حب الوطن ... ملمح قرآني ودرس نبوي من دروس الهجرة

  • | الأحد, 23 أغسطس, 2020
حب الوطن ... ملمح قرآني ودرس نبوي من دروس الهجرة

            مع بداية كل عامٍ هجريّ يحتفي المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها بالهجرة النبويّة المطهرة، تلك الهجرة التي غيَّرت وجه التاريخ، وكانت الخطوة الأولى نحو بناء دولة الإسلام الفتيَّة، بعد أن عانى المسلمون من بطش الرافضين لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم في مكة المكرَّمة سنواتٍ طويلة.
        وعلى الرغم من أحداث الهجرة النبويّة المباركة المليئة بالدروس والعِبر والعِظات، التي يستطيع المسلم أن يسترشد بها، ويسير في هداها، ويقتبس من أنوارها، ويفيد منها في حياته وواقعه المعيش، إلا أن الجماعات المتطرّفة قد استغلت هذا المفهوم لجذب العديد من المقاتلين في صفوفها، تحت مسمى الهجرة.
        وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم فساد هذا المسلك، وخطأ هذا الزعم، حين أكَّد أن مفهوم الهجرة الذي يعني الانتقال من مكان إلى مكان قد انتهى وقته، وزال سببه، بعد أن صار للإسلام دولة مَهيبة الجناب، قويّة الأركان، ثابتة القواعد،  فقال صلى الله عليه وسلم: «لا هجرة بعد الفتح»؛ أي: أن الله هيّأ لعباده من الأسباب ما جعل مفهوم الهجرة له معنىً آخر، وهو ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «ولكن جهادٌ ونيّة»، فيبقى معنى الهجرة هو الترك والبُعْد عن كل ما لا يُرضي الله، وجهاد النفس وتقويمها، وحَمْلُها على ما فيه نفعُها وصلاحها. وعليه فالهجرة التي يُثاب عليها صاحبُها ليست هجرة الأوطان، وترك العمران، وإنما الهجرة ترك العصيان، وجهاد النفس ضد شهواتها.
        وإذا كانت الهجرة النبويّة المباركة مليئةً بالعِظات والعِبَر، فسيظل الانتماء للوطن وحبُّه والمحافظة عليه من أعظم دروسها، وأبرز عِظاتها. 
        وقد عبَّر النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الحبِّ في مواطن كثيرة، في بداية بعثته وحين هجرته، ففي بداية البعثة لمّا نزل عليه الوَحي الشريف، وذهب صلى الله عليه وسلم مع زوجته أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها إلى ورقة بن نوفل، يقصُّ عليه ما حدث معه من أمر نزول الوَحي، وورقة يفسّر له ذلك حتى قال: «ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومُك»، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَوَمُخْرِجِيَّ هم؟!» [رواه البخاري].
        وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «أَومُخْرِجِيّ هم؟!» ما يدلُّ على تألُّمه، كأنَّه استبعد صلى الله عليه وسلم أن يخرجه قومه من وطنه المحبوب، حَرم الله وجوار بيته، وبلدة أبيه إسماعيل من غير سبب، فإنَّه صلى الله عليه وسلم لم يكن منه فيما مضى ولا فيما سيأتي سبب يقتضي إخراجًا، بل كانت منه المحاسن الظاهرات، والكرامات المقتضية لإكرامه وإنزاله بأعلى الدرجات. 
        وفي ليلةِ الهجرة المباركة، يُسجل التاريخ بمداد من نور على جبين الدهر ذلكم الموقف الخالد، الذي يأخذ بمجامع القلوب، حين وقف النبي صلوات الله وسلامه عليه على مشارف مكّة قاصدًا المدينة المنورة، وقف على مشارف وطنه المحبوب الذي ترعرع فيه، وخالط حبُّه شغاف قلبه، وقف يودعُ أرض مكة وبيوتها، يستعيد المواقف والذكريات التي عاشها على هذه الأرض في مراحل الصّبا والشباب، وهو يقول بنبرة المحبِّ الشفوق، معبِّرًا عن حبه لذاك الوطن: «والله إنِّي أعلم أنك خيرُ أرض الله، وأحبها إلى الله، ولولا أنَّ أهلك أخرجوني منك ما خرجتُ»، وفي رواية أخرى: «ما أطيبَك من بلدٍ! وما أحبَّك إليَّ!، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنْتُ غيرك» [رواه الترمذي].
       بهذه الكلمات الرقيقة، وبتلك العبارات الأخَّاذة، يتجلَّى حبُّ النبي صلى الله عليه وسلم الشديد لبلده ووطنه، كما يظهر بوضوح مدى حزنه لمفارقته لوطنه، لولا اضطراره لذلك.
        إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتمي إلى ذاك الوطن بكل مشاعره وكِيانه، وبالرغم من أنه لاقى على أيدي المشركين في مكة كافة أنواع التعذيب النفسيّ والبدنيّ، وعانى أشدَّ المعاناة هو وأصحابه من ألوان الاضطهاد، إلا أن ذلك لم يحوّله إلى ساخط على وطنه، أو كارهٍ لبلده، أو مفسدٍ لمقوماته أو منتهكٍ لحرماته، بدعوى الانتقام، أو الشعور بالمظلوميّة التي استباح بها أصحاب الفكر المتطرّف، هدم الأوطان، وتخريب العمران.
        ولشدة تعلُّقه صلى الله عليه وسلم بموطنه الأول، جاء الوعد الإلهيّ الكريم يطمئن قلب النبي صلى الله عليه وسلم بالعودة الحتميّة إلى ذلك الوطن العزيز، فقال تعالى مخاطبًا نبيَّه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ}. 
ولما منَّ الله على النبي صلى الله عليه وسلم بفتح مكة، عَفّى عن أهلها، ولم يرفع في وجوههم سيف الانتقام، بل أظهر لهم من مكارم الأخلاق وجميل الصفات ما جعلهم يتوارون عنه خجلًا وحياءً، ودخل وطنه مكة في أكمل صور التواضع والرحمة، معربًا لأهله عن تقديره لموطن النشأة والبلد الذي ترعرع فيه، وشبَّ وأفاد من قيمه وخيره، في صورة برَّاقة من صور العفو والصَّفح والتسامح، ليكمل مسيرة البناء والتعمير، فوصَّى أصحابَه أن يحافظوا على كل شبرٍ في وطنه بألَّا يقتلوا أحدًا، ولا يقطعوا شجرة، ولا يهدموا بيتًا، وأن يرفعوا شعار الأمن والأمان لكل الناس.
        إنَّ حب الوطن والمحافظة عليه فطرةٌ إنسانيّة، تجرَّد عنها ومنها أصحاب القلوب الفظّة، والعقول المغلقة، من أصحاب الفكر المتطرّف، الذين لا يتورعون عن حمل السلاح في وجه أبناء وطنهم، ولا يتردّدون لحظةً في هدم مقوماته، وتخريب مؤسساته، مخالفين بذلك صوت الفطرة الذي يقضي بأن البشر يألَفُون أرضَهم على ما بها، ولو كانت قفرًا مستوحَشًا، تلك غريزةٌ متأصِّلة في النفوس، تجعل الإنسانَ يستريح إلى البقاء في وطنه، ويحنُّ إليه إذا غاب عنه، ويدافع عنه إذا هُوجِم، ويَغضب له إذا انتُقص. 
إن مرصد الأزهر يؤكد أن التعاليم الدينيّة والتوجيهات الربانيّة وما تحتوي عليه من معانٍ كفيلةٌ بإسعاد البشريّة، وتحقيق قيم الأخوة الإنسانيّة، والخروج بالبشريّة كلها من أزماتها الطاحنة، لولا هؤلاء الشرذمة الذين عملوا على إحلال مفاهيم مغلوطة لا تتوافق مع مقاصد الشّريعة، ولا تناسب قيم الأديان محل معاني مهمة، فبدلًا من معاني الولاء للأوطان وحبّها وتعميرها الواضح من دروس الهجرة، جعلوا مفهوم الهجرة التنكّر للأوطان، وهدم مقدراتها والخروج عليها، فسادًا وإفسادًا؛ فبئس ما يصنعون. 
ولَكَم نرجو أن يستوعب أبناؤنا وشبابنا الدرس، حتى لو قطعتهم ظروف الحياة عن أوطانهم الأمّ، إلا أن عليهم أن يبروها، ويحسنوا إليها، وينقلوا لها كافة وسائل العلم وأساليب الحياة، وأن يعملوا بالتوازي على المساهمة في عمران المجتمعات والنهضة العلميّة والإصلاح وتطبيق كافة معاني الأخوة الإنسانيّة. 

 وحدة اللغة العربية
 

طباعة