التعصّب.. ودوره في صناعة التطرّف

  • | الإثنين, 24 يونيو, 2019
التعصّب.. ودوره في صناعة التطرّف

    التعصُّبُ ظاهرةٌ اجتماعيَّة قديمة شديدة الخطورة، تتخذ أشكالًا عدوانية عنيفة سافرة، وصورًا عِدة، منها: التعصُّب الرياضي، والثقافي، والعِرقي، والطائفي، والدِّيني، والسياسي، والفِكري القائم في الأساس على احتقار الآخر وعدم الاعتراف بحقوقه وإنسانيته. ويمكننا تعريف التعصّب بأنه مرض اجتماعي يُثير البغضاء والشحناء في العلاقات الاجتماعية والشخصية؛ وذلك لإيمان الفرد المتعصب المطلق بفكرة أو بشخص أو بجماعة، والانغلاق على مبادئها، والثقة العمياء في آراء قادتها، حتى وإن اختلفت مع قناعاته الشخصية، وعدم الثقة في آراء المعارضين، حتى وإن توافقت مع قناعاته الشخصية. فالتعصب سلوك خطير قد ينحدر نحو الأسوأ فيصبح محركًا نحو التطرف؛ حيث يدفع التعصُّب صاحبه إلى مَيْلٍ مُتصلبٍ مُتعنتٍ يحجب عن صاحبه أحيانًا وجوه الحقيقة، فيؤمن بأسباب وهمية تُفوت عليه فرصة التمحيص لحل إشكالاته ومشاكله بطريقة واقعية، مع اعتقاده بأنه دائمًا على حق، وإيمانه بضرورة إقصاء الآخر ولو بالقتل. فالتعصب إيمان بحقيقة مطلقة من وجهة نظر المتعصب، والعنف هو السبيل الوحيد لتحقيق ذلك الإيمان والدفاع عنه. كما يمكن أيضًا تعريف التعصب على أنه مستمد من العصبية أي التعصب لفئة محددة.
وقد ينشأ التعصُّب من الشعور باستعلاء أو دونية الذات: (العِرق، أو اللون، أو الجماعة، أو الدولة، أو الجنس، أو الثقافة...) التي ينتمي إليها الفرد أو الجماعة. إضافة إلى الجهل بالآخر وعدم السعي إلى معرفته على حقيقته، بسبب التنشئة الاجتماعية غير السوية، التي تغيب عنها حرية التعبير عن الرأي وتقبل الرأي الآخر، والقائمة على الانغلاق وضيق الأفق وغياب أخلاقيات التعامل مع الآخر وضوابطها، وكذلك غياب القدوة .
ولعل من أخطر ألوان التعصّب "التعصُّب الفكري"؛ لأنه يدفع الفرد إلى رفض التعددية والاختلاف في الآراء الذي هو سنة كونية، والتعنت بشدة لأفكاره، فلا يتنازل عنها ولو مع ظهور بطلانها، وبذلك يصبح فريسة سهلة للتطرف وأعمال العنف. علاوة على أن "التعصب الفكري" هو أول خطوة على طريق التطرف، فليس الإيمان بفكرة هو الخطر؛ لأن لكل إنسان الحق في اعتقاد ما يشاء مع احترام الرأي الآخر، بل الخطر بعينه هو إغفال لغة الحوار البنّاء، وترجمة هذه الفكرة وفرضها بالقوة على الآخر، واعتبارها المعيار الأوحد لتقييم الأمور.
ومما لا شك فيه أن التباين والتنوع في الرؤى، واختلاف وجهات النظر، هما وسيلة نحو الترابط والتكامل من خلال التعارف، وليس مدعاة للتناحر والصراع. ولكن ما تشهده الآن الساحة العالمية من انشقاقات وتناحرات، إنما هو بسبب التعصب الذي غرسته الحركات والجماعات المتطرفة والإرهابية وبعض المنظرين الذين يَدَّعون الحيادية والمعرفة، في نفوس الضعفاء لمحو أبجديات التعايش السلمي، وليكون وقودًا لإشعال الأحقاد والفتن، وسكينًا لتقطيع المجتمعات وتمزيقها؛ فلقد ظل تعامل الناس مع الخلاف الدنيوي بين شدٍّ وجذب، فمَن تعصَّبَ انتقل إلى دائرة التطرّف والقتل، ومَن فهم فلسفة الخلاف وحكمته، وأنه لا مانع إطلاقًا من التعايش بين المختلفين أيًّا كانت طبيعة القضايا المختلف فيها، عاش المجتمعُ في سلام وأمان واستقرار.
     كما يُعَدُّ كتاب "طبيعة التعصب" لـ "جوردون ألبورت" ((Gordon Allport، والذي نُشر عام 1954 عملًا أصيلًا له أهميته في هذا المجال، وقد أوضح فيه أنّ هناك خمس درجات للتعصب تبدأ بـ "التعبير اللفظي" عن العداوة؛ حيث يستحق المتعصب (المفحوص) درجة واحدة، يلي هذا رغبة الشخص المتعصب في تجنُّب فئة ما من الناس يكرهها، وحضِّ الآخرين على كراهيتهم لهذه الفئة، ثم الاعتداء البدني عليهم، وأخيرًا تأتي رغبة المتعصب في التخلّص من تلك الفئة من الناس ولو بالقتل أو بأي شكل من أشكاله، وهنا يستحق المتعصب (المفحوص) خمس درجات على هذا المقياس.
لذا نجدُ أنّ التعصّب متى وُجد في مجتمع من المجتمعات وفَّر بيئةً خصبة وحاضنة للإرهاب، قادرة على تفريخ عشرات بل مئات العناصر الإرهابية المتشددة في تطرفها والمقتنعة بأفكارها وتوجهاتها، مهما كانت خطورة تلك الأفكار وشدة هدمها للمجتمعات والدول.


وحدة الرصد باللغة الفرنسية

 

طباعة