الفقر وأثره في صناعة التطرف .... قراءة تحليلية موجزة

  • | الثلاثاء, 25 يونيو, 2019
الفقر وأثره في صناعة التطرف .... قراءة تحليلية موجزة

     من الإشكاليات المنهجية في التعامل مع أي قضية علمية أو ظاهرة مجتمعية هي الولوج إلى علاجها، وتحديد الجهات التي يجب أن تتحمَّل عبء هذا العلاج، والمسارعة إلى مناقشة الحلول، وتفنيد الشبهات، قبل الوقوف الدقيق على حقيقة القضية أو الظاهرة؛ من حيث التعريف، وتحديد الأسباب، والدوافع. 

وسوف نحاول، قدر استطاعتنا، في هذا التقرير اتباع المنهج العلمي، وسنبدأ بتعريف الفقر، ومخاطره، وكيف تعرض الإسلام له، وقدَّم حلولًا لعلاجه؟ وما عَلاقة الفقر المباشرة وغير المباشرة بالتطرف والإرهاب؟ وما أثر الفقر في صناعة الشخصية المتطرفة؟ وكيف يمكن للفقر أن يكون من العوامل التي تحبط الأفراد، وتجعلهم فريسة سهلة في يد الجماعات المتطرفة التي تبشرهم بحياة أفضل؟

أولًا: تعريف الفقر

تعرِّف المنظمات الدولية الفقر على أنه: «الحالة الاقتصادية التي يفتقد فيها الفرد الدخل الكافي للحصول على المستويات الدنيا من الرعاية الصحية والغذاء والملبس والتعليم، وكل ما يُعَدُّ من الاحتياجات الضرورية لتأمين مستوى لائق للحياة».

واتَّسع هذا المفهوم وأصبح أكثر شمولًا، خصوصًا بعد قمة «كوبنهاجن» عام 2006م، التي أكدت على أهمية حصول الفرد على الحد الأدنى من الحياة الكريمة، وتأمين بيئة صحية، وفرص المشاركة الديمقراطية في اتخاذ القرارات في جوانب الحياة المدنية.

وإذا كان الإنسانُ نِتاجًا لواقعه وسماته الشخصية والسلوكية، نِتاجًا لظروف معيشته، وإذا كانت المتغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية تؤثر في الأفراد وفي حياتهم الشخصية؛ فإن الإنسان الفقير في المجتمع الغني قد يشعر بالحرمان والاغتراب في مجتمعه، وقد يقوده هذا الشعور إلى اتخاذ مواقف تختلف إيجابًا وسلبًا، وَفقًا لثقافة الشخص ذاته، ومقدار ما يقدمه له المجتمع الذي يعيش فيه من احتواء أو إهمال.

ومن هنا ندرك أن الفقر قد يمثل بذاته سببًا مباشرًا من أسباب التطرف، وقد يكون عاملًا مساعدًا يقود الشخص إلى التطرف، وقد لا يكون هذا أو ذاك، وَفقًا للشخص الفقير ذاته، ووَفقًا لحالة المجتمع الذي يعيشُ فيه.

والفقر ظاهرة شديدة الخطورة، لها آثار سلبية على شتى مناحي الحياة، وتربطها علاقات وثيقة الصلة بالجهل والأمية؛ إذ إنها تضرُّ بالتعليم، وتزيد من الجهل والأمية في المجتمعات، ويترتب على ذلك إضرار بالصحة؛ حيث إنه، وَفقًا لبعض التقارير الدولية، مَن حُرموا من التعليم يصعب عليهم حماية أنفسهم من الأمراض والفيروسات، التي يمكن أن توديَ بحياتهم.

ثانيًا: الفقر والمنظمات الدولية

ولخطورة الفقر قامت الأمم المتحدة بالعديد من الإجراءات لمحاربته، فاختارت يومًا دوليًّا للعمل الخيري، وحدَّدت له يوم «الخامس من سبتمبر»؛ لموافقته ذكرى وفاة «الأم تريزا»، التي حصلتْ على جائزة «نوبل للسلام» عام 1979م؛ من أجل جهودها في مكافحة الفقر.

كما أعلنتْ «الفاو» (منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة) يوم 16  أكتوبر من كل عام «يومًا عالميًّا للأغذية»؛ بهدف زيادة وعي الرأي العام العالمي بمشكلة الجوع في العالم، والتشجيع على توجيه قدر أكبر من الاهتمام إلى الإنتاج الزراعي في جميع البلدان، والنهوض بدول العالم الثالث، ونقل التكنولوجيا إليها، ومكافحة الجوع وسوء التغذية فيها، وتشجيع مشاركة سكان الريف، وخاصةً النساء والفئات المهمشة في القرارات، والأنشطة التي تؤثر على ظروف معيشتهم.

وقد أصدرت منظمة «الفاو» الخميس 20 سبتمبر 2018م، تقريرًا مهمًّا جاء فيه أن العالم به 820 مليون إنسانٍ يواجهون الفقرَ ونقص الغذاء وشبح المجاعات، يعيشون في 39 دولة، وأنهم في حاجة ماسَّة إلى مساعدات غذائية من العالم الخارجي، موضحة أن من بين هذه الدول 31 دولة إفريقية، و7 دول آسيوية، ودولة واحدة من دول الكاريبي.

وبالنظر إلى هذه الإحصائية، نجد أن دول إفريقيا لها نصيب الأسد من الفقر، وفي الوقت ذاته نرى بأعيننا أن لها نصيبًا كبيرًا من الحركات المتطرفة، الأمر الذي يؤكد بلا شكٍّ وجود علاقة وثيقة العُرى بين الفقر وانتشار التطرف وجماعات القتل والعنف. 

ويؤكد هذا أيضًا ما جاء في تقريرٍ لرئيس البنك الدولي للإسكان والتعمير في الفترة بين عامي 1966، 1968 أنه كانت هناك 164 حادثةَ عنفٍ استُخدمت فيها القوة، وقع معظمها في الدول الفقيرة، عدا حادثٍ واحدٍ تم في دولة غنية.

ثالثًا: العلاقة بين الفقر والتطرف

من خلال ما سبق، نستطيعُ القولَ بإن الفقرَ يُعدُّ حالة مثالية تُسهِّلُ على الجماعات المتطرفة استقطاب أفراد جُدُد إلى صفوفها، ولكن هذا الأمر لا ينطبق على جميع الحالات التي اتخذت من العنف منهجًا لها، وانضمت إلى الجماعات الإرهابية؛ إذ إنه تم استقطاب أعداد غير قليلة من الشباب الذين ينتمون للطبقات المتوسطة في المجتمعات المختلفة، شباب مستقرون اجتماعيًّا، ويشغلون وظائف مرموقة، ويحصلون على رواتب جيدة، ومع ذلك انضموا للجماعات المتطرفة.

ونرد على ذلك بأن أسباب التطرف بصفةٍ عامةٍ تمثل مشكلة معقدة ومتعددة الجوانب، تتداخل فيها أبعاد شخصية ودينية واجتماعية واقتصادية وسياسية وإعلامية، وربما هذا النوع من الشباب لم يتم تجنيده بسبب الفقر أو البطالة أو العوز، ربما لسببٍ آخر من الأسباب الأخرى التي تجعل الشخص ينتهج العنف، والتي يمكن تناولها في مقالات أخرى، أو ربما هؤلاء الشباب من الفئة التي تُسمى «المنجزين المستائين» – وهم الشباب المتعلمين والطموحين الذين يفتقرون للفرص الحقيقية للتقدم إلى الأمام، ويزداد استياؤهم عندما يقارنون أوضاعهم بأوضاع النُّخَب الثرية التي تعيش بجانبهم، أو عندما يقارنون احتمالية إحرازهم للتقدم بالمقارنة مع النمو والتطور في العالم المتقدم، هذا الأمر ينطبق بشكل خاص في الحالات التي يؤدي فيها الفساد الحكومي لتقويض النمو الاقتصادي والحكم الرشيد.

كما أن الفقر قد يكون سببًا غير مباشر للتطرف؛ ففي دراسة تحمل عنوان «رحلة إلى التطرف في أفريقيا.. العوامل والحوافز ونقطة التحول للتجنيد».. أعدَّها «برنامج الأمم المتحدة الإنمائي»؛ لقراءة الأسباب الاجتماعية والسيكولوجية والتعليمية التي تدفع الشخص للانضمام إلى تنظيم متطرف، توصل الباحثون من خلال مقابلات مباشرة مع «متطرفين» أفارقة، سبق لهم الانخراط في تنظيمات إرهابية، إلى عدة نتائج؛ من أهمها  أن الفقر والحياة على هامش المجتمع يدفعان إلى الولوج في دروب التطرف والعنف والتمرد، وأن التهميش والحرمان من الحقوق الاجتماعية، وعدم فهم النصوص الدينية فهمًا صحيحًا، وتدنِّي المستوى التعليمي، وسوء الأحوال الاقتصادية، وفقدان أحد الوالدين أو كليهما، كلها من أهم العوامل التي تلعب عليها التنظيمات الإرهابية لاستقطاب مجندين جُدُد.

واستهلَّ الأمين العام للأمم المتحدة «أنطونيو جوتيريش» هذه الدراسة بعبارة قال فيها: «إن خلق مجتمعات تعددية شاملة مفتوحة منصفة، تقوم على أساس الاحترام الكامل لحقوق الإنسان، وتضمن العدالة الاقتصادية للجميع، يمثِّل بديلًا ملموسًا وهادفًا؛ لحماية الشخص من السير في طريق التطرف العنيف». فالشاهد في عبارة «جوتيريش» هو أن ضمان العدالة الاقتصادية - التي بدورها تعيق الفقر - يمثل أحد الضمانات للوقاية من التطرف.

كما أكدت الدراسة أيضًا على أن «الطفولة التعيسة» قد تكون سببًا يقود الشباب إلى انتهاج العنف والانضمام إلى الجماعات الإرهابية، ولا شك أن الفقر والعوز من أهم أسباب الطفولة التعيسة التي قد تسبب نقمة الطفل على مجتمعه، ومن هنا كان الفقر سببًا غير مباشر لانضمام الأفراد إلى الجماعات المتطرفة.

رابعًا: معالجة الإسلام للفقر

وضع الإسلام حلولًا عديدة للفقر؛ من أهمها تشجيع الأفراد على عدم الاستسلام للفقر، والسعي في الأرض وطلب الرزق، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15].

كما حرص الإسلام أيضًا على دفع المسلمين للعمل، وفتح أمامهم أبواب العمل الصالح؛ ليختار كل إنسان ما يناسبه وما يقوى عليه، وجاء الأمر في القرآن الكريم بالانتشار في الأرض عقب أداء الصلاة طلبًا للعمل وسعيًا للرزق، قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10].

كما شجع النبي صلى الله عليه وسلم على العمل وعدم التواكل على الغير في الرزق، قال صلى الله عليه وسلم: «ما أكلَ أحدٌ طعامًا قطُّ خيرًا من أن يأكلَ من عملِ يدِه، وإن نبيَّ الله داود كان يأكلُ من عملِ يدِه». (رواه البخاري).

أيضًا شجع الإسلام من لم يجد عملًا في محل إقامته ألا يستسلم، وألا يقبل ما هو فيه من ضيق في الرزق وصعوبة في الظروف المعيشية، إنما أمرَه بالهجرة إلى مكان آخر والسعي في أرض الله الواسعة، قال تعالى: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء: 100].

 كما فرض الإسلامُ الزكاةَ على الأغنياء، وجعلها ركنًا من أركان الإسلام، وحث المسلمين على إخراج الصدقات، وحدد لهم الأصناف المستحِقَّة لها، وجعل في مقدمتها الفقراء، قال تعالى: {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة:60].

كما رغَّب الإسلام في صدقة التطوع التي يُخرجها المسلم دون تقيد بزمان أو مكان، قال تعالى: {وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْرًا} [المزمل: 20].

كما شجع الإسلام على ثقافة «الوقف» أو «الصدقات الجارية»، وجعل ثوابها ممتدًّا حتى بعد وفاة الإنسان، قال صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث؛ صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (رواه مسلم(.

في نهاية هذا التَّطواف السريع مع الفقر وعَلاقته بالتطرف، يمكن أن نتوصل إلى مجموعة من النتائج، نستعرضها على النحو الآتي:

- لا يمكن محاربة التطرف بالقوة الأمنية والعسكرية فقط، بل لابد من تجفيف منابعه، والتي يعتبر الفقر واحدًا منها.

- الثقافة الدينية مهمَّة للغاية في معالجة الفقر، ووقاية الشباب من استقطاب الجماعات الإرهابية والمتطرفة، ولذلك يقع على عاتق علماء الدين دورًا مهمًّا في إبراز الطرق والوسائل الشرعية، التي حددها الدين لمعالجة الفقر وعدم الاستسلام له.

- يجب تعظيم ثقافة العمل التطوعي والخيري، وتشجيع جميع فئات الشعب على ممارستها، وخصوصًا الأطفال والشباب، ونحن بذلك نقدم مساعدات للمحتاجين، وفي الوقت ذاته نقوي النزعة الإنسانية لدى الشباب، ونغرس فيهم ثقافة «الأخوة الإنسانية» الكفيلة بحمايتهم من الوقوع في براثن الجماعات المتطرفة. 

- محاربة الفساد والواسطة والمحسوبية، ومعاقبة من يُهدرون المال العام من الأمور المهمة التي تعطي الشباب الأملَ في غدٍ أفضل.

- يمكن للإعلام أن يلعب دورًا في مكافحة الفقر، عن طريق إبراز نماذج ناجحة من مُختلِفِ فئاتِ المجتمع، ممَّن كانوا فقراء ولم يُعِقهُم فقرُهم عن النجاح والتفوق، وما أكثرَهم في مجتمعاتنا العربية. 

وحدة الرصد باللغة التركية

 

طباعة