التطرف الفكري وعلاقته بتدمير الحياة الاجتماعية

  • | الخميس, 13 فبراير, 2020
التطرف الفكري وعلاقته بتدمير الحياة الاجتماعية

 

تعتبر الأسرة في الإسلام هي اللبنة الأولى التي يُبنى عليها المجتمع، وترابط الأسرة وخلوها من المشكلات الاجتماعية هو الطريق الأول لاستقرار المجتمع وترابطه وتماسكه، وإذا انهارت الأسرة وتفكَّكت انهار المجتمع وتفكَّك تبعًا لها. من ثمَّ، أَوْلى الإسلام الأسرة عناية فائقة، ووضع من التشريعات والضوابط ما من شأنه أن يحفظ تماسك الأسرة، وأن يضمن ترابطها بما ينعكس على المجتمع.

كما أن للأسرة دورًا فعَّالًا ومهمةً كبرى في حماية أفراد المجتمع من الوقوع في الفساد الأخلاقي والانحراف الفكري، بل هي المنطلق الأول لاستقامة الحياة الاجتماعية لجميع الأفراد، وإذا فقدت الأسرة دورها التربوي فسيصبح المجتمع حينئذٍ عرضة لإفراز نماذج سيئة تهدم ولا تبني، وتخرب ولا تُعمِّر. من هنا يمكننا القول بأن "التطرف الفكري" يُعدُّ سببًا رئيسًا في تدمير حياة المتطرفين الاجتماعية، إذ يلاحظ على شخصية المتطرف رفضه لكثير من القيم، والأعراف المجتمعية، من خلال تبريرات متوهَّمة يحاول من خلالها شرعنة ما يقوم به من تطرف، وما يصل إليه من غلو، ولا شك أن هذا كله يثمر ألوانًا متعددة من التدمير الاجتماعي، ويسهم إسهامًا كبيرًا في انهيار الكيانات الأسرية، وضياع الأبناء، والزجِّ بهم في براثن الفكر المتطرف.

البعد الاجتماعي لشخصية المتطرفين

يتجلى هذا من خلال دراسة البعد الاجتماعي لشخصية السيدة "سميحة" إحدى الداعشيات اللاتي تم استضافتهن من قبل الإعلامي نشأت الديهي في برنامج "الورقة والقلم" بتاريخ 13/1/ 2020، والذي اتضح من حوارها أنها من السيدات العاملات، وتتكون أسرتها من الزوج المعاون لها وأربعة من الأبناء.

ويتضح من هذه الصورة الاجتماعية لأم وأب وأبناء مدى الاستقرار الأسري الذي كانت تعيشه تلك الأسرة قبل تمكُّن الفكر التكفيري من عقولهم، وانضمامهم إلى تنظيم داعش الإرهابي، إلى أن سيطرت فكرة "الهجرة" على كلٍّ من الأب والأم للجهاد ــ على حدِّ زعمها وفهمهما المغلوط ــ، وانخرط الابن الثاني البالغ من العمر اثنين وعشرين عامًا في هذا التيار المدمر حتى قُتل في سوريا، مخلفًا وراءه زوجة وأبناءً، ليثمر قتله دمارًا في كيان أسري آخر.

وأما عن الأم فكانت "الهجرة" بدعوى الهرب إلى أرضٍ يُقام فيها شرع الله -على حدِّ زعمهما!!- حيث رسمت خريطة ذهنية متطرفة أثناء حوارها مع الإعلامي، وأشارت إلى جزءًا من الأرض هي في سوريا باعتبارها أرض الخلافة المزعومة! ومن ثم اتخذت لها ولزوجها مبررًا للسفر إلى أرض القتل والدماء وليست أرض الخلافة!

ومن العجيب أن نجد استنكار تلك الداعشية للأفعال والممارسات التي رأتها في تلك الأرض الملوثة بدماء الأبرياء على الرغم من سفرها بكامل إرادتها برفقة زوجها، ورفضها العمل مع تنظيم "داعش" الإرهابي، حيث عرض عليها التنظيم الإرهابي تعليم الأبناء في مدارسهم، وعمل تصور لمنظومة تربوية علمية. وقد اعترفت بأنها لم تجد مناهج تربوية لتدريسها إلى الطلاب، ومن ثم حرّمت على نفسها الأموال المعروضة عليها مقابل ذلك بدعوى عدم إقامة العدل قائلة: "لم تكن هناك نتيجة للعمل القائمة عليه لاتخاذ مقابل عليه، ولم تكن هناك مناهج أصلًا حتى أعمل بها وأتقاضى راتبًا عليها".

وتشير ساخرة عند سؤال الإعلامي لها ماذا فعلوا عند رفضِكِ العمل معهم؟ قائلة "رقُّوني" أيْ: تم ترقيتها من مشرفة على المعلمات في مدرسة، إلى إشراف عام على مدارس المنطقة بكاملها، فأين العدل المزعوم في فكر هذا التنظيم الإرهابي؟ وأين ما يمارسه من تعاليم الإسلام السمحة وتشريعاته العادلة؟!

ومن مظاهر التدمير الاجتماعي الذي حاق بهذه الأسرة ما أفادته السيدة "سميحة" حين خرجت من مصر ومعها زوجها وابنها بدعوى السفر السياحي إلى تركيا، وتركت ثلاثة من الأبناء في مصر، لم تعرف عنهم شيئًا منذ أربع سنوات!

ولنا أن نتساءل: كيف تزعم تلك الداعشية خروجها للجهاد مع وزوجها على أرض غير أرضها تاركة وراءها أبناء مشردين بدون أب أو أم، ليس لهم من يقوم على تربيتهم؟ وكيف لم تفكر تلك الداعشية ولو للحظات قليلة أن تركها جهادها الحقيقي والمتضمن تربية صغارها يؤدي لا محالة إلى الدمار الاجتماعي حال غيابها هي وزوجها؟ وهل من الاسلام أن تُلقي بيديها أحد أبنائها إلى التهلكة زاعمة أنه في جنان الخلد؟

واستكمالًا للدمار الاجتماعي الذي أصاب تلك الأسرة المستقرة، نجد أن أعمار أولادها الذين تركتهم يتراوح ما بين الخامسة عشر وبداية العشرينات، وهي بلا شك مرحلة عمرية صعبة، يبرز فيها الاحتياج الشديد إلى وجود الأبوين من أجل التقويم التربوي للأبناء، ومع ذلك وفي أشد الفترات التي يحتاج فيها الابن إلى أبيه وأمه من أجل ترسيخ الصفات المتزنة ليكون عنصرًا نافعًا في المجتمع، نجد أنانية الفكر والعقيدة المزعومة قد ترسّخت في عقل الأب والأم لتنهار أمامها غريزة الأمومة وعاطفة الأبوة، ومن ثمَّ أجازوا لأنفسهما الهجرة من أجل إقامة شرع الله!، وتركوا إقامة مقصود الله الحقيقي في أبنائهما، إنها ثقافة التضارب والخلط وعدم الاتزان النفسي مع الجهل بالشريعة وروحها، فأنَّى لهؤلاء المتطرفين إقامة شرع الله في مجتمع كبيرٍ، والحال أنهم عجزوا عن إقامته في بيوتهم؟

أوليس من الأحرى لتلك السيدة وزوجها احتواء أبنائهما في أطوار أعمارهم المختلفة ليكون الجهاد الحقيقي الذي ستُسأل عنه يوم القيامة بنصِّ حديث رسول الله ــ صلى الله عليه وسـلم ــ «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ».

ونجد شكلًا  آخر من أشكال  التدمير الاجتماعي الذي خلّفته تلك السيدة وراءها، حيث لم تكتف بما فعلته من إلحاق الدمار الكامل لأفراد أسرتها، بل أصرَّت على استكمال هذا التدمير لأبنائها - حتى وهى بعيدة عنهم-، فأعلنت صراحة في حوارها مع الإعلامي "أن هذا اللقاء ضد ابنها الأكبر في مصر"، وكأنها غير راضية عن عدم لحوق هذا الابن بها كما فعل أخوه، وقد بالغت في عنادها قائلة: "لست راغبة في ترك تلك الأرض"، وكأنَّها غائبةً عن الوعي لا تدرك ما تقول!.

 وحين سألها  الإعلامي عن ما إذا كانت نادمة على ما فعلت، أجابت في إصرارٍ عجيب يظهر أنانيتها من ناحية كما يظهر فكرها الظلامي من ناحية أخرى، بأنها لم تشعر لحظة بالندم، وهذا يعطي دلالة على أن هذه السيدة خالفت فطرتها كأمٍّ مما كان له أكبر الأثر في تدمير أسرتها، ولو كان لهذه الداعشية صوت من العقل لأرجعت زوجها عما هو مقدم عليه، ولصحَّحت مسار أسرتها، لكن ما حدث هو العكس حيث دُمِّرت الأسرة وانهار بنيانها!

وفي الجملة: أكَّدَ هذا اللقاء على "الجمود العقلي" الذي يتسم به هؤلاء، بالإضافة إلى الكذب والتدليس الذي يظهر يومًا بعد آخر في كلام الأفراد المنتمين إلى تنظيم داعش الإرهابي.

وإذ يعرض مرصد الأزهر هذه القراءة في فكر إحدى الداعشيات، فإنه يؤكد على ضرورة العمل على التماسك الأسري، ومراعاة البعد الاجتماعي، وحثِّ جميع الجهات المعنية على وضع ميثاق مشترك يهدف إلى حل المشكلات الاجتماعية في مهدها ويحذِّر من مخاطر التفكك الأسري، قبل أن تتفاقم المشكلة، ويتسع الخَرْقُ على الرَّاقِعِ، ونرى من الفينة إلى الفينة أسرة تتهاوى، وتُصدِّر للمجتمعات أبناء قتلة يحرفون في نصوص الدين ليتخذوها ستارًا لشرعنة جرائمهم.

وحدة اللغة العربية

طباعة