"الانتحار" سمة الحياة الاجتماعيَّة لدى الجماعات المتطرفة

  • | السبت, 23 مايو, 2020
"الانتحار" سمة الحياة الاجتماعيَّة لدى الجماعات المتطرفة

         إنّ الحياة الاجتماعيَّة سِمة رَّئيسة للبشر في المجتمع الإنسانيّ، حيث خلقهم الله سبحانه وتعالى في حاجة دائمة إلى بعضهم البعض، وفقًا لعلاقات يسوّدها الحب، والتفاهم، والتسامح، والأمان، حيث تكمن العلاقات السويّة في حب الحياة بين البشر والسعي فيها بما يضمن إِشباع رغبات الأفراد الاقتصاديَّة، والنفسيَّة والاجتماعيَّة، والدينيَّة. ولقد حثّنا دين الإسلامُ الحنيفُ على السعي الدائم لتطبيق تعاليم الإسلام في شتّى الأمور الحياتيّة، والتفقه الصحيح في الدّين، وكذلك التقارب العلميّ والعمليّ بين البشر بالتفاهم والصدق والإخلاص، ومِن ثَمَّ كان السعي بمثابة ترسيخ فكرة الحياة ذاتها في أذهان الأفراد بالمجتمع.

         وإن المتأمل في حال الجماعات المتطرّفة يجدها قد عَمَدَت إلى نفي هذا السعي الذي نادى به الدّين الإسلاميّ، وهم الزاعمون –كذبًا- أنهم المدافعون عن الدّين، حيث تعمل أفكارهم المغلوطة إلى ترسيخ الحرص على الموت لدى أعضائها، ذلك الموت الذي ينعتونه بأوصافٍ ذات معان محبّبة للنفوس، حتى يهرول إليه الفرد طّواعية، فيطلقون عليه تارة "الشهادة في سبيل الله"، وتارة أخرى "طريق الجنة"، والمتابع لهذه العمليات يجدها تبلورت في صورة العمليات الانتحاريّة، والتي تهدف إلى القتل سواء قتل الفرد ذاته، أو قتل الآخرين.

         وتُعدّ العمليات الانتحاريّة من الدوافع الهامة المساعدة في استقطاب التَّنظيمات الإرهابيَّة لأعضاء جُدُد، فعلى الرغم من دعواهم أن قتل النفس وسيلة للوصول إلى رضاء الله، فإننا نجد أن قياس مدى ولاء الفرد للتنظيم يرتبط بمدى إقباله على الانتحار، وما يزعمون بأنه "عمليات استشهاديَّة"، بدعوى أنها الدليل الأمثل على التوبة الحقيقية لتكفير الذنوب في الواقع الاجتماعيّ، بل والشاهد الأوحد على أحقية الفرد المنتحر على دخوله الجنان -كما يدَّعون-.

دحض ادّعاء التكفيريين بأن العمليات الانتحارية "شهادةٌ في سبيل الله"، و"طريقُ دخولِ الجنَّة"

        ولعلَّنا نجد في العلوم الاجتماعيَّة ما يفسّر لنا أسباب إقدام الأفراد على قتل أنفسهم، ومن ثمّ دحض ادّعاء التكفيريين بأن جرائمهم الإرهابيّة بمثابة عمليات استشهاديّة للفوز بجنَّة الخلد، والحقيقة أنها عمليات انتحاريَّة تحت أوصاف دينيّة، فكانت فكرة الانتحار.

وسائل الجماعات المتطرّفة لإقناع الأفراد بالانتحار

         ولا ريب أننا نجد الكثير من الوسائل الثقافيّة الماديّة، واللاماديّة التي تتبعها الجماعات المتطرّفة للوصول إلى عقول الأفراد حتى يقدموا على الانتحار، وكانت من تلك الوسائل الصور الحماسيّة للقضايا المختلفة في إصداراتهم الدَّامية، والتي يتسلّلها مفاهيم وأفكار ضمنيّة للوصول إلى أهدافهم، فمِن بين عمليات القتل والذبح، يتم التنويه عن الانتحار "بأسلوب غير مباشر". فعلى سبيل المثال تناول تنظيم "داعش" الإرهابيّ "التّفكّر وصُوَره" وتطرّق إلى فضله في إحدى إصداراته المتطرّفة، مستشهدًا بآيات قرآنيّة، حتى يظن القارئ للوهلة الأولى استناد التّنظيم الإرهابيّ إلى الدلائل العقليّة والنقليّة في الدعوة إلى فكره الأسود هذا، ولكن نجد السمَّ القاتل بين طيّات تلك الصورة، فيتحدثون عن الانتحار بصورة عقليّة، أثناء الحديث عن التّفكّر في الآخرة، حتى يصل إلى التّفكّر في حقارة الدنيا، تلك الكلمة السلبيّة التي تدل على التصغير من شأن الدنيا ورفض السعي فيها، مع النظرة الدونية للحياة الاجتماعيّة، تلك المرحلة الأولى التي تشير إلى عدم الرغبة في الحياة التي لا قيمة لها، فيتحول الدين إلى مجرد التديّن الخاطئ في العقيدة، والممارسات الدينيّة الخاطئة، والدعوى إلى احتقار الحياة الشخصية وحياة الآخرين، ممّا يمهّد لفكرة الانتحار تحت دعوى وزعم دخول الجنَّة.   

        ووَفق متابعات مرصد الأزهر لمكافحة التطرّف المستمرة لتحركات تلك التّنظيمات الإرهابية وما يتم رصده على أرض الواقع من عمليات تنفذ تحت زعم "الشهادة في سبيل الله"!، نجد أنها تسعى من خلال تلك العمليات الانتحاريّة إلى إثبات وجودها على الأرض واستمرار نشاطها الإجرامي المعتاد وإن قل نسبيًا أو لم يحقّق مكاسب فعليّة من حيث عدد الضحايا الذي كان في فترة من الفترات مقياسًا لتلك التنظيمات الإرهابية على مدى نجاحها، ولكن مع العمليات العسكريّة المكثفة التي قامت بها العديد من دول العالم ضد معاقل وأوكار تلك التّنظيمات، وتشتَّت أفرادها، مثل ما حدث مع تنظيم "داعش" الإرهابي، أصبح موت مُنفذ العملية الانتحاريّة في حد ذاته رسالة من هذه التّنظيمات إلى الآخرين، بهدف إثبات أن أفكارها مرغوبة وحقيقية ويؤمن بها البعض بل وينفذونها على حساب حياتهم، مع تعظيم تلك التّنظيمات الإرهابيّة لدَور المُنفذ عبر وضع صورته في إصداراتها والثناء على فعله لتحويله إلى بطل لا يضاهيه أحد في نظر ضعاف النفوس والراغبين في بلورة دور ملموس لهم داخل وخارج التنظيم، وهذا ليس فقط لإثبات وجود التنظيم على الأرض بل لخلق روح التنافس بين أعضاء التنظيم، لضمان استمرار تلك العمليات الانتحاريّة، وفكرها الأسود، وسدّ العجز الحاصل في عدد أعضائهم عبر جذب أعضاء جدد، وتنفيذ عمليات إرهابيّة بعدد محدود مِن المنفِّذين، مثل العمليات الانتحاريّة التي لا تحتاج سوى مُنفِّذ واحد، أو ثلاثة على الأكثر، لمساعدة المنفّذ الرّئيسيّ وتغطيته، تسهيلًا لأداء مهمّته الانتحاريّة.

         ومن هنا يؤكد مرصد الأزهر، على كذب دعوى التّنظيمات الإرهابية في أنهم "مجاهدون في سبيل الله"، فالعمليات التي يزعمون أنهم يتقربون بها إلى الله تعالى، ما هي إلا عمليات انتحاريّة هدفها هدْم الإنسان والبنيان، كما يؤكد على أن دعواهم التكفيريّة، ما هي إلا دعواتٌ تعمل على نشر الدمار في المجتمعات الآمنة، ومحاولاتٌ لاستقطاب الأفراد ذوي العقول الخاوية لترسيخ أفكارهم المغلوطة.

 

وَحدة رصد اللغة العربية

طباعة