فرنسا في مواجهة خطاب الكراهية

  • | الأحد, 10 مايو, 2020
فرنسا في مواجهة خطاب الكراهية

   ساهم الإرهاب الذي يعصف بأوروبا ويوقع آلاف الضحايا، بشكلٍ كبير في انتشار ظاهرة "الإسلاموفوبيا" في كثير من الأوساط الأوروبية، لدرجة أنّ الشبكة الأوروبية لمكافحة العنصريّة (Enar)، قد حذّرت في تقريرها الذي شمل (24) دولة من دول الاتحاد عدا "بلجيكا"، من تزايد معدّل الجرائم ذات "الطابع العنصريّ"، إضافة إلى تفشّي العنصريّة المؤسسيّة في مختلف الدّول الأعضاء.
  وفي هذا السياق، ذكرت "كارن تايلور"، رئيس الشبكة الأوروبية لمكافحة العنصريّة، ملاحظة عدم حماية أنظمة العدالة الجنائيّة في أنحاء أوروبا لضحايا الجرائم العنصريّة، على الرغم من تزايد هذه النوعيّة من الجرائم، وذلك بناءً على تقرير يشمل البيانات التي تم جمعها بين عامي 2014 و 2018 والذي يوضح أنّ هناك تشريعات خاصّة تقوم باتخاذها دول الاتحاد الأوروبي لمواجهة جرائم العنصريّة، إلا أنّ هذه التشريعات تعوّقها أشكال خفيّة من العنصريّة المؤسّسيّة، التي بدورها تعوّق العمليّة القضائيّة، وتسجيل الشكاوى، ومسار التحقيقات مرورًا بالملاحقات القضائيّة، إضافة إلى أنّ الشرطة لا تأخذ الشكاوى المقدّمة من البعض على محمل الجدّ، كما أنّ الصبغة العنصريّة تختفي في كثير من الملفات، لدرجة أنّ بعض الضحايا لم يعودوا يتقدّمون بشكاوى. فعلى سبيل المثال - وفقًا لما تم تقديمه من بيانات - في "بولونيا"، يتم تقديم 5% فقط شكاوى إلى السلطات المعنيّة فيما يتعلق بجرائم العنصريّة.
  من جانبها، قامت الشبكة الأوروبيّة لمكافحة العنصريّة (Enar) بتوجيه نداء يقضي بضرورة إيجاد إعادة التّعريف بشكل واضح لجرائم العنصريّة، وضرورة استجابة المؤسّسات المعنيّة لذلك؛ لاحتواء تلك الأزمة. وفي ختام كلمة رئيسة الشّبكة الأوروبية لمكافحة العنصريّة، صرّحت بأنّ التغيير لأنظمة العدالة الجنائيّة يجب أن يتم تنفيذه حال أردنا تحقيق العدالة لضحايا الجرائم العنصريّة في أوروبا؛ إذْ إنّ سلامة الإنسانيّة على المحكّ.
   وعلى صعيد آخر، ساهمت ظاهرة "الهجرة" بشكلٍ كبيرٍ في انتشار ظاهرة "الإسلاموفوبيا"، والتي تراها معظم الدول الأوروبية أنها تُفقِرُ بلاد المهاجرين وتخلِق توتّرات في الدول المُستَقبلة. فعلى سبيل المثال، يرى "اليمين المتطرّف" أنّ فرنسا تشهد توتّرات متزايدة تتسبّب بها الثقافات المهاجرة، وأنّ الأحداث المأساوية التي ارتُكبت في فرنسا من قِبل أشخاص يُزعم أنهم غير متوازنين نفسيًّا، سببّتها "الهجرة". لذا يأمل "اليمين المتطرّف" في وضع قضيتي الأمن والهجرة على رأس أولويات الملفات المطروحة للنقاش السياسيّ.
  ومن جانبها، صرّحت "مارين لوبان"، رئيسة حزب التجمع الفرنسي خلال خطاب لها، بأنّه يسود فرنسا حاليًا شعور عام بعدم الأمان، فهناك شعور بانعدام الأمن الجسديّ، وأرجعت ذلك إلى عِدة أسباب هي: الظهور التدريجي للوحشيّة في المجتمع، وطعن الأشخاص غير المسوّغ بالأسلحة البيضاء، وكذلك بسبب قتل الأشخاص لأسباب تافهة والضرب المبرح بسبب نظرة بسيطة، وأعمال القتل الهمجيّة التي يقوم بها أشخاص يزعم أنهم غير متوازنين. وأضافت "لوبان" أنّه لا يمرّ يوم دون وقوع حدث مأساوي، والعديد من الأحداث التي وقعت تجعلنا نُشير إلى العنف المستشري في فرنسا، وإذا فرضنا أنّ هؤلاء المجرمين يتصرفون بدافع الجنون فقط وليس كما هو واضح لأسباب سياسيّة ودينيّة، فالواضح أنّ فرنسا ليست مستشفى للأمراض العقليّة. كما أنّ التدفّق السريع للمهاجرين غير الخاضعين لأيّ نوع من الرقابة في شوارع فرنسا ومدنها وقراها، جعل العديد من أحياء باريس تأخذ شكل غابة "الكاليه".
  ومن جهة أخرى، كشف استطلاع رأي نشرته مؤسسة "إبسوس" للأبحاث (Ipsos)، أنّ (60%) من الفرنسيين يرون أنّ" المهاجرين يمثلون تهديدًا"، وأنّ (65%) يظنون أنّ "استقبال المهاجرين لن يُحَسِّن من أوضاع الدولة". إضافة إلى أنّ (45%) من سُكان فرنسا يعتقدون أنّ وصول المهاجرين يحرم الفرنسيين من الخدمات الاجتماعيّة، ولكن هذا الرقم الأخير يُظهر تراجعًا بمقدار أربع نقاط عن الرقم المُسجل في عام 2016.
"إريك زيمور" ومناهضته للإسلام والمسلمين في فرنسا
يعد ملف "الإسلام والمسلمين" في فرنسا من القضايا الشائكة على الساحة السياسيّة، لذا حرص الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" منذ وجوده على رأس السلطة - على إعادة هيكلة شئون المسلمين في فرنسا؛ وذلك من خلال إعادة النظر في الأسلوب الذي تنتهجه الدولة الفرنسيّة تجاه شئون الديانة الثانية في البلاد، وذلك من خلال تبنّي أطروحات تم بلورتها في الجلسات الإقليميّة الخاصة بإسلام فرنسا، والتي تهدّف في الأساس إلى إشراك الجهات الفرنسيّة الفعّالة كافة في الميدان من أجل تحسين تمثيل الديانة الثانية في فرنسا، وللحرص أيضًا على إبراز الأصوات "الشابة والنسوية" وكذلك "المدنيّة"؛ من أجل تشجيع المسلمين على الاندماج داخل المجتمع الفرنسي، وحماية المجتمع من الوقوع في براثن التطرّف، دون المساس بمبدأ الحرية الذي يتضمن حرية العقيدة وممارسة الشعائر الدينيّة.
ولكن تاريخ الكاتب والصحفي السياسيّ الفرنسي "إريك زيمور" "Eric Zemmour"، أحد أكثر المفكرين الفرنسيين مناهضة للوجود الإسلامي بفرنسا وأوروبا، حافل بالعديد من المواقف العدائيّة والخطابات والكتابات المناهضة للإسلام والمسلمين، والتي تعكس فِكر هذا الكاتب، ليذهب بعيدًا عن حقيقة كون المسلمين الفرنسيين مواطنين كاملين، ليصفهم تارة بأنهم "غُزاة ومستعمرون"، وتارة بأنهم "يحملون دينًا وعقيدة وفكرًا ظلاميًّا لا يتوافق مع مبادئ الجمهورية الفرنسيّة العلمانيّة، وتارة يُلصق التُهم بعموم المسلمين ومن بينها الإرهاب، ليصل به الحدّ لأن يُطالب الحكومة الفرنسيّة بتخيير المسلمين الفرنسيين بين "الإسلام أو فرنسا"، وهو ما يعكس رغبته الواضحة بعدم وجود مسلمين في فرنسا، على عكس ما تسعى إليه الحكومات الفرنسيّة المتعاقبة.
وخلال الآونة الأخيرة، أثار "زيمور" الجدل في الشارع الفرنسي والساحة الإعلاميّة العالميّة؛ بسبب تصريحاته المتلاحقة عبر وسائل الإعلام، والتي لا يكفّ فيها عن مهاجمة المهاجرين والمسلمين. وكذلك كتاباته المتتالية التي تشغل حيزًا كبيرًا من النقاشات المجتمعيّة والعلميّة بين مؤيد ومعارض، مثل كتاب "الانتحار الفرنسي"، وكذلك آخر كتاب له بعنوان أو "القدر الفرنسي" والذي وصل إلى نسبة عالية من المبيعات بعد أيام قليلة من صدور طبعته الأولى، لدرجة أنّ الجمهور اصطف أمام دار النشر خلال جلسة الإهداء.

  كما بثت قناة "ال سي آى" الخطاب الذي ألقاه "إريك زيمور" في مؤتمر "اتفاقية اليمين"، الذي انعقد يوم السبت 28 سبتمبر 2019، والذي نتج عنه ما يقرب من 400 شكوي مقدمة إلى المجلس الأعلى للإذاعة والتليفزيون بفرنسا، وحسبما ذكرت قناة "فرانس أنفو" الإخبارية نقلًا عن هيئة الإذاعة والتليفزيون الفرنسية، أنها تلقّت العديد من الشكاوي بعد حديث الكاتب والصحفي الفرنسي "إيريك زيمور" والمعروف بمواقفه الخلافية التي تثير الكثير من الجدل، حيث يرون جميعًا أن حديثه يتبنّى خطاب الكراهية، وكراهية الأجانب و الإسلاموفوبيا. 
  وحتي داخل فريق الإعداد الخاص بالقناة نفسها، تسبّب البثّ المباشر لخطاب "إريك زيمور" في إحراجٍ كبير؛ حيث صرّح أحد المسئولين في القناة إلى جريدة "لوموند" بأن هناك انزعاجًا كبيرًا داخل القناة بسبب بثِّ هذا الخطاب المحرّض على الكراهية بشكل لا يصدق، حيث انتقد "إريك زيمور" في خطابه الأخير أيديولوجيا التنوّع.
  وخاطب الشباب الفرنسي قائلًا: "هل سيقبل الشباب الفرنسي أن يعيش أقليةً على أرضه، ويقبل استعماره من قبل الآخرين؟! فإذا كانت الإجابة "نعم"! فهم إذن يستحقون الاستعمار، وسيحاربون طويلًا من أجل الحصول على حريتهم. وإذا كانت الإجابة "لا" فعليهم أن يبحثوا عن حريتهم، والقيم التي قامت على الجمهوريّة، العلمانيّة، الاندماج، العيش السلمي، إلى غيرها من المصطلحات تم الالتفاف عليها، بل وتفريغها من مضامينها".
ردود الأفعال في الأوساط الفرنسية تجاه تصريحات "إريك زيمور"
توالت ردود الأفعال الفرنسية بعد التصريحات المخزية للكاتب والصحفي الفرنسي "إريك زيمور" في أثناء حضوره اجتماع لليمين المتطرف "اتفاق اليمين"، والتي تحضّ على الكراهية. فقد رفضت محكمة النقض الفرنسيّة الطعن الذي تقدّم به "إريك زيمور"، مؤكدة على إدانته بالأعمال المنسوبة إليه من تحريض على الكراهية والتّمييز والعنف ضد مسلمي فرنسا. وأوضحت المحكمة في حكمها أنه لا يجوز التحريض ضد شخص أو مجموعة من الأشخاص على أساس العرق أو المنشأ، أو بسبب انتمائهم لدين معين.
جدير بالذكر أن هذا الحكم جاء عقب الشكوى التي تقدّمت بها جمعيّة "كابجبو- يورو بالستين"« CAPJPO-EuroPalestine » ضد أقوال "إريك زيمور"، التي اعتبرت أنها "معادية للإسلام"، في أثناء أحد حلقات برنامج “C à vous” الذي يتم بثّه عبر القناة التليفزيونيّة "France5"، في السادس من سبتمبر لعام 2016.
وقد أكّدت السّلطة القضائيّة العليا قرار المحكمة الابتدائيّة، ومحكمة استئناف باريس، الذي يقضي بإدانته بـ "التحريض على التّمييز، أو الكراهية، أو العنف ضد شخص أو مجموعة من الأشخاص، بسبب أصولهم أو انتماءاتهم، أو عدم انتمائهم إلى عرق، أو أمّة، أو عنصر، أو دين معين". وأصدرت حكمًا يقضي بتغريمه مبلغ 3000 يورو إلى تلك الجمعية "كابجبو- يورو بالستين" «CAPJPO-EuroPalestine»؛ عقب ما أدلى به من تصريحات، مثل: "إننا نعيش منذ ثلاثين عامًا في غزو، واستعمار، يؤدي إلى نشوب حرب".
كما أدان رئيس الوزراء الفرنسي "إدوار فيليب" التصريحات المضلّلة التي أدلى بها "إريك زيمور" في "مؤتمر اليمين"، والتي تحضّ على الكراهية الدينيّة. وصرح "فيليب" بأنّ التصريحات والخطاب الذي ذُكر داخل المؤتمر أذهلته حيث تتّسم بالعنف والتحريض على الكراهية ضد المهجرين والأجانب، وهذا مخالف تمامًا للفكرة التي نعرفها عن بلدنا فرنسا "الجمهوريّة والديمقراطيّة".
ومن جانبه أدان "المرصد الوطني لمكافحة ظاهرة الإسلاموفوبيا" بفرنسا، والتابع للمجلس الفرنسي للديانة الإسلامية (CFCM)، تصريحات "إريك زيمور" واصفًا إياها بأنها جاءت مُخيبة للآمال ومُشينة وتدعو إلى العُنصرية، وأنها لم تأت على قدر قائلها، ولم تحترم معايير النقاش الديمقراطي. كما أعرب عن استيائه لغياب ردود الفعل الدبلوماسيّة الكافية، وغياب الإدانات الصريحة من جانب المجتمع المدنيّ ضد التصريحات التي تحضّ على أعمال الكراهية والتّمييز الغير مقبولة، ليس فقط لكونها تتعارض مع قوانين الجمهورية الفرنسيّة، ولكن لأنها تحمل في طياتها رغبة في تمزيق النسيج المجتمعي.
ومن منطلق منصبه مديرًا للمرصد الوطني لمكافحة الإسلاموفوبيا، طالب السيد "عبد الله زكري" كل وسائل الإعلام والمسئولين السياسيين ومؤسسات المجتمع المدنيّ كافة بضرورة التفرقة بين الرأي السياسي الحرّ، والذي يحتمل مبدأ انتقاد الأديان، وبين التصريحات العدائيّة التي يجب مكافحتها وإدانتها من قِبل طوائف المجتمع كافة، ومضيفًا أنه لا ينبغي على أيّ أيديولوجية أنْ تستغل المجتمع الفرنسي لتحقيق مآربها أو أيديولوجيتها.
وأوضح "زكري"، أنه على الرغم من احتفاظ المرصد بالحق في رفع دعوى قضائيّة ضد المدعو "إريك زيمور"، إلا أنه يُرحّب بقرار مكتب المدعي العام بباريس، والذي يُطالب بفتح تحقيق بشأن "السبّاب العلني" و"التحريض على الكراهية والتّمييز". مشيرًا إلى أنّه كلّف المحامية الجنائيّة "خديجة عويده" برفع دعوى مدنيّة فور الملاحقة الجنائيّة لزيمور من قِبل المدعي العام بباريس.
كما اختتم "زكري" تصريحاته قائلًا: "إنّ جُموع المسلمين الفرنسيين مرتبطين ببلدهم فرنسا، فهم مواطنون كاملون، وليسوا غُزاةً ولا مستعمرين، فهم يعملون للعيش بكرامة، ويُشاركون في الحياة السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والإعلاميّة، لذا فمن غير المقبول أنْ تتطفل القوى العدائيّة بفرنسا الموحَدة والغير قابلة للتقسيم من خلال خطابتها المعادية للإسلام" معربًا عن سخطه وإدانته باسم جميع من شعروا بالاعتداء عليهم ومهاجمتهم، جراء هذه التصريحات المُخزية.
وفى الوقت الذى تشير فيه الشائعات إلى عودة "إريك زيمور" المعادي للإسلام على قناة "سي نيوز"، صرح الصحفي "جان ميشيل أباثي" على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر"، قائلا: " في فرنسا، إذا ألقيت خطابًا معاديًا للعرب، يتم تعيينك في التلفزيون. شيء مذهل، أليس كذلك ! ".
وختامًا ..
يرى مرصد الأزهر لمكافحة التطرف أن مثل هذه المواقف والتصريحات العنصريّة وانتهاج خطاب الكراهية من قبل بعض الكتاب والشخصيات العامة لا يأتي بخير أبدًا؛ حيث تقوّض فرص السلام والعيش المشترك بين أبناء المجتمع وتحدث انقسامًا حادًّا بينهم؛ لذا يدعو مرصد الأزهر إلى التزام الحيادية والبعد عن شحن النفوس بالضغائن والعداء تجاه الآخرين بناء على الدين أو العرق أو اللون حفاظًا على أمن الأوطان واستقرارها. ويحذر مرصد الأزهر من أية دعوات داخل المجتمع الفرنسي ضد المسلمين أو اعتبارهم خارج منظومة المجتمع؛ لأن ذلك لن يساهم في دعم ترابط عناصر المجتمع الفرنسي الواحد، ولا شك أن المسلمين مكون أساسي داخل هذا المجتمع.


وحدة الرصد باللغة الفرنسية

طباعة