكّل الحجاب في النمسا أحد أهم القضايا إثارة في الوقت الحالي، ولم يكن من قبل محل نقاش أو اعتراض من قبل نواب البرلمان النمساوي، حيث إن من المعروف أن النمسا من بين الدول الأوروبية القليلة التي كفلت ارتداء الحجاب في الحياة العامة والوظائف باعتباره من الحرية الشخصية والدينية.
يقوم موقف النمسا المُتقبل للحجاب على مبدأ الحرية الدينية وحرية ممارسة الشعائر الدينية، اللذان يكفلهما الدستور والقانون النمساوي، حيث تنص المادة 14 من الفقرة الأولى بدستور عام 1867م على ذلك، وكذلك المادة 9 بالقانون الأوروبي لحقوق الإنسان. وبما أن الجماعة المسلمة معترف بها بالنمسا طبقًا لقانون الإسلام، الذي يرجع جذوره لعام 1912م، فإن رمزية الحجاب الإسلامية مقبولة في السياق النمساوي منذ ذلك الاعتراف.
ويرجع أول تدخل للدولة في شأن الحجاب وقضية تغطية وجه المرأة المسلمة لعام 2017م، حيث أقرّت الحكومة قانونًا يحظر تغطية الوجه في 8 يونيو 2017م، ودخل هذا القانون حيّز التنفيذ في الأول من أكتوبر عام 2017م، وقد لاقى القانون معارضة قوية من قبل المُسلمين بالنمسا، إلا أن الظرف السياسي والأمني حينئذ قد ساعد في ترسيخ القانون وقبوله من قبل أغلب الفئات المجتمعية، حيث شهد هذا العام تطورات في العمليات الإرهابية، ومن ثم تخوف الجهاز الأمني من تستر الإرهابيين لتنفيذ عملياتهم الإجرامية في عُمق المحيط الأوروبي.
تغيّرت المستجدات في السياسة النمساوية بداية من أواخر عام 2018م بشكل ملحوظ، حيث لعب الائتلاف الحكومي الجديد للحزبين اليمينيين، حزب الحرية النمساوية (FPÖ) وحزب الشعب النمساوي (ÖVP)، دورًا محوريًا في طرح القضايا الشائكة، بل وافتعال القضايا في بعض الأوقات؛ ففي أبريل من عام 2018 انتشر الحديث عن اقتراح قدمه السيد هاينس كريستيان شتراخى (FPÖ)، نائب المستشار النمساوي، ينص على منع الحجاب في رياض الأطفال والمدراس الابتدائية، ولاقى القانون المُقترح آنذاك قبولًا ودعمًا من قبل المستشار النمساوي سبستيان كورتس، حيث صرح بأن حجاب الأطفال الصغيرات لا مكان له بالنمسا، واعتزم طرح قانون لمنع ذلك بمشاركة الحقائب الوزارية المعنية؛ وهم: وزارة التعليم ووزارة شئون المرأة ووزارة الاندماج.
اقترح هذا القانون لأسباب خاصة بالطفل والمجتمع، حيث صرّح نائب المستشار أن القانون يهدف إلى حماية الأطفال القصر وتحريرهم من تصورات الآباء الدينية، كما أن حجاب الأطفال يُعدُّ -في رأيه- سببًا في العُزلة ويعوق عملية اندماج الأطفال مع الآخرين، ويمثِّل القانون المقترح رمزية ودلالة على علمانية الدولة النمساوية، وذلك بحسب تصريح وزير الدولة لشئون التعليم.
وقد قوبل هذا الطرح حينئذ بمعارضة قوية، ليس فقط من قبل المسلمين بالنمسا، بل أيضًا من قبل جمعية الأخوات الراهبات، حيث رفضت الجمعية هذا القانون المقترح، معتبرة أن حظر الحجاب لا يمثل حلاً، لأنه يعتبر تلاعبًا بالحرية الدينية، وترى أن الحظر قد يدفع المسلمين إلى معارضة الدولة ويدفعهم للعزلة، ومن الأجدى دعوة الجمعيات الإسلامية للحوار ودعم الأطفال في عملية التطور والاندماج.
ورغم تلك المعارضات القوية قام الحزبان بتقديم مشروع القانون لمجلس النواب النمساوي، والذي نص على أن الحظر يشمل "كل لباس ذي تأثير أيديولوجي أو ديني يغطّي الرأس" واستُثني غطاء الرأس لأسباب طبية أو لحمايتها من المطر والثلج، ومن الجدير بالملاحظة أن الحكومة أخذت على عاتقها مهمة إظهار أنّ الحظر لا يشمل "الكِبة اليهودية"، معللين ذلك بأنها لا تغطي كل الرأس ولا جزئًا كبيرًا منه، مما يوقعها في تناقض واضح مع ما قالته من منع كل لباس ذي تأثير أيديولوجي، ويجعل من الأمر قانونًا اقترح خصيصًا للمسلمين و منع الرمز الديني الإسلامي، ويقدح بذلك في عمومية القانون.
أقرَّ البرلمان بجلسته المنعقدة بتاريخ 15 مايو للعام الجاري المشروع المُقدم، وينص القانون الجديد على تغريم الأُسر التي تخالفه مبلغًا قيمته 440 يورو، وسيتم تطبيقه بداية من منتصف يونيو. ومن الجدير بالذكر أن أغلب نواب المعارضة صوَّتوا ضدّ مشروع القانون، وألقى البعض منهم بيانات وكلمات قوية، عززت من موقف المسلمين، وهاجمت القانون باعتباره تمييزًا ضد المسلمين.
كل ذلك ألقى بظلاله على التصويت، فجاءت النتيجة بتمرير القانون بنسبة أقل من ثلثي أصوات المجلس، والتي كان يحلم بها الائتلاف، مما جعل القانون لا يرتقي إلى أن يكون قانونًا دستوريًا، وهذا يتيح إمكانية الطعن على القانون أمام المحكمة الدستورية. ومن جانب أخر اتّهم بعض نواب المعارضة الحكومة بأنها تسعى لتصدّر عناوين الصحف بدلاً من الاهتمام بمصلحة الأطفال ورفاهيتهم.
يُذكر أنه من بين المعارضين للقانون داخل البرلمان النمساوي النائبة البرلمانية مارتا بيسمان، حيث ألقت الخميس الموافق 16/5/2019 بيانًا قويًا، تعلن فيه رفضها لقانون حظر الحجاب بالمدارس داخل النمسا، فيما استهلت النائبة كلمتها التاريخية بالتأكيد على روح الحب والتعاون المنتشرة بين شعب النمسا جميعًا، حيث هنأت المسلمين بالشهر الكريم، ثم اتهمت النائبة كلا الحزبين اليمينيين (الحرية النمساوية (FPÖ)، وحزب الشعب النمساوي (ÖVP)) بتزعُّم حملة دعائية سياسية ضد المسلمين، وأضافت أنه نتيجة لحملات الكراهية التي يقوم بها حزب (FPÖ) أصبحنا نرى اليوم ونسمع عن تعرض مُسلمات محجبات لاعتداءات ومضايقات في الشوارع بسبب ارتدائهن الحجاب. وأكدت النائبة في كلمتها على أن الحجاب جزء من حياة النساء المسلمات ومن ثقافتهن ومن هُويتهن، ولكن اتخذ رمزًا للسياسة المُناهضة للمسلمين. كما أكدت أنها ترفض رفضًا قاطعًا إجبار النساء على ارتداء الحجاب كما هو الحال في إيران.
من جهتها انتقدت الجمعية الإسلامية بالنمسا "IGGÖ" بشدة مشروع القانون، واعتبرته بأنه "مخزٍ"، كما أعلن رئيسها أنهم سوف يستنفذون كل الوسائل القانونية لإلغاء هذا القانون عن طريق الطعن عليه أمام المحكمة الدستورية، كما أعرب عن تخوفه من أن يكون هذا القانون خطوة لتعميم الحظر على فئات عمرية أكبر، وصرَّحت الجمعية في بيان رسمي لها أن "حظر ارتداء الحجاب في المدارس الابتدائية لن يؤدي إلَّا إلى التفرقة والتمييز بحق الفتيات المسلمات... مؤكدًا طرح هذا القانون التمييزي على المحكمة الدستورية".
وقد أثارت النقاشات حول هذا الموضوع بالنمسا جدلًا محليًا، وآخر بدول الجوار، حيث انتقلت إلى ألمانيا فكرة حظر الحجاب بالمدارس الابتدائية، حين تقدم حزب البديل يوم "السبت" الموافق 11/5/2019 بطلب لبرلمان العاصمة برلين لحظر ارتداء الحجاب للطالبات تحت سن الرابعة عشر بالمدارس وحضانات الأطفال في العاصمة برلين، وعلل النائب عن حزب البديل "هانو باخمان" اقتراح حزبه بأنه حماية للفتيات وتطورهن الشخصي"، بينما وجهت المتحدثة باسم الحزب الاجتماعي الديمقراطي لرعاية الشباب والأسرة، الانتقادات لحزب البديل وقالت:" إن طلب حظر ارتداء الطالبات الحجاب في المدارس يثير استياء المسلمين ويؤجج مشاعر الكراهية، بالإضافة إلى ذلك لا توجد شكاوى من المدارس بشأن الفتيات اللائي يرتدين الحجاب".
وفي السياق نفسه انتقدت "بتينا يارش"، النائبة عن حزب الخُضر، طلب حزب البديل، وقالت:" يروج للكراهية ضد الإسلام تحت غطاء حماية الأطفال"، وأضافت أن حزب البديل يريد مصادرة الحقوق الأساسية بدون أسباب كافية، والتي ستؤدي في النهاية إلى التمييز العنصري على أساس الدين واللون".
 وبالعودة إلى السياق النمساوي فقد شهدت الساحة السياسية تقلبات جذرية على إثر انتشار فيديو للقاء يجمع بين نائب المستشار النمساوي وسيدة روسية قبيل انتخابات عام 2017م ، يعلن فيه شتراخى استعداده لتلقي تمويل روسي مقابل تأمين عقود حكومية مع النمسا، وبناء على هذه الفضيحة السياسية قام شتراخى بتقديم استقالته من الحكومة، وسرعان ما تفكك الإتلاف الحكومي، حيث أعلن حزب الحرية عن استقالة جميع أعضائه من الحكومة، مما أسقط الحكومة ككل، وقد قام رئيس الحكومة بتشكيل حكومة تكنوقراط لتسيير الأعمال، وذلك حتى إجراء انتخابات مُبكرة في سبتمبر المقبل.
ومع الربط بين استقالة شتراخى، نائب المستشار النمساوي وصاحب اقتراح حظر حجاب الأطفال بالمدراس الابتدائية والداعم الأول له، وكذلك إعلان حزب الحرية اليميني استقالة جميع وزرائه من الحكومة، فربما ننتظر في الفترة المقبلة تراجع القوة اليمينية في الحكومة النمساوية، وتغير في القضايا المطروحة، وربما تغير في الموقف الرسمي من قضية حجاب الأطفال والقضايا الشائكة الأخرى.

وحدة رصد اللغة الألمانية

 

طباعة