اليمين المتطرف في إسبانيا: خطر داهم ومستقبل غامض

  • | الثلاثاء, 11 يونيو, 2019
اليمين المتطرف في إسبانيا: خطر داهم ومستقبل غامض

     أسهمت بعض القوانين، بصورة أو بأخرى، في ظهور ‏بعض الشخصيات والأحزاب التي تسببت في تصاعد وتيرة ‏الخطابات المعادية للآخر، والتي تحمل بين طياتها الكراهية ورفض الآخر على أساس الجنس أ‏و اللون ‏أو الدين أو العرق.
 ومما لا شك فيه أن صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في المجتمعات الغربية ساعد على ظهور بعض الظواهر السلبية التي تزعزع الاستقرار الاجتماعي كالإسلاموفوبيا، ومعاداة الأجانب، والعنصرية، والتمييز، والتي نجم عنها انتهاك صارخ لحقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم بسبب خطابات الكراهية التي تبثها منصات اليمين المتطرف على المستوى السياسي أو الإعلامي أو الفكري.  
وبالرغم من ذلك فقد تمكنت الأحزاب اليمينية المتطرفة خلال العقود الأخيرة من الحصول على دعم كبير في العديد من البلدان الأوروبية؛ فعلى سبيل المثال بدأت مجموعة من الأحزاب اليمينية المتطرفة تستعيد قواها بعد أن تلاشت لعقود عدة كما هو الحال في فرنسا والنمسا. وفي بلدان أخرى بدأت أحزاب يمينية جديدة تظهر، كما هو الحال في هولندا وفنلندا وغيرها، تشترك جميعها في الأفكار والأيدلوجيات التي تتلخص في القومية، والخطابات المناهضة للنُخبة، ومناهضة الإسلام والمسلمين، وكراهية الأجانب بشكل عام.
وفي هذا السياق، لم تكن إسبانيا بمعزل عن تلك الدول؛ إذ شهدت تطورًا كبيرًا في تنامي الأحزاب اليمينية المتطرفة، فضلًا عن تزايد خطابات الكراهية الموجهة على وجه الخصوص ضد المهاجرين والمسلمين في الآونة الأخيرة. وعلى الرغم من أن أعداد الأحزاب اليمينية في إسبانيا في الوقت الحاضر قد وصل إلى أكثر من عشرين حزبًا، فإن إسبانيا تُعد من أقل الدول الأوروبية التي تمكنت فيها قوى الأحزاب اليمينية المتطرفة من التواجد بقوة داخل البرلمان والهيئات الحكومية. ولعل السبب يرجع في المقام الأول إلى تفتُّت تلك الأحزاب اليمينية بسبب كثرتها، وقلة عدد الأعضاء والمؤيدين داخل كل حزب؛ مما تسبب في عدم وجود قاعدة قوية من الناخبين تجعل منهم قوة فاعلة في المشهد السياسي الإسباني، فضلًا عن افتقار تلك الأحزاب إلى وجود قائد قادر على توحيدها تحت راية واحدة.
واستطاعت هذه الأحزاب نشر أفكارها من خلال الخطابات التي تدافع عن الهوية القومية، ‏والعادات والتقاليد التاريخية، في محاولة منها للترويج لمفاهيم الكراهية، والتمييز، وبث القلق بين ‏المواطنين. ‏ويُعدّ الدفاع عن هذه القيم وغيرها مصدر تضليل للشعوب؛ الأمر الذي يدفع المواطن إلى قبول الأهداف المعلنة لهذه الأحزاب، لكن هذا بدوره يخدم الأهداف ‏الخفية لهذه الأحزاب التي تقوم علي التحريض علي كراهية الأجانب، والإسلاموفوبيا، ونبذ الأقليات ‏على أساس العِرْق أو الدِّين، والحد من موجات الهجرة من خلال رفض استقبال اللاجئين ‏والمهاجرين، ووضع التعديلات الدستورية على مائدة الحوار من أجل تنفيذ هذه الأهداف،‏ ومن المؤسف أن نشاهد أحزاب اليمين المتطرف تستغل الأزمات العالمية التي تحدث في الوقت ‏الحالي أداةً لتنفيذ برامجها السياسية التي تطمح إلى تكرار تمثيلها البرلماني على حساب اللاجئين ‏وضحايا الحروب الذين أُجبروا على ترك بلادهم، والبحث عن بلاد أخرى أكثر أمنًا واستقرارًا.‏
إذن يتبين لنا أن الأيدلوجيات العامة للأحزاب اليمينية المتطرفة تنحصر في عدة محاور رئيسة منها: تمجيد القيم والمبادئ القومية والوطنية، ومناهضة الأجانب (العنصرية)، وعدم الانسياق لبعض مبادئ الديمقراطية الحديثة.
ففي إسبانيا نجد أن البرامج الانتخابية لتلك الأحزاب تلعب على وتيرة الهجرة الجماعية إلى أوروبا، وبالتحديد إلى إسبانيا التي تعدُّ من أكثر الدول الأوروبية استقبالًا للمهاجرين في الفترة الأخيرة؛ حيث زعمت الأحزاب اليمينية أن الهجرة تُمثل تهديدًا قويًّا للهوية والسيادة الإسبانية، وأنه كلما زاد عدد المهاجرين الوافدين إلى أوروبا كلما ازدادت التهديدات التي قد تنال من القيم والثقافات والعادات الأوروبية، كما تحاول الحملات الانتخابية ربط التدهور الاقتصادي والأزمات المالية المتجددة في أوروبا بموجة الهجرة وطالبي اللجوء السياسي، فضلًا عن محاولة الحفاظ على الدماء الإسبانية من الاختلاط بدماء المهاجرين الذين يسعون في كثير من الأحيان إلى الحصول على الجنسية الإسبانية؛ لذلك يطالبون بعدم منح الجنسية الإسبانية للأجانب، ومنحها فقط لذوي الأصول الإسبانية الخالصة.
ومن الغريب أن الأحزاب اليمينية لا تمانع من الهجرة القادمة من الدول الأوروبية؛ بل تعدّها من أولوياتها في الوقت الحالي، مُعللةً ذلك بالتقارب الثقافي الموجود بين إسبانيا والدول الأوروبية الأخرى تحت شعار ما يسمى بـ"التحالف القومي".
ويحاول اليمين المتطرف في إسبانيا تعليل ازدواجية المعايير التي يتبناها حول قضية المهاجرين بدعوى رفضه للأنظمة الرأسمالية التي تسيطر على معظم دول العالم الثالث، والتي تتنافى تمامًا مع المبادئ الأوروبية، ومن الممكن أن تضر بمصالح الدول الأوروبية إذا تمَّ السماح لتلك الهجرات بالاندماج في المجتمعات الغربية.
 ومن الواضح أن الهجرة الوافدة من البلدان الإسلامية على وجه الخصوص هي التي يُركز عليها اليمين المتطرف في حملاته الانتخابية؛ إذ ينظر إليها على أنها تهديد للثقافة الأوروبية والهوية الإسبانية على وجه الخصوص، ويرى أيضًا أن الفجوة الثقافية بين هؤلاء المهاجرين والمجتمع الإسباني تجعل اندماجهم ضربًا من المستحيل، كما يرى أن المعتقدات الدينية الإسلامية تتعارض بشدة مع القوانين الإسبانية، وأن المسلمين لن يقدروا على احترام القيم واللوائح الدستورية للديمقراطيات الأوروبية.
لذلك تطالب هذه الأحزاب بمنع الهجرة والتوقف عن استقبال المهاجرين؛ بل وصل الأمر إلى مطالبة الحكومة بطرد المهاجرين المقيمين في الوقت الحالي في المدن الإسبانية، خاصة هؤلاء الذين صدرت ضدهم أحكام قضائية بسبب ارتكابهم للجرائم على الأراضي الإسبانية، وكذلك طرد كل من دخل إلى الأراضي الإسبانية بطرق غير شرعية، والمهاجرين العاطلين الذين قضوا فترات طويلة دون عمل في أي قطاع من القطاعات في إسبانيا.  ويُعدّ حزب "منصة قطلونية" من أوائل الأحزاب اليمينية المتطرفة في إسبانيا التي طالبت بطرد المهاجرين.
وفي الوقت ذاته، تحاول الأحزاب اليمينية استغلال الشعور السلبي تجاه المهاجرين من جانب شريحة كبيرة من المجتمع الإسباني؛ حتى يتمكنوا من نيل أصوات الناخبين في المراحل الانتخابية المختلفة. ويرى بعض المحللين أن المشاعر المناهضة للإسلام والمسلمين والمهاجرين بشكل عام في إسبانيا تفوق مثيلتها في الدول الأوروبية.
أيضًا كان حزب "فوكس" ‏VOX‏ أحد الأحزاب اليمينية المتطرفة التي طالبت بطرد المهاجرين غير الشرعيين الذين يقيمون في ‏إقليم ‏أندلوثيّا؛ وقد جاء ذلك في الوثيقة التي قدمها للحزب الشعبي - في الثامن من ‏يناير ‏2019 - والتي اشتملت على عدد من المقترحات، وعلى رأسها طرد المهاجرين غير الشرعيين وما يلزم ذلك من تحديد هويتهم. كذلك دعا ‏الحزب إلى ‏ضرورة إلغاء الخدمات التي يحصل عليها المهاجرون غير الشرعييّن، مؤكدًا على ‏ضرورة التعاون ‏مع الشرطة لضبط المهاجرين وطردهم خارج البلاد. وكان الحزب قد طرح عدة إجراءات، ووعد بإغلاق المساجد الأصولية، واستعادة السيطرة على الحدود، واعتقال الأئمة المتطرفين، كما دعا الحزب أيضًا إلى إيقاف الدعم المادي للجمعيات الإسلامية.‏
 وفي 2 يناير 2019 طالب حزب فوكس -عبر حسابه على تويتر- أتباعه ألا ينسوا ذكرى تحرير غرناطة من المسلمين قائلًا: "نحن فخورون بتاريخنا؛ ولهذا السبب نحتفل بواحدة من أكثر المعارك البطولية، التي تمكنت فيها إسبانيا وأوروبا من تحرير الشعب من (الغزو الإسلامي) ".
وعلى المستوى الحكومي أدلى وزير الشؤون الخارجية الإسباني "جوزيب بوريل" بعدد من التصريحات عن أهمية قبول المهاجرين ودمجهم في أوروبا، مشيرًا إلى أنه لا ينبغي النظر إلى الهجرة باعتبارها عبئًا على أوروبا، بل باعتبارها فرصة يجب استثمارها لزيادة الموارد البشرية، وزيادة الأيدي العاملة، بما يساهم في رخاء القارة العجوز.
كما صرح بوريل أن المجتمعات المنفتحة ينبغي أن تواجه تلك النبرات المعادية للمهاجرين والداعية للتخوف من الآخر، وذلك دون أن يشير بشكل مباشر إلى حزب فوكس الذي صرح بهذا مؤخرًا، مؤكدًا أنه لا يمكن النظر إلى المسلمين باعتبارهم أعداء أو طردهم من الدولة. وإذا كانت القارة الأوروبية لها أصول مسيحية فلها كذلك أصول ترتبط بالعرب واليهود. ويظهر تأثير العرب واضحًا في اللغة وفي العمارة، وكذا في التوزيع الديموغرافي للسكان؛ حيث يمثل المسلمون 4% من إجمالي السكان بإسبانيا بواقع مليوني نسمة، منهم 42% من الإسبان.
وقد جاءت تصريحات وزير الشؤون الخارجية الإسبانية منصفة للمسلمين، وأعلت من الاعتبارات الإنسانية والتاريخية والثقافية في هذا الوقت الذي تثار فيه تلك الادعاءات عن الإسلام وربطه بالعنف.
ويرى مرصد الأزهر أن أهمية تلك التصريحات تزداد عندما تصدر عن مسئول حكومي، في مقابل ما تتخذه الأحزاب اليمينية من مواقف وقرارات مضادة لصالح المهاجرين المسلمين، كما يرى المرصد أنه من دواعي الإنسانية أن تستوعب دول العالم هؤلاء المهاجرين الذين اضطرتهم الظروف لترك بلادهم وذويهم، كما حدث في الماضي، فهذا إرث البشرية، مؤكدًا في الوقت ذاته على ضرورة إيجاد حل شامل لهذه القضية لإنهاء الصراع في بلدانهم الأصلية، وعلى الجميع أن يتحمل مسؤوليته.
وفي الختام، يتبين أن الأيديولوجية التي تتبعها هذه الأحزاب تقوم على رفض كل ما هو أجنبي. وقد ساهم تصاعد ظاهرة الإرهاب في العالم ‏وزيادة موجات الهجرة في منح الأحزاب اليمينية المتطرفة الفرصة للتمييز ضد المسلمين الذين ‏يعيشون في بلدان غير إسلامية.
ويؤكد مرصد الأزهر لمكافحة التطرف أن حقًّا أصيلًا لكل إنسان أن ينعم بالأمن والسلام في وطن يضمن له حقوقه، ومسكن يستظل تحت سقفه، وليس لأي حزب أو شخص أن يمنعه هذه الحقوق لأسباب عنصرية. ويدين المرصد كل خطابات الكراهية والتمييز والإقصاء، ويدعو زعماء الأحزاب اليمينية إلى التخلي عن الأيدلوجيات التي تؤدي إلى زعزعة أمن المواطن، ويحث المسلمين في الغرب على التسلح بالحيطة والحذر، واللجوء إلى القانون في حالة تعرضهم للتمييز العنصري أو الإقصاء.


وحدة رصد اللغة الإسبانية
 

طباعة