نظرية "تفوق العرق الأبيض".. داء يحتاج إلى دواء

  • | الثلاثاء, 29 ديسمبر, 2020
نظرية "تفوق العرق الأبيض".. داء يحتاج إلى دواء

     في 15 مارس 2019، شنَّ الإرهابي الأسترالي "برينتون تارانت" هجومًا على مسجدين في مدينة "كرايستشرش" في نيوزلندا، ما أدى إلى مقتل 51 مسلمًا وإصابة العشرات. ومنذ افتتاح مرصد الأزهر لمكافحة التطرف في عام 2015، فقد تابع أحداثًا إرهابية، وحلَّلها ووقف على دوافع منفذيها.

ولكن يبدو جليًّا أن هجوم "كرايستشرش" يختلف تمامًا عن غيره. فإذا نظرنا إلى أسباب الواقعة وملابساتها، وجدنا أن "تارانت" استخدم أساليب حديثة غير معهودة: فقد بثَّ جريمته مباشرة ونشر بيانه «الاستبدال العظيم» عبر الإنترنت. والمستغرب أن الإرهابي مرتكب الجريمة قدَّم نفسه في هذا البيان بأنه «رجلٌ أبيض»، فلماذا يشير إلى لونه؟ وما هي الدوافع التي تقف وراء ذلك؟ وكيف يتعامل الغرب مع المروجين لتفضيل عِرْق أو لون على آخر؟ وما هو دور وسائل الإعلام في إذكاء العرق الأبيض White Supremacy؟ وما علاقة كل ما سبق بتفوق العِرْق الأبيض؟ أسئلة تراود الكثير، وهو ما نحاول أن نجيب عنه في هذا التقرير.

استخدم "تارانت" وصف «الأبيض» في بيانه زهاء 42 موضعًا، مؤكدًا أنه يريد الحفاظ على الجنس الأبيض من تدنيس المسلمين، «الغزاة» على حدِّ زعمه، وأن الهجرة إلى البلدان الأوروبية والغرب بشكل عام، لا سيما هجرة المسلمين، تُمثِّل «إبادة جماعية للعرق الأبيض»، ما يؤدي إلى تدمير هذه البلدان وتفريق شملها!!

وبعد مطالعة نظرية «الاستبدال العظيم»، يتضح أن تفوق العِرْق الأبيض بات منتشرًا في الغرب، خاصة بعد أن ذكر "تارانت" الشخصيات اليمينية التي تأثر بها. ولم يقتصر هجوم المتعصبين للعِرْق الأبيض على المسلمين فقط، فقد تعدَّاه إلى غيرهم، حيث أطلق المتطرف الأبيض "روبرت باورز" النار بشكل عشوائي في أكتوبر 2018 في «معبد تري أوف لايف» اليهودي في مدينة "بيتسبرغ" بولاية "بنسلفانيا" الأمريكية، بينما كانت تقام فيه الصلوات، ما أسفر عن مقتل 11 شخصًا وإصابة آخرين. وكانت رابطة مكافحة التشهير قد وصفت الحادث آنذاك بأنه أبشع هجوم يتعرض له المجتمع اليهودي في الولايات المتحدة. وبعد مرور قرابة عام، أعدَّت الرابطة تقريرًا زعمت فيه أن المتعصبين للعرق الأبيض خططوا لاستهداف 50 مؤسسة يهودية منذ حادث معبد بيتسبرغ.

ولكن قبل الحديث عن انتشار هذه الظاهرة، دعونا نشير أولًا إلى تعريفها: إذ يُعرِّف قاموس «Merriam Webster» تفوق العِرْق الأبيض بأنه الاعتقاد بأن العِرق الأبيض يتفوق في طبيعته على الأعراق الأخرى، وأن ذوي البشرة البيضاء ينبغي أن يسيطروا على غيرهم من الأعراق الأخرى.

أيديولوجية تفوق العرق الأبيض

تقوم أيديولوجية "تفوق العرق الأبيض" في الأساس على الاعتقاد بأفضلية أصحاب البشرة البيضاء من الناحية الأخلاقية والفكرية على الأعراق الأخرى. ويستند هذا الاعتقاد إلى سلسلة من الادعاءات الدينية والاجتماعية والثقافية والعلمية الزائفة، التي تؤكد أن الأنماط الظاهرية، بما فيها اختلاف لون البشرة وملامح الوجه، من بين الأشياء التي تُعدُّ بمثابة اختلاف في طرق التفكير والفضائل الأخلاقية والتطور الاجتماعي.

وفي السياق الأمريكي، على الرغم من أن الأفارقة واليهود الأمريكيين هم الأهداف التقليديين للمتعصبين للعرق الأبيض، إلا أنه قد توسعت دائرة هؤلاء المتعصبين لتشمل مجموعات عرقية ودينية أخرى، كالمسلمين والشرق أوسطيين بوجه عام، والآسيويين والسيخ. ويدافع المتعصبون للعرق الأبيض عن ما يعتبرونه تسلسلًا طبقيًّا عنصريًّا طبيعيًّا يضع «الآري» فوق الأعراق الأخرى، كما يدعمون الممارسات والسياسات التي تؤكد على مكانة الآريين المتميزة وسيطرتهم على الأعراق الأقل مكانة على جميع الأصعدة.

الأوضاع الاجتماعية للأقليات العرقية

يعتقد المتعصبون للعِرْق الأبيض أنهم متحضِّرون، وأن غيرهم من الأعراق بربريون لا يليق بهم إلا البقاء تحت سيطرة أصحاب البشرة البيضاء. ومن هذا المُنطلَق، تشير الأبحاث والدراسات الحديثة إلى أن الأفارقة في الولايات المتحدة وبريطانيا، يمتهنون المهن التي تستدعي بذل جهد أكبر، ولا يتولون مناصب قيادية إلا في أضيق الحدود، ويعيشون في مناطق أكثر عرضة للأزمات.

ولعلَّ أزمة فيروس كورونا خير مثال على ذلك؛ إذ كشفت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) نقلًا عن وحدة الفوارق العرقية (Race Disparity Unit) التابعة للحكومة البريطانية أن الأقليات العرقية أكثر عرضة للإصابة بفيروس كورونا والموت بسببه، وأنهم أيضًا أكثر أرجحية للتأثر بإجراءات الحظر بسبب سوء أوضاعهم الصحية؛ ذلك أنَّهم غالبًا ما يعملون في مهن شاقَّة تستلزم الاختلاط بالناس، مثل قطاع الصحة ووسائل النقل، ويعيشون في أماكن مكتظَّة، ويواجهون صعوبات تتعلق بالتهميش القائم على العرق، إضافة إلى ندرة موارد الرعاية الصحية، على عكس أصحاب البشرة البيضاء. ويتضح مما سبق أن العنصرية والتمييز الهيكلي ربما يساهمان في زيادة مخاطر الجائحة في أوساط مجتمعات الأقليات العرقية.

وسائل الإعلام والترويج لسيادة العرق الأبيض

أصبحت وسائل الإعلام أداة يستخدمها المتعصبون البيض، والمتطرفون اليمينيون في نشر أفكارهم الهدَّامة والترويج لها، والتحريض ضد الأقليات العرقية في الغرب بوجه عام، والولايات المتحدة بشكل خاص، وذلك لما تحمله من مميزات غير موجودة على أرض الواقع، منها سرعة الاستجابة للدعوات وسهولة التجنيد، وإخفاء الهوية الحقيقية للمستخدمين والوصول إلى أكبر قدر من الجمهور. وبناءً عليه تستغل مجموعات المتعصبين للعِرْق الأبيض وسائل الإعلام، لا سيّما مواقع التواصل الاجتماعي، مثل فيسبوك وتويتر ويوتيوب وتليجرام، في تعبئة الساخطين من الأوضاع السياسية والاجتماعية في الغرب ضد الأقليات العرقية، بُحجَّة أنهم يأخذون وظائفهم ويتزوجون نساءهم، وهذه هي الفئة القابلة لسهولة التجنيد.

وخلال الآونة الأخيرة، اعتمد المتعصبون للعِرْق الأبيض على استخدام المواقع المُشفَّرة فيما بينهم، لسهولة التواصل والبُعْد عن الرقابة الأمنية، من بينها موقع 4chan و8chan.

على سبيل المثال، نشر معهد الحوار الإستراتيجي، الذي يتخذ من لندن مقرًّا له، تقريرًا بعنوان "مكان آمن للكراهية: تعبئة المتعصبين للعرق الأبيض على التليجرام". وخلُص الباحثون إلى أن المتعصبين للعرق الأبيض يستخدمون 208 قناة على تطبيق التليجرام؛ لنشر أفكارهم التي تتراوح بين مناقشات عرقية غير عدوانية، لدعم العنف السياسي وتمجيد الإرهاب والمجموعات الإرهابية، ودعوات مباشرة لشنِّ هجمات عدوانية ضد الأقليات والمعارضين السياسيين.

وفي مطلع شهر ديسمبر 2020 الجاري، أفاد تقرير اللجنة المعنية بالنظر في هجوم "كرايستشرش" الإرهابي، أن الأجهزة الأمنية والاستخباراتية في نيوزيلاندا تجاهلت على نحوٍ خاطئ احتمالية شنِّ الجماعات اليمينية هجومًا إرهابيًّا. وأكَّدت اللجنة أن منفذ الهجوم كان عضوًا ناشطًا في الجماعات المتطرفة الأسترالية قبل أن ينتقل إلى نيوزيلاندا، وأن منصة "يوتيوب" ساهمت في تكوين أفكاره المتطرفة، بعد مشاركته في قنوات يمينية ومشاهدته محتويات يمينية.

ونخلُص مما سبق إلى أن المجموعات المتعصبة للعرق الأبيض أخذت تبثُّ سمومها في الغرب، استنادًا إلى اعتقادها بأفضليتها على غيرها، مستخدمة في ذلك أساليب حديثة على غرار استغلالها للشبكة العنكبوتية. ونُلاحظ أن ثمة تشابهًا بين الأيديولوجيات والإستراتيجيات التي تتبناها هذه المجموعات والتنظيمات الإرهابية بشكل عام، مثل تنظيمي داعش والقاعدة؛ إذ يعتقد كل فصيل أنه أفضل من غيره، معتمدًا في ذلك على بث الفرقة ونشر الكراهية، والتحريض على العنف وإثارة القلاقل، والتعصب الأعمى، واعتبار جميع من يخالف عقيدته وأفكاره أعداءً، حتى وإن كانوا ينتمون إلى نفس دينهم، واستخدام أساليب حديثة في عمليات التجنيد، منها غسيل المخ بأفكار ملوثة، والاتجار بالمهمشين، واللعب على أوتار التفسيرات الخاطئة للنصوص الدينية. وفي ضوء ذلك، يبدو جليًّا أنه على الرغم من أن العلاقة بين المجموعات المتعصبة للعرق الأبيض والتنظيمات الإرهابية تتعارض في ظاهرها، إلا أن هذه العلاقة تتلاقى في عدد من المحاور والنقاط كما ذُكر آنفًا.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن إستراتيجيات التنظيمات الإرهابية على الجملة تتنافى وتعاليم الإسلام السمحة، التي أكدت على أن المساواة بين البشر ركيزة أساسية، ومبدأ أصيل، وأن الاختلاف بين الناس سواء في المعتقَد أو الفكر، من سنن الله في كونه، ذلك أن هذا الاختلاف يؤدي إلى نهوض الأمم وتطورها: يقول الله تعالى {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود، 118]. كما أكَّد الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم- على أن المساواة من أعظم المبادئ التي دعا إليها الإسلام، رافضًا جميع أشكال العنصرية والتمييز القائمة على أساس اللون أو الجنس أو العرق، ومُقرًا في الوقت ذاته أنه "لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأبيضَ على أسودَ، ولا لأسودَ على أبيضَ إلَّا بالتَّقوَى"، وما حادثة الصحابيين الجليلين، أبي ذر وبلال بن رباح، عنَّا ببعيد؛ إذ أكدت هذه الواقعة ومثيلاتها رفض النبي – صلى الله عليه وسلم- القاطع للعنصرية البغيضة التي استشرت في الجزيرة العربية قبل البعثة.

وللآثار الكارثية التي تنجم عن التمييز والكراهية، لا يتوانى مرصد الأزهر الشريف في كل مناسبة أن يعلن رفضه القاطع لكل أشكال العنصرية والتعصب التي لا تجني منهما المجتمعات سوى التفكك والانهيار. كما أن المتابع الجيد لأنشطة مرصد الأزهر يجد أنه أعدَّ كثيرًا من التقارير والمقالات، وألَّف عددًا من الكتب التي سلَّطت الضوء على خطورة جميع الحركات والتنظيمات المتطرفة التي تحرض على العنف، وتبثَّ الكراهية ضد المختلفين في الفكر أو المعتقد.

وحدة الرصد باللغة الإنجليزية

طباعة