جناية المتطرفين على التراث (2).. التأويل وانتقاء النصوص لإضفاء الشرعية الدينية على أفعالهم الإجرامية

  • | الثلاثاء, 19 يناير, 2021
جناية المتطرفين على التراث (2).. التأويل وانتقاء النصوص لإضفاء الشرعية الدينية على أفعالهم الإجرامية

     تناولنا في المقال الماضي - من هذه السلسلة - العنصرَ الأول من جناية المتطرفين على التراث، ونحن في هذه السلسلة رصدنا - من خلال العديد من إصدارات الجماعات المتطرفة- مظهرًا من مظاهر تعامل المتطرفين مع التراث، والتي كان منها:

  1. عدم المنهجية العلميّة في التعامل مع التراث.
  2. حرص تنظيم داعش الإرهابي ـ مثالًا- على تأويل نصوص التراث من بعض الكتب المعتبرة؛ لإضفاء الشّرعيّة الدينيّة على أفعالهم الإجراميّة.
  3. الفهم الخاطئ لنصوص التراث، وتطويعها لخدمة أهدافهم الخبيثة.
  4. اقتطاع النصوص من سياقها واستغلالها في رسم صورة ذهنية مجتزأة.
  5. استغلال الاختلاف الفقهيّ لصالح التنظيم، مع اختيار الترجيحات التي تتوافق مع أيدولوجيّته المتطرفة.
  6. التناقض والانتقاء.

واستكمالًا لما بدأناه من الكلام حول انعدام المنهجية العلمية في التعامل مع التراث، نقول: إنه من دلالات انعدام المنهجية في التعامل مع التراث لدى المتطرفين الآتي:

السرقات العلمية

على الرغم من الادعاءات المتكررة من قِبل تنظيم داعش الإرهابي أنه صورة الشريعة، وأن الإسلام الحق محصور فقط في منهجهم، ومن عداهم -كما يزعمون- مرتدون كفار، إلا أنهم في إصداراتهم تكثر السرقات العلمية؛ لا سيما إذا كان الكاتب أحد علماء الإسلام المعتبرين، ممن كفَّره أسلافهم، وغضب عليه شيوخُهم فرموه بالكفر والزندقة.

ومن الأمثلة على ذلك، أنهم ينظرون إلى الإمام جلال الدين السيوطي (توفي 911 هـ) -رحمه الله- أنه أشعري العقيدة وصوفي المشرب، وبناءً على ذلك، فهو كافر مجزوم بكفره عندهم!

ثم في إحدى مجلات التنظيم الإرهابي، وجدنا كلامًا للإمام السيوطي، لم ينسبه كاتب المقال إلى السيوطي، بل ساق الكلام على اعتبار أنه من بنات أفكاره، فقال في تعريف القناعة: "هي الاستغناء بالموجود، وترك التشوف إلى المفقود، والرضا بما قسمه الله".

وعند الرجوع إلى كتاب الإمام السيوطي المسمى "معجم مقاليد العلوم في الحدود والرسوم" وجدنا هذا التعريف بنصِّه، حيث قال في صـ 217: "القناعة: ترك التشوف إِلَى الْمَفْقُود، والاستغناء بالموجود" وفي صـ 205 يقول الإمام السيوطي: "القَنَاعَةُ: الرِّضَا بِمَا دون الْكِفَايَة".

وهنا نلاحظ أن المتطرفين قاموا بضمِّ التعريفين، وسبك تعريف نسبوه لأنفسهم، حتى يتحاشوا ذكر الإمام السيوطي، وهو العالم المصري الجليل، وقد وصفه تلميذه عبد القادر بن محمد الشاذلي، بأنه "مميت البدعة، ومحيي السنّة"، وهو نفس الوصف الذي يردده كثير من العناصر المتطرفة، ولكن شتَّان بين من يقمع بدعة المتطرفين، ويظهر كذبهم ويُبيِّن عوار أفكارهم، وبين الأدعياء، سُرَّاق العلم الكذبة المدلسين.

ثانيًا: من الأساليب التي تستخدمها الجماعات المتطرفة في التعامل مع التراث

"تأويل نصوص التراث من بعض الكتب المعتبرة؛ لإضفاء الشّرعيّة الدينيّة على أفعالهم الإجراميّة"

سبق وأن أشرنا إلى أن تنظيم داعش الإرهابي ليس له منهجية علمية منضبطة ومُحْكَمة يمكن أن نتحاكم إليها، وإذا نظرنا إلى طريقتهم التي يفكرون بها ويتعاملون بها، نجد أن أغلب علماء الإسلام عندهم إما كفار أو مرتدون أو مبتدعة، ومع ذلك فإنهم لا يكفون عن استخدام أسماء هؤلاء الأئمة الأعلام -الذين يرونهم كفارًا ومبتدعه - ويزجون بأسمائهم في إصداراتهم المتطرفة؛ لإضفاء الشرعية الدينية على تنظيرهم للتطرف واستدلالهم على إجرامهم وفظائعهم، ولاستقطاب المزيد من العناصر إليهم، فإذا قرأ الشاب محدودُ الثقافة في تنظيرهم - أن الإمام القرطبي يقول كذا، وجاء في تفسير البغوي كذا فإن هذا عامل جذب قوي، كما أنه في الوقت ذاته إضفاء للشرعية العلمية والدينية على ما يهدفون إليه من تنظير، والأمثلة على ذلك كثيرة جدًّا في إصداراتهم، ومن ذلك:

ماجاء في أحد إصداراتهم منسوبًا إلى الإمام ابن رجب الحنبلي حيث يقول: "وَأَمَّا السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ لِوُلَاةِ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، فَفِيهَا سَعَادَةُ الدُّنْيَا، وَبِهَا تَنْتَظِمُ مَصَالِحُ الْعِبَادِ فِي مَعَايِشِهِمْ، وَبِهَا يَسْتَعِينُونَ عَلَى إِظْهَارِ دِينِهِمْ وَطَاعَةِ رَبِّهِمْ..."

ولا يخفى على أحد أن المقصود بولاة الأمور هنا - في نظر التنظيم الإرهابي- هم قاداتهم، فمع أن ابن رجب المتوفى سنة 795هـ، لم يقصد إطلاقًا أن يسبغ الشرعية الدينية على هذه التصرفات البشعة، بل الكلام على من اختاره الناس حاكمًا لهم، لا من أرهبهم وشردهم، وهدّم بلادهم، وخرَّب أوطانهم، ثم يدعي أنه ولي أمر تجب طاعته؟!

وليس تنظيم داعش الإرهابي وحده من استغل التراث هذا الاستغلال المُشين، بل إن التنظيمات المتطرفة كلها، حملت كل الآيات والأحاديث وأقوال العلماء المعتبرين التي جاءت تحث على طاعة ولي الأمر لتستخدمها في طاعة الناس لقائد عصابتهم، وأمير جماعتهم، وهيهات أن يأمر الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم، أو ورثة رسوله من العلماء الربانيين، بطاعة قائد عصابة وأمير جماعة، سام الناس قتلًا وخرابًا وإرهابًا، بل للعلماء الذين استدلوا بقولهم كلامٌ يبين فساد منهج المتطرفين، ويظهر تدليسهم وكذبهم، وهم مع ذلك لم ينقلوه، ومن ذلك ما قاله ابن رجب أيضًا: "وأما الخروج على الحكام بالسيف، فيُخشى منه الفتن التي تؤدي إلى سفك دماء المسلمين" وهذا الكلام موجود في الكتاب نفسه الذي أخذوا منه النص الذي استدلوا به على طاعة أمرائهم، ولكنهم لم يذكروه؛ لأن فيه كشفًا لعوراتهم، وبيانًا لسوء صنيعهم.

وكذلك تعاملهم مع الكثير من كلام علماء الأمة كابن رجب، والنووي، وابن حجر وغيرهم؛ إذ ينقلون من كلام هؤلاء الكبار ما يخدم أفكارهم المنحرفة، ولكنهم يغضُّون الطرف عن أجزاء أخرى لكلام هؤلاء الأعلام، تبين كذبهم وتدليسهم وجنايتهم على التراث، وهذا أسلوب آخر يعتمد على (قطع الكلام عن سياقه وانتقاء النصوص).

ثالثًا: قطع الكلام عن سياقه وانتقاء النصوص

الحقيقة أن هذا الأسلوب لا يستخدموه فقط مع كتب التراث، وإنما حتى في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة؛ والأمثلة على ذلك كثيرة:

 فمن القرآن الكريم استدلالهم بقوله تعالى في قتل غير المسلمين: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة: جزء من الآية: 5]، من دون أن يكملوا الآية بعدها التي تقول: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ} [ التوبة: 6].

إذن، ليست الآية عامّةً في قتل كل الناس غير المسلمين، بل هناك ضوابط، فالمخصوصون بالقتال فئة محدودة، هم من أخرجوا المسلمين من أوطانهم وقاتلوهم، ولم يكن مجرد الاختلاف في العقيدة دافعًا للقتال؛ إذ القتال في الإسلام قتالٌ دفاعي لردِّ الاعتداء، فيقول تعالى في أول آيات تأذن للمسلمين في القتال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا  وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 39-40].

ويقول تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190].

إذن هؤلاء اقتطعوا الآية التي تخدم توجههم العنيف من سياقها، ثم أوَّلوها على أهوائهم بما يخالف القرآن الكريم ذاته، وقد غضُّوا الطرف تمامًا عن الآيات الأخرى التي تبين فساد صنيعهم وانحراف منهجهم!

ومن الأمثلة في السنة على انتقائهم للنصوص، الحديث الذي تُبنى على فهمه الخاطئ أصولهم الفكرية؛ نظرًا لضلال أفهامهم وفساد استدلالهم، فيتناقلون حديث النبي صلى الله عليهم وسلم الذي يقول فيه «...وَأَنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ اللَّهُ أَمَرَنِي بِهِنَّ: السَّمْعُ، وَالطَّاعَةُ وَالْجِهَادُ، وَالْهِجْرَةُ، وَالْجَمَاعَةُ...» [أخرجه الترمذي في سننه]، ويعتبر هذا الحديث من الأصول عند التنظيم، مع أن نهاية الحديث تدعو دعوة صريحة لتجنب الجماعات، حيث يقول - صلى الله عليه وسلم-: «فادعوا بدعوى الله الذي سمَّاكم المسلمين المؤمنين عباد الله» إلا إنهم لا يذكرون ذلك.

ومع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديثه لم يقصد قطعًا أن يدعو الناس إلى السمع والطاعة لقادة مثل قادة تنظيم داعش الإرهابي، ولا الهجرة إلى أماكن وجودهم، ولا القتال تحت رايتهم العميَّة، إلا أنهم يروجون أن نصوص السنة تدعو إلى منهجهم، وأعجب من هذا أن ترى أحاديث لكبار الصحابة فيها أمرٌ من النبي – صلى الله عليه وسلم- لأصحابه بأمور تجعل الواحد يفرُّ من هذا التنظيم فراره من الأسد، ويظهر -بما لا ريب فيه- قبحهم وافتراؤهم على السنة، وعلى النبي - صلى الله عليه وسلم- مثل ما أوصى به النبي أبا هريرة حين قال له: «اتّق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمنًا، وأحبَّ للناس ما تُحبّ لنفسك تكن مسلمًا، ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب» فهذه خمسة أخذ النبي – صلى الله عليه وسلم- بيد أبي هريرة وعدَّها، ومع ذلك اعتدى المتطرفون على محارم الناس، ولم يحسنوا جوارهم، ولا أحبوا للناس ما أحبوه لأنفسهم.

وهكذا أيضًا في التعامل مع التراث، فالذي دفعهم إلى الكذب على الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-  هو عين ما دفعهم إلى الكذب والتدليس على العلماء الربانيين والافتراء على كلماتهم وكتبهم، ومن ذلك:

ما نسبوه إلى الإمام ابن قدامة المقديسي (المتوفى 620هـ) حيث يقول: "ومن السنة: السمع والطاعة لأئمة المسلمين وأمراء المؤمنين -بَرِّهم وفاجرهم- ما لم يأمروا بمعصية الله؛ فإنه لا طاعة لأحد في معصية الله، ومن ولي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به" [لمعة الاعتقاد، 40].

ولا نحتاج هنا إلى التأكيد مرة أخرى على أن ابن قدامة لم يقصد بهذا قادة تنظيم داعش الإرهابي، لكن لو فتحنا كتاب ابن قدامة وقبل هذا النص بقليل نجد ما يخالف منهجهم ويبين كذبهم وضلالهم حيث يقول: "ولا نكفر أحدًا من أهل القبلة بذنب، ولا نخرجه عن الإسلام بعمل..." [لمعة الاعتقاد، 38].

ولا يخفى على أحد أن أتباع تنظيم داعش الإرهابي كفَّروا كل الناس، ولم يبق أحد سلم من تكفيرهم، حتى كفَّر بعضُهم بعضًا، ومباشرة بعد الفقرة التي نقلوها نجد النص التالي: "ومن السنة: هجران أهل البدع ومباينتهم، وترك الجدال والخصومات في الدين، وترك النظر في كتب المبتدعة، والإصغاء إلى كلامهم" [لمعة الاعتقاد 40، 41]، ولا شك أن تنظيم داعش الإرهابي وغيره من التنظيمات عندهم من البدع الكثير، يكفي فقط ما ابتدعوه في مسائل الجهاد مثل أن قتل رجال الجيش والشرطة جائز، فهذه بدع وضلالات توجب هجرانهم، ومجابهة فكرهم.

لكن طبعًا هذه النصوص لم يتناقلها التنظيم ولم يتعرض لها؛ لأنها تُظهرهم كذبة ومدلسين، وأنهم مبتدعة خوارج ظلموا أنفسهم، وافتروا على هذا الدِّين، وكذبوا على الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-  فضلًا عن العلماء والتراث.

يظهر من هذا أن تنظيم داعش الإرهابي، ومن يدور في فلكه، من التنظيمات المتطرفة عمدوا إلى هذا الدين الحنيف، فاقتطعوا النصوص من سياقاتها، وأخذوا منها ما يتوافق مع أهوائهم ورغباتهم، فنشروه وبثُّوه للناس، مما ترتب عليه خلق حالة عدائية نحو التراث، والنظر إليه باعتباره يُريق الدماء ويرضى بظلم الناس، وأن فقهاء الإسلام كفَّروا الناس وصادروا حرياتهم، في حين طمسوا وأخفوا من النصوص ما يبين قبح فعلهم، وسوء صنعهم وفساد منهجهم، وانحراف فكرهم وكذب قولهم، ونحن في مرصد الأزهر عازمون -إن شاء الله- على إظهار تلك النصوص التي تبين خطأ وفساد ما يروجونه وينشرونه بين الناس، والله من وراء القصد!

 

وحدة رصد اللغة العربية

طباعة