جهود فرنسية ودُولية لمكافحة "التطرّف الإلكتروني"

  • | السبت, 31 أغسطس, 2019
جهود فرنسية ودُولية لمكافحة "التطرّف الإلكتروني"

     لم يقتصر دور الفضاء الإلكتروني على كونه وسيلة للتواصل، والتعارف، والتآلف بين مختلف الشعوب، وبناء عالم أكثر انفتاحًا وشمولًا، بل أصبح للأسف مرتعًا للحركات، والجماعات المتطرفة والإرهابية، ومنبرًا للعديد من أشكال العنصرية، لا سيما منصات التواصل الاجتماعي؛ فلم تتوان تلك الحركات والجماعات في استغلال ثورة التطوّر التكنولوجي والشبكة العنكبوتية لتحقيق مآربها؛ من ترويج لأفكارها المغلوطة، ومحاولة تجنيد شباب ومؤيدين جُدد؛ لضمان استمرار أيديولوجيتها، وضخّ دماء جديدة في صفوفها، وتبنّي الهجمات الدامية؛ لبثّ الرعب في نفوس مُعارضيها.

ومن هنا أصبح الربط بين وسائل التواصل الإلكتروني والعمل الإرهابي من صميم النشاطات الإرهابية، لدرجة أنه لم يعُدْ من المعقول تنفيذ أيّ جماعة متطرّفة أو إرهابية لأعمالها الإجرامية، دون استغلال لتلك الشبكة العنكبوتية.

فبعد الهجوم الإرهابي الدامي الذي وقع في مارس 2019 بمدينة "كرايست تشيرش" بنيوزيلندا، كان لزامًا على كافة الحكومات الأوروبية، وفي مقدمتها الحكومة الفرنسية، ضرورة التكاتف؛ لكي تتضافر الجهود من أجل التصدي لفيروس "التطرّف الإلكتروني"، لا سيّما أنه أصبح واحدًا من أشد أنواع التطرّف خطرًا، وأسرعها انتشارًا بين دول العالم، كما تزداد درجة خطورته بعودة المقاتلين، والمتطرفين من مناطق الصراع في الشرق الأوسط، وهم يحملون أفكارًا متطرفة، وخططًا ومصادر تمويل، ومنصات دعائية خاصة بتلك الحركات والجماعات المتطرفة والإرهابية، على شبكات التواصل الاجتماعي، كل ذلك يجعل من هذا التهديد الإرهابي خطرًا لا يزال يعبث بأمن واستقرار العديد من الدول، ومن بينهم فرنسا.

ولخطورة هذا الأمر؛ فقد أكّد «فرانك ريستر»، وزير الثقافة الفرَنسي، خلال مقابلة تليفزيونية، على أن حكومة بلاده عازمة على محاربة خطاب الكراهية في الأوساط الفرَنسية -وهو الخطاب الذي يراه مرصد الأزهر أحد أخطر أسباب التطرف - وإيجاد حلول عاجلة للرد على خطر ذلك الخطاب الذي يهدد المجتمع، مضيفًا أنه لا بد من مجابهة تلك الخطابات المسيئة التي تحرض على العنف والتطرف، عبر شبكات التواصل الاجتماعي.

وأشار «ريستر» إلى أن هناك حلًّا ثلاثيَّ الأبعاد لمجابهة هذا الخطر، يتمثل في معاقبة المسئول عن المحتوى الذي يحضّ على الكراهية، وتمكين المنصَّات من سحب ذلك المحتوى سريعًا، والمكافحة من خلال التعليم والتوعية عبر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، موضحًا أن هذا الحل لا يتعارض على الإطلاق مع حرية التعبير، والحقوق المكفولة للمواطنين.

 

ومن جانبها، أعدّت النائبة الفرنسية "لاتيتيا أفيا"، عضو حزب "الجمهورية إلى الأمام" إحصائية ضمن تقريرها بشأن مشروع القانون الذي تقدّمت به إلى مجلس النواب الفرنسي، في 3 يوليو 2019؛ والذي يهدف إلى استكمال ترسانة القوانين الفرنسية التي تهدف إلى مكافحة "التطرّف الإلكتروني"، ومساندة المنصات الإلكترونية الكُبرى في القيام بمسئولياتها في توفير عقوبات أكثر صرامة، وفعالية ضد مُروجي المحتوى المتطرّف، والإرهابي عبر الإنترنت، وقد جاءت بيانات تلك الإحصائية على النحو التالي:

على المستوى الدولي:

  • تم إبلاغ موقع "تويتر" عن وجود ما يقرب من (1,3) مليون تغريدة تحمل لغة الكراهية خلال الستة أشهر الأخيرة.
  • كما قام موقع "فيسبوك" بحذف نحو (4) ملايين منشور، في الربع الأول من عام 2019، مقابل (3,3) مليون خلال الربع الأخير من عام 2018، و (2,5) مليون في الربع الأول من عام 2018.
  • أيضًا قام موقع "يوتيوب"، خلال الربع الأخير من عام 2018، بحذف ما يقرب من (16,600) قناة، و(49,600) مقطع فيديو به مشاهد عُنف، و(18,950) مقطع فيديو مُسيء، أو يحمل طابع الكراهية، وهي أرقام إن دلت فإنما تدل على زيادة وسرعة انتشار التطرف الإلكتروني على الشبكة العنكبوتية.

على المستوى الأوروبي:

وفقًا للأرقام التي أعلنتها المفوضية الأوروبية في أواخر عام 2018، فإنّ منشورات الكراهية التي تم الإبلاغ عنها للمنصات الإلكترونية تندرج تحت فئات أساسية، وهي: كراهية الأجانب بنسبة (17%)، الكراهية ضد المسلمين (13%)، كراهية الغجر (12%)، معاداة السامية (10%).

على المستوى الفرنسي:

من بين الـ (163,723) بلاغ المُقدم خلال عام 2018 إلى منصة وزارة الداخلية الفرنسية - المكلفة بمكافحة المحتوى غير الشرعي على شبكة الإنترنت (Pharos)- هناك ما يقرب من (14 ألف) بلاغ يندرج ضمن فئة بلاغات الكراهية، أو التمييز العنصري على شبكة الإنترنت، وكانت أغلب البلاغات خلال السنوات الأخيرة تتعلق بتحريض الجماهير على الكراهية، والتمييز العنصري، والعِرقي، والديني، وقد بلغت نحو (7,250) بلاغًا خلال عام 2017.

جدير بالذكر أنّ مشروع القانون السابق ذكره قد حظي بدعم كبير من أغلبية حزب "الجمهورية إلى الأمام"، وأنّ القانون المُقترح هو ثمرة عمل بدأت فعالياته منذ عام 2018 في إطار الخطة الحكومية لمكافحة العنصرية، ومعاداة السامية.

ويتضمن نص القانون بعض توصيات التقرير الذي شارك في إعداده كلٌّ من الفرنسي-الجزائري "كريم أميلال"، و"جيل تاييب"، نائب رئيس مجلس ممثلي المؤسسات اليهودية (CRIF)، والذين تقدموا به إلى رئيس الوزراء الفرنسي في سبتمبر العام الماضي.

الجدير بالذكر أن مشروع هذا القانون ينص على ضرورة إنشاء "مكتب ادّعاء متخصص في مكافحة الكراهية على شبكة الإنترنت"؛ وذلك لوضع حدٍّ لإفلات المجرمين من العقاب، على أن يتكون هذا المكتب من قضاة ومحققين يتمتعون بالخبرة في التعامل مع شبكات التواصل الاجتماعي، كما سيتم دعم هذا الاختصاص الجديد بمنصة إلكترونية - مُخطط لها أن تكون جزءًا من خطة إصلاح العدالة - يمكن من خلالها تقديم الشكاوى عبر الإنترنت.

ووفقًا لما سينص عليه هذا القانون؛ فإنه ينبغي على المنصات، ومحركات البحث حذف أيّ محتوى مُسيء خلال مهلة تبلغ "24 ساعة" بحد أقصى، والمقصود بالمحتوى المُسيء هو المحتوى الذي يتضمن "الحض على الكراهية، أو العنف، أو التمييز، أو التجازوات العنصرية، والدينية"، كما سيتم أيضًا حظر الرسائل، ومقاطع الفيديو، والصور، التي تُمثل تحريضًا على أعمال إرهابية، أو تُدافع عن مثل هذه الأعمال، أو تمَسُّ الكرامة الإنسانية، أو أيّ محتوى يُمثل تحرشًا أو قوادة، أو مواد إباحية تستخدم الأطفال.

وينص القانون أيضًا على أنه في حالة امتناع أيّة منصة إلكترونية عن التعاون مع مؤسسة العدالة الفرنسية، فعلى الفور يتوجّه "المجلس الأعلى للصوتيات والمرئيات" بتحذير الممتنع، وتعرضه لغرامة قد تصل إلى 4% من حجم أعماله السنوية على مستوى العالم، أي ما يُقارب (1.25) مليون يورو.

أما بخصوص المحتوى المحذوف فإنّ القانون نصَّ على أنه يجب الاحتفاظ به لمدة لا تزيد على العام، مع وجود ضمانات تضمن عدم حذف المحتوى بدون أسباب؛ حتى يكون متاحًا لجهات العدالة في حالة إذا ما احتاجت إلى الاطلاع عليه.

وعلى الرغم من أن هذا القانون يُلزم حاليًّا المنصات بتزويد جهات العدالة بالمعلومات التي تسمح بالتعرف على مروجي محتويات الكراهية على الإنترنت، فإنه ينبغي أن نُدرك مدى الصعوبة التي ما زالت تواجهها العدالة الفرنسية في تطبيق عقوبات على مثل هذا النوع من الجرائم، وخصوصًا عندما يستحيل الكشف عن هوية الشخص المروج للمحتوى المتطرف والإرهابي عبر الشبكة العنكبوتية؛ ولتعزيز صور التعاون بين المنصات وجهات العدالة فسيتم إلزام المنصات بإبلاغ السلطات "فورًا" بأي محتوى متطرف، وتوفير ممثل قانوني مكلف بالرد على طلبات جهات العدالة.

وقد كان موقع "فيسبوك" العملاق -الذي عادةً ما كان يُشار إلى سلبيته في هذا الشأن-  في صدارة من استجاب في إمداد العدالة الفرنسية بعناوين بروتوكول الإنترنت (IP) الخاص بمستخدمي الإنترنت الذين يروجون محتويات الكراهية.

تجدر الإشارة إلى أن الأراضي الفرنسية في مايو الماضي قد احتضنت مؤتمر "نداء كرايست تشيرش"؛ لمكافحة التطرف والإرهاب عبر الشبكة العنكبوتية، بمبادرة أطلقها كل من الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون"، ورئيسة وزراء نيوزيلندا "جاسيندا أرديرن"، وذلك بمشاركة 10 رؤساء دول وحكومات، علاوة على قادة الشركات والمؤسسات الرقمية، مثل "توتير"، و"مايكروسوفت"، و"يوتيوب"، و"فيسبوك" وغيرها؛ من أجل مناقشة الحلول الفعالة لاستبعاد أي محتوى له طبيعة متطرفة من شبكات التواصل الاجتماعي، واتخاذ سلسلة من الإجراءات، والخطوات الملموسة للقضاء على المحتوى الإرهابي، والمتطرف على الإنترنت، وعدم استخدام الشبكة العنكبوتية كأداة من قِبَلِ الإرهابيين.

لذا نجد أنه من الضروري تضافر الجهود، وتعزيز التعاون على مستوى الدول، والحكومات، والشركات الرقمية، ليس فقط من أجل التصدي لظاهرة "التطرف الإلكتروني" من خلال حماية الخصوصية ومكافحة خطاب الكراهية والتضليل على الإنترنت، بل من أجل تنفيذ خطوات استباقية على أرض الواقع؛ لتفادي هذا الخطر في المستقبل.

ومن الضروري أيضًا إقرار ميثاق رقمي؛ لتوجيه إنشاء سياسة رقمية جديدة تتسم بالشفافية، وتخضع للمساءلة، يشارك فيها قادة الحكومات، وممثلي صناعة التكنولوجيا؛ وذلك للقضاء على المحتوى الإرهابي، والمتطرف على الإنترنت.

كما ينبغي على الحكومات دعم المؤسسات الرقمية الصغيرة، لاسيما تلك التي تلعب دورًا مهمًّا فيما يتعلق بمنع نشر المحتوى المتطرف العنيف حول العالم، من خلال توفير الخدمات اللوجستية، والموارد المالية؛ لإنشاء مستودع رقمي يساعد المؤسسات الصغيرة في اكتشاف المحتويات الإرهابية.

ومن الضروري أيضًا دعم القادة الشباب من خلال المشاركة في تنظيم قمة للشباب حول مكافحة التطرف عبر الإنترنت، يشارك فيها الشباب الذين يرغبون في معرفة المزيد عن الإرهاب، والتطرف العنيف عبر الإنترنت، وتطوير الأدوات؛ وذلك من أجل مقاومة هذا المحتوى، والتحصين من مخاطره.

وحدة رصد اللغة الفرنسية

 

 

طباعة