خير أجناد الأرض في أوهام الفكر المتطرف - عرضٌ ونقدٌ (1)

  • | الإثنين, 17 يونيو, 2019
خير أجناد الأرض في أوهام الفكر المتطرف - عرضٌ ونقدٌ (1)

  بين الحين والآخر، يخرج علينا أصحاب الفكر المتطرف؛ ممن يدَّعُون العلم، ويتكلمون في القرآن بجهل، ويتجرَّءُون على كتاب الله تعالى، فيستدلون ببعضٍ من آيات القرآن التي وردت في حق الكافرين، ويُسقطونها على المسلمين من أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أن أكثر الأغلاط إنما تأتي من قِبَلِ من يتكلم في غير فنِّه، وكما قيل: من تكلم في غير فنِّه أتى بالأعاجيب!

ومن هذه الأعاجيب التي أتى بها هؤلاء الأدعياء الذين يتسوَّرون على ما لا يُحسنون، ويتكلمون فيما لا يُتقنون، تفسيرُ آيات في كتاب الله تعالى تفسيرًا خاطئًا، وإسقاطها على جنودنا البواسل من الضباط والجنود، وكلامهم لا يعدو أن يكون تحريضًا للجنود على عصيان الأوامر، أو ترك الجندية؛ حتى تصير الدولة من دون جيش يحمي بَيضَتَها.

ومن الآيات التي استدل بها هؤلاء الأدعياء على زعمهم الباطل قوله تعالى في سورة البقرة: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}.

ووجه الدلالة من هذه الآيات عند أصحاب الفكر المتطرف أن الذي سيُحاسَب في الآخرة إنما هو الجندي والضابط، على حدٍّ سواء، وأنهم شركاءُ في الجُرم؛ لأنه تعالى قال: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا}، فالجنود قد اتبعوا الضباط، وأخذوا بكلامهم، ونفذوا أوامرهم، وسيلقى الجميع جزاءهم؛ لقوله تعالى: { وَرَأَوُا الْعَذَابَ} أي: في الآخرة، {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ}، فلا يستطيع أحدٌ أن يُلقِيَ اللوم على غيره هروبًا من المسئولية، بل كل واحد مسئول عن نفسه.

واستمرارًا من أصحاب الفكر المتطرف في بثِّ سمومهم ونشر مغالطاتهم يستدلون بقوله تعالى في سورة سبأ: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ}.

 ووجهُ الدَّلالةِ عندهم من هذه الآية الكريمة أن الظالمين وهم في زعمهم الضباطُ والجنودُ سيرُدُّ بعضهم على بعضٍ القولَ يوم القيامة، فيقول الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا وهم الجنود لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا وهم الضباط والسادة القادة: {لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} أي: لولا أنتم كنا مسلمين، وكنا نصلي، فيرد عليهم الضباط: {أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ} أيْ: هل كنت مؤمنًا في البدء والآن في الآخرة تتهمني بأنني السبب ومن أمرتُكَ؟ {بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ}: أنتم في الأصل مجرمون، ومِن أهلِ الضلال!

بهذا العقل السقيم والمنهج العقيم يرسَّخ المتطرفون لأفكارهم الهدامة، وللرد عليهم في هذه المغالطات والانحرافات نقول في إجمالٍ: لقد اعتمد هؤلاء في محاولتهم ترسيخ تلك الفكرة الخاطئة على عدة أمور:

الأول: أنهم انطلقوا منذ بداية الأمر من قاعدة تكفير الضباط والجنود.

الثاني: أنهم وضعوا أنفسهم في رتبة الإله حين أراد أن يمثلوا دور الباري تعالى في موقف الحساب في الآخرة.

الثالث: أنهم تكلموا في كتاب الله، وأنزلوا آيات القرآن الكريم على بعض الوقائع دون علم.

أما النقطة الأولى؛ وهي انطلاقهم من قاعدة تكفير الضباط والجنود؛ فنقول: إن الكُفْر معناه إنكار ما عُلِمَ ضرورةً أنَّه من دين سيدنا محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؛ كإنكار وجود الباري سبحانه وتعالى، أو نبوَّته عليه الصلاة والسلام، يقول الإمام الغزالي: «كلُّ حكم شرعي يدَّعيه مدَّعٍ فإما أن يعرفه بأصل من أصول الشرع من إجماع أو نقل، أو بقياس على أصل، وكذلك كون الشخص كافرًا إما أن يُدرَكَ بأصل أو بقياس على ذلك الأصل، والأصل المقطوع به أن كلَّ من كذَّبَ محمدًا صلى الله عليه وسلم فهو كافر». [أبو حامد الغزالي: «الاقتصاد في الاعتقاد» (ص: 156)].

ولهذا؛ فالمقرَّرُ في عقيدة أهل السنة أن المسلم لا يُخرِجُه عن الإيمان إلا جحودُ ما أدخله فيه؛ إذ الإسلام الثابت لا يزول بالشك.

وعلى ذلك فلا يكفر المسلم بذنب فعله، وهذا من أصول عقيدة أهل السنة؛ أنهم لا يُكفِّرُون أحدًا من المسلمين بذنب، ولو كان كبيرةً من الكبائر؛ كالزنى والقتل، قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48].

وعَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ثَلاثَةٌ مِنْ أَصْلِ الإِيمَانِ؛ الْكَفُّ عَمَّنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَلا تُكَفِّرْهُ بِذَنْبٍ، وَلا تُخْرِجْهُ مِنَ الإِسْلامِ بِعَمَلٍ» [أخرجه أبو داود].

وعلى ذلك؛ فالتكفير حكم شرعي، سببه جحدُ الربوبية أو الوَحدانية أو الرسالة أو قولٍ أو فعلٍ حكَمَ الشارعُ بأنه كفر، وإن لم يكن جحدًا.

ومن ثَمَّ فغير جائز أن يَنسُبَ أحدٌ أحدًا إلى الكفر، كيف وعموم الضباط والمجاهدين يُصلُّون ويصومون، ولا تخلو سَرِيَّةٌ أو كتيبة عسكرية من مسجد يؤدُّون فيه الصلاة؛ فعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ: «ومَنْ دَعَا رَجُلًا بِالْكُفْرِ أَوْ قَالَ: عَدُوَّ اللهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ إِلَّا حَارَ -رجعت- عَلَيْهِ» [أخرجه مسلم].

وأما النقطة الثانية؛ وهي أنهم وضعوا أنفسهم في رتبة الإله، حين أرادوا أن يتصوروا ما سيفعله الحق تبارك تعالى مع ذلك الضابط وذلك الجندي، وحواره معهم في موقف الحساب في الآخرة، فنقول: كيف سوَّغ هؤلاء الجهلة لأنفسهم المريضة أن يتصوروا هذا الحوار بين الله تعالى وجندي من الجنود، إن ذلك بحق لهو التجاوز والخروج والتعدي، الذي لا يجوز السكوت عليه؛ إذ إنه افتراء على الله تعالى.

بل كيف يتألَّى أحدٌ -كائنًا من كان- على الله تعالى؛ أن يُدخِلَ هؤلاء النار خالدين فيها، وهذا فيه سوء الأدب مع الله تعالى؛ فعن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدث أن رجلًا قال: «واللهِ لا يغفرُ اللهُ لفلان، وإن الله تعالى قال: مَن ذا الذي يتألَّى عليَّ أن لا أغفر لفلان، فإني قد غفرتُ لفلان، وأحبطتُ عملك». [أخرجه مسلم].

ولا يخفى ما في التألِّي على الله من الجهل به سبحانه وتعالى، وبما اتصف به سبحانه من حِلمٍ، وسَعةِ رحمةٍ، ومغفرةٍ.

وأما النقطة الثالثة؛ وهي أن أصحاب الفكر المتطرف في تقريرهم لباطلهم قد تكلموا في كتاب الله، وأنزلوا آيات القرآن الكريم على بعض الوقائع دون علم؛ فهذا الأمر لا يقل جُرمًا وفظاظةً عن سابقَيه؛ فتفسير آيات القرآن بغير علم له خطورته، ومُتوعَّدٌ عليه، ففي الحديث الصحيح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن قالَ في القرآنِ بغيرِ علمٍ فَليتبوَّأ مَقعَدَهُ مِن النارِ» [أخرجه الترمذي].

وعن أبي بكر الصديق أنه قال: أيُّ أرض تُقِلُّني وأيُّ سماءٍ تُظِلُّني إذا قلتُ في كتاب الله ما لا أعلم؟! [أخرجه مالك].

وما ذكره هؤلاء من تفسير بعض آيات القرآن بحسَبِ هواهم كما كان يفعل أهل الأهواء فيقولون: المراد بكذا وكذا: كذا وكذا، وليس في النص القرآني ما يدل عليه، لا بمقتضى النص، ولا بمقتضى اللغة؛ يُدخِلُ في هذا الوعيد؛ ذلك أن التعرض لتفسير كلام الله تعالى له مؤهِّلاته التي يفتقدها هؤلاء الأدعياء.

وما استشهدوا به من الآيات واردٌ -في الأساس- في شأن الكفار في الآخرة؛ لذا إنزال ذلك على الضباط والجنود مشكلة كبرى، وتحميلٌ للنص القرآني ما لا يحتمل، وتقوُّلٌ على الله بغير علم.

فالآيات الكريمات واردة في سياق الحديث عن مآل الكافرين يوم القيامة، ولا يمكن بحالٍ صرفُها عنهم أو إسقاطها على غيرهم، يقول الحافظ ابن كثير: «يذكر تعالى حال المشركين به في الدنيا، وما لهم في الدار الآخرة، حيث جعلوا له أندادًا، أي: أمثالًا ونظراءَ يعبدونهم معه، ويحبونهم كحبه، وهو الله لا إله إلا هو، ولا ضدَّ له، ولا ندَّ له، ولا شريك معه... ثم أخبر عن كفرهم بأوثانهم وتبرُّؤِ المتبوعين من التابعين، فقال: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ}، تبرأت منهم الملائكة الذين كانوا يزعمون أنهم يعبدونهم في دار الدنيا» [يراجع: تفسير ابن كثير (1/ 476)].

وبهذا يتضح الفرق الكبير والبَون الشاسع بين كلام العلماء وهرطقة الأدعياء!

وأما استشهادهم بالآيات من سورة سبأ في قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ}، وإسقاطهم هذا الحوار الدائر بين الكفار على الضباط والجنود؛ فهذا أيضًا من الكلام في القرآن بغير علم، وتنزيلٌ للآيات في غير موضعها، وحملُها على غير محملها، يقول الإمام الطبري: «يقول تعالى ذكره: {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} في الدنيا، فرأسوا في الضلالة والكفر بالله {لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} فيها، فكانوا أتباعًا لأهل الضلالة منهم، إذ قالوا لهم: {لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ}: {أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى} ومنعناكم من اتباع الحق {بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ} من عند الله يبين لكم، {بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ}، فمنعكم إيثارُكم الكفرَ بالله على الإيمان من اتباع الهدى، والإيمان بالله ورسوله... {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} من الكفرة بالله في الدنيا، فكانوا أتباعًا لرؤسائهم في الضلالة، {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} فيها، فكانوا لهم رؤساء: {بَلْ مَكْرُ}كم لنا بـ{اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} صدَّنا عن الهدى {إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ} أمثالًا وأشباهًا في العبادة والألوهة». [يراجع: «جامع البيان» (20/407)]

وبهذا يتضح أن أصحاب الفكر المتطرف ينطلقون في تقرير مذهبهم ونشر فكرهم من أمور لا تعدو كونها مغالطات، يحاولون نشرها وبثَّها في عقول أتباعهم؛ بُغيةَ إحداثِ الفُرقةِ في نسيج المجتمع المصري المترابط، وينبغي أن يَعِيَ الشعب هذا المخطط الآثم، وأن يقفوا جميعًا ضد هذه الأفكار الهدامة، حتى لا يكون لبذرتها بيئة حاضنة، أو أرض خصبة، وسيواصل مرصد الأزهر حَلَقاتِه في تفنيد وكشف زَيفِ ومغالطات ما تستند إليه الجماعات المتطرفة، والأبواق المسمومة؛ لفضح تلاعبهم وتفسيراتهم المغلوطة التي يُرادُ من ورائها زعزعة القيم، والحياد عن طريق الصواب.

طباعة
كلمات دالة: مرصد الأزهر