نيوزيلندا... نموذج فاعل في مواجهة التطرّف والعنصريّة

  • | الإثنين, 7 سبتمبر, 2020
نيوزيلندا... نموذج فاعل في مواجهة التطرّف والعنصريّة


         لم تكن "سارة قاسم" تعلم أن الخطط التي وضعتها للقيام برحلات بريّة مع والدها لن تنفّذ أبدًا، كما لم يعِ أبناء "زكريا تويان" الصغار أن وجبة الفطور التي جمعتهم بوالدهم صباح يوم الجمعة الموافق 15 مارس 2019 ستكون آخر ذكرى تجمعهم به في الحياة. 

         ففي هذا التاريخ، استيقظ العالم على خبر عاجل، تبثّه وكالات الأنباء المختلفة عن تنفيذ أحد الأشخاص لهجوم بسلاح ناريّ على مسجدين بمدينة "كرايست تشيرش" في نيوزيلندا، وسط ذهول الجميع من وحشيّة الهجوم الذي هزَّ أرجاء البلاد وفرض واقعًا صعبًا على المسلمين في بلد يتميز بنبذ العنصريّة والكراهية. 

         "17 دقيقة" كانت كفيلة بإعادة تشكيل الحياة في نيوزيلندا ليس فقط للمسلمين، بل لكافة سكان هذا البلد الصغير، بعد مذبحة خلَّفت 51 قتيلًا وعشرات الجرحى. تلك الدقائق هى التي نفّذ فيها الاسترالي "برينتون تارانت" (29 عامًا) هجومه على مسجد "النور" بشارع "دينيز" في مدينة "كرايست تشيرش" أثناء صلاة الجمعة. 

         هذا التغيير طال أكثر من جانب في نيوزيلندا منها القضاء وهو ما بَرز مؤخرًا خلال الحكم الصادر ضد الإرهابيّ "تارانت" يوم الخميس الموافق 27 أغسطس 2020 بالسجن المؤبد دون السماح بإطلاق السراح المشروط، في حكم وصف بـ "التاريخي" كونه لم يحدث في هذا البلد الصغير من قبل، لما رأته المحكمة من إصرار واضح على تنفيذ الاعتداء الإرهابيّ من خلال التخطيط له قبل سنوات، وما يمثله الحادث من خطورة على نسيج المجتمع ووحدته. 

كان مرصد الأزهر لمكافحة التطرّف قد تطرق في العديد من إصداراته مرارًا إلى أهمية تطبيق القانون بحزم؛ لمنع تكرار مثل تلك الحوادث التي تحركها الأفكار المتطرفة والعنصريّة ونبذ الآخر. 
         وقد سبق هذا الحكم مجموعة من الإجراءات التي أظهرت أيضًا تغيرًا واضحًا في توجهات الجميع في نيوزيلندا وهو ما أكدته، جاسيندا أرديرن، رئيسة الوزراء، عندما قالت: "بعد مرور عام، أعتقد أن شعب نيوزيلندا تغير جذريًّا... إن التحدي الذي يواجهنا هو أن نتصدى كأمة، في كل مناحي حياتنا اليومية وفي كل فرصة تواتينا، للتنمر والعنصريّة والتمييز".

         فإعلاميًّا، عقب وقوع الحادث الإرهابيّ أوقفت رئيسة الوزراء حالة التردّد التي سادت وسائل الإعلام حول تصنيف منفذ الحادث، واكتفائهم بإطلاق مصطلحات مثل "المسلح" و"المهاجم" عليه، لتنأى بنفسها عن حالة التخبط تلك وتصفه بشكل صريح وواضح لا لبس فيه بـ "الإرهابي"؛ إدراكًا منها لمدى خطورة الحادث الذي شكّل نقطة تحوّل كبرى في توجهات بلادها وقرارات حكومتها. 

         وهو ما لفت المرصد إليه في عدد من إصداراته عندما طالب بوضع حدّ لاذواجية المعايير المنتشرة في وسائل الإعلام الغربيّة حيال جرائم اليمين المتطرّف، وتصنيف تلك الجرائم كـ "إرهاب" ضد الآخرين، مؤكدًا أن اليمين المتطرّف لا يقل خطورة عن تنظيمي "داعش" و"القاعدة" وغيرها من التنظيمات المتطرّفة؛ لأنها جميعًا نابعة من فكر متطرّف استعلائيّ ينظر للآخر نظرة دونيّة ويعتبر نفسه فوق القانون.

         وامتد هذا التغيير أيضًا إلى ما عجزت الحكومة النيوزيلنديّة على تغييره منذ سنوات، ونقصد هنا حظر بيع الأسلحة نصف الآليّة ذات الطراز العسكريّ، والتي تم استخدامها في تنفيذ الهجوم الإرهابيّ على المسجدين، حيث ظل هذا القانون متداولًا في الأروقة دون أيّة بوادر لإقراره رسميًّا حتى وقعت مذبحة كرايست تشيرش والتي غيرت ما بدا صعب تغييره.

        هذا الإجراء الأمنيّ الذي اتخذته نيوزيلندا باتت دول العالم جميعًا في أمسّ الحاجة لتطبيقه أيضًا بعد تصاعد حدّة التطرّف والعنف عالميًّا ومقتل الكثير من الضحايا الأبرياء الذين لا ذنب لهم سوى الاختلاف دينيًّا أو فكريًّا مع المعتدي. 

       ويعد التّعايش السلميّ والتواصل بين أفراد الوطن الواحد سلاحًا فعّالًا لمواجهة التطرّف ونبذ العنصريّة، ونيوزيلندا عقب هذا الحادث ضربت مثالًا يحتذى به في هذا عندما سعت حكومتها إلى إزالة الحواجز بين المسلمين وشركائهم في الوطن؛ حيث تم بثّ الأذان وصلاة الجمعة على شاشات التليفزيون مع استخدام لغة توحد لا تفرق عند الحديث عن ما أصاب المسلمين في الحادث؛ لدعم روح المشاركة والتضامن بين جميع أبنائها دون تفرقة. 
        وهو ما انعكس على النيوزيلنديين أنفسهم؛ فقد تخلى العديد منهم طوعًا عن أسلحته قبل إقرار قانون "تنظيم حيازة الأسلحة". كما احتشد الآلاف حول المساجد للتعرف على الإسلام وتعبيرًا عن تضامنهم مع المسلمين. كما وصلت التبرعات التي جمعتها منظمات نيوزيلنديّة غير حكوميّة لصالح الناجين وأهالي ضحايا مذبحة كرايست تشيرش لـ  10 ملايين دولار .
        ويمكن القول بأن التغيرات السياسيّة والاجتماعيّة والإعلاميّة والأمنيّة التي شهدتها نيوزيلندا عقب هذا الحادث الإرهابيّ ليست وحدها المطلوبة؛ فـنيوزيلندا كغيرها من دول العالم تواجه فكرًا متطرفًا متأصلًا في عقول البعض يلزمه مواجهة فكريّة قويّة تدحضه وتفنّد الأسس التي يقوم عليها.
جدير بالذكر أن التيار القوميّ المتشدّد في نيوزيلندا يعد امتدادًا للتيار الموجود في استراليا، ووفق ما نشرته "فرانس 24" نقلًا عن موقع "ذا كونفيرسيشان" الاستراليّ فقد أكد الباحث بول سبونلي، المتخصص في حركات اليمين المتطرّف، أن هناك 70 جماعة في نيوزيلندا تنطبق عليها تعريفات اليمين المتطرّف يتمركز أغلبها في مدينة "كرايست تشرش". ووجد الباحث أن معظم هذه المجموعات تتميز بعدائها الشديد لكل من لا ينتسب لما يصنفونه بــ "العِرق الأبيض"؛ وذلك لإيمانهم بتفوق هذا العنصر على غيره.
           ولعل رئيسة الوزراء في نيوزيلندا "جاسيندا أرديرن" أدركت حتميّة تلك المواجهة الفكريّة عقب مذبحة كرايست تشرش؛ لذا ندّدت بالأيديولوجيّة القوميّة، وما يتردّد عن تفوّق العنصر الأبيض على غيره، رافضة في الوقت ذاته عملية الربط التي تحدث دومًا بين هجرة المسلمين وتزايد أعمال العنف ضدهم في الدول الغربيّة. كما دعت إلى إطلاق حملة عالميّة لاجتثاث أفكار اليمين المتطرّف والعمل على تصنيف جرائمهم العنصريّة كـ "جريمة عالميّة".
         لهذا يرى مرصد الأزهر لمكافحة التطرّف أن النموذج النيوزيلنديّ خير دليل على فعّاليّة الإجراءات الحازمة في مواجهة التطرّف على كافة الأصعدة داخل الدولة بداية من وضع تصور واضح للتعامل مع كافة الجرائم التي ترتكب من قبل اليمين المتطرّف ضد المسلمين وغيرهم دون ازدواجيّة أو تمييع إضافة إلى إظهار الضرّر الناجم عن تلك الجرائم على الضحايا وأسرهم مع تقديم الدعم السريع لهم. 
كما يؤكد المرصد أن هذه التحركات ساهمت في منع استغلال تنظيمات متطرّفة مثل "القاعدة" و"داعش" لهذا الحادث لإثارة القلاقل في المجتمع النيوزيلنديّ، واتخاذه كذريعة لتنفيذ عمليات إرهابيّة على أرض نيوزيلندا. وبناء على ذلك يجدّد المرصد دعوته لكافة دول العالم للتعامل بحزم مع تجاوزات اليمين المتطرّف من خلال سَنّ قوانين من شأنها أن تعاقب كل معتدي على جرمه مهما كان حجمه؛ لمنع تكرار تلك الجرائم العنصريّة التي لم تجني البشريّة منها سوى زعزعة استقرار المجتمعات وسفك دماء الأبرياء.

الوحدة الإعلامية
 

طباعة