العنف الأسري وظاهرة التطرف

  • | الإثنين, 22 يوليه, 2019
العنف الأسري وظاهرة التطرف

     الأسرة نواة المجتمع، والمكوِّن الرئيس له. ومع وجود حالة من السلامة والاستقرار بين أفراد الأسرة ينتج مجتمع أكثر سلامة وصحة نفسية وسلوكية. ولا شكَّ أن اضطراب الأسرة هو أحد أبرز أسباب وجود خلل في نسيج المجتمع. وتواجه الأسرة العديد من التحديات التي تعيق مسارها السليم والسوي فكريًّا وسلوكيًّا.
ومن أبرز تلك التحديات ظاهرة العنف الأسري، والتي تُعرّف بأنها استخدام أحد أفراد الأسرة العنف في الاعتداء لفظيًّا أو جسديًا على فرد أو مجموعة بالأسرة، كالذي يحدث بين الأزواج، ومن الآباء والأمهات تجاه أطفالهم، أو حتى تجاه المسنين أو ذوي الاحتياجات الخاصة، فضلًا عن العنف بين الأطفال أنفسهم، أو الزواج المبكر للفتيات باعتباره أحد أشكال العنف الأسري ضد القُصَّر.
وتتعدد أسباب العنف الأُسري بين أسباب اقتصادية، واجتماعية، وثقافية، ونفسية. ومن المؤكد أن نشأة الأطفال في جو من المشاحنات والعنف اللفظي والجسدي يجعل منهم أشخاصًا غير أسوياء، ويُشكّل منهم أرضًا خصبة قابلة للتطرف، بمعنى أن ظاهرة العنف الأسري تمثل أحد أبرز أسباب التطرف الفكري والاجتماعي بالغ الضرر. ومن خلال المتابعة المستمرة التي يقوم بها "مرصد الأزهر لمكافحة التطرف" لأسباب التطرف وتحليل الظواهر المجتمعية والنفسية التي تؤدي إلى انتشاره، تبيَّن أن ظاهرة العنف الأسري لها ارتباط وثيق بالتطرف، سواءٌ أكان ذلك على المستوى الفكري أم السلوكي؛ بل إنها في كثير من الأحيان تمثل أبرز مكونات الشخصية المتطرفة وأحد الأسباب الرئيسة في نهج السلوكيات العنيفة.   


     ومن بين الدلائل التي يمكن الاستشهاد بها في هذا السياق تصريحات المحامي "كورينتين ديلوبل" الذي دافع عن مُنفذ هجوم الدهس في مدينة نيس الفرنسية "محمد سلمان الحويّج بوهلال"، وهو الهجوم الذي وقع في عام 2016م، وأسفر عن مقتل أكثر من 80 قتيلًا و200 جريح؛ حيث أعرب المحامي عن ندمه لتولّي هذه القضية؛ إذ إن دفاعه منع "بوهلال" من قضاء وقت أطول في السجن. وذكر المحامي أن "بوهلال" كان يُفرط في تناول المشروبات الكحولية، وله سوابقٌ في العنف المنزلي ضد زوجته التي كان يعيش منفصلًا عنها، وطلبت الطلاق منه. وبالتالي كان العنف الأسري أحد أسباب تكوين شخصيته المتطرفة.
ولا شكَّ أن زواج القاصرات، وضرب الزوجات هو أحد أبرز أشكال العنف الأسري، وفي هذا الصدد أشارت إحصائيات الأمم المتحدة إلى أن 39 ألف فتاة تحت سن الـ8 تتزوج يوميًّا حول العالم، أي ما يعادل زواج قاصرة كل ثانيتيْن. كما أن امرأة من بين 3 نساء حول العالم تتعرّض للعنف الجسدي أو الجنسي في حياتها، وكل هذا يدفع عددًا من الزوجات والقاصرات إلى الهروب؛ بما يُسهّل من عمل الجماعات الإرهابية في استقطابهم وتقديم الوعود الزائفة لهم.
وقد أكدت دراسة صدرت في عام 2015، أجراها باحثون من جامعة نبراسكا الأمريكية أن هناك عوامل غير أيديولوجية تتراكم مع مرور الوقت، بدءًا من الطفولة، وتعمل على دفع الفرد تجاه عدد متنوع من السلوكيات العنيفة، بما فيها التطرف العنيف، وأحد هذه العوامل غير الأيديولوجية هو العنف الأسري. وأوضحت الدراسة أن 45% من المتطرفين السابقين أكدوا أنهم تعرضوا خلال طفولتهم لعنف جسدي، فيما صرّح 21% أنهم كانوا ضحية اعتداءاتٍ جنسية. وأكد 46% أنهم تعرضوا للإهمال خلال طفولتهم. كما أكدت الدراسات العلمية الميدانية أن 35% من حالات العنف الأسري سببها ضعف الوازع الديني.
ومن أعظم أنواع العنف الأسري ما يكون ضد المرأة، وكذلك هروب الشباب وربما الفتيات من المنازل، بما يجعلهم عرضة للوقوع في براثن الجماعات الداعية للأفكار الشاذة والمتطرفة، والتي تحث على حمل السلاح وتكفير المجتمعات، والغلو في الدين، وتجاوز منهج الوسطية والاعتدال. كل هذه الأرقام والإحصائيات، إلى جانب الدراسات التحليلية تُبرهن بشكل قوي على مدى قوة العلاقة بين التوجُّه نحو دروب التطرف، والتعرض للعنف الأسري أو ممارسته.
وقد عالج الإسلام هذه الظاهرة بكل دقةٍ ورحمة؛ حيث عزَّز من قيمة الرحمة، وأمَر بنشرها في العالمين، وأرسلَ اللهُ رسولَه -صلى الله عليه وسلم- بالرحمة الشاملة التي تصل بالأمم والمجتمعات إلى بَرِّ الأمن والأمان؛ حيث قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
وانطلاقًا من هذا المبدأ الإسلامي الأصيل، فإنَّ الإسلام لا يُقِرُّ التعاملَ باستخدام العُنفِ بينَ الناسِ عامَّةً، وبينَ أفراد الأسرةِ الواحدةِ خاصَّةً؛ مُؤَكِّدًا على أن العنف لا يصلح أن يكون علاجًا لمشكلة، أو وسيلةً لإصلاح، بل إن وُجِد فى أسرة فهو خطرٌ يهدد تماسكها، وسلامة أطفالها، ويضرّ بصحة أفرادها البدنية والنفسية. يظهر هذا الأمر واضحًا في نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المُطهرة، فقد رغّب رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- الإنسانَ في التحلي بالرفق في جميع أحواله، فقال: "إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ". [أخرجه مسلمٌ].
وتدرك التنظيمات المتطرفة -وعلى رأسها داعش- أهمية دور الأسرة في التنشئة وتكوين الشخصية؛ لذا حرصت على أن يكون من ضمن المنضمين إليها آباءٌ وأمهاتٌ، حتى يكونوا مصدر التلقين لأبنائهم، فضلًا عن الاهتمام بالعملية التعليمية لتنشئتهم وفق هذه المناهج المتطرفة. وبدوره يعمل مرصد الأزهر على بيان صحيح الدين الإسلامي وتعاليمه السمحة ومحاربة الفكر المتطرف باثنتي عشرة لغةً أجنبيةً على مِنَصّات التواصل الاجتماعي المختلفة، فضلًا عن عمله الميداني، وبخاصة المتعلق بالشباب باعتبارهم الفئة الأكثر استهدافًا من قِبَل أصحاب الأفكار المنحرفة، وذلك للتأكيد على أن ظاهرة العنف بوجه عام، سواءٌ أكانت فكرية أم سلوكية، فإنها تُعدّ من أخطر ما يقابل المجتمعات كافة، وأنه لا بُد من تكاتف مختلف المؤسسات والمنظمات الرسمية وغير الرسمية لمجابهتها، والتأكيد على دور الأسرة والمدرسة الذي لا غنى عنه في تربية الأطفال وتنشئتهم نشأة سوية سليمة.

وحدة رصد اللغة الإسبانية

 

طباعة