حرية العقيدة في فكر الأزهر ودورها في مكافحة التطرف

  • | الأربعاء, 27 يناير, 2021
حرية العقيدة في فكر الأزهر ودورها في مكافحة التطرف

     باتت قضية حرية العقيدة وما يرتبط بها من حقِّ المواطنة للجميع، دون أدنى تمييز -قضيةً مركزية في الفكر الإنساني الحديث، وفي القلب منه الفكر الإسلامي، وذلك منذ قيام الدولة الوطنية الحديثة، والنصّ على مبدأ حرية الاعتقاد في الدساتير الوطنية، والمواثيق والمعاهدات الدولية. 
غير أن الواقع يؤكد أن مبدأ حرية العقيدة مبدأ إسلامي أصيل ثبت بنص القرآن الكريم في قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}؛ حيث جعل الإسلام قضية الإيمان أو عدمه من الأمور المرتبطة بمشيئة الإنسان نفسه واقتناعه الداخلي- كما يقول الدكتور محمود حمدي زقزوق (ت.2019م)- طبقًا لما ورد في القرآن الكريم: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}.
وبيَّن القرآن أن مهمة النبي – صلى الله عليه وسلم- تتمثل في التبليغ فقط، وأنه لا سلطان له على تحويل الناس إلى الإسلام فقال تعالى مخاطبًا نبيه - صلى الله عليه وسلم: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}، وقال: { فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} وقال: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ}، فإكراه الناس على الإيمان بدين من الأديان، من شأنه أن يولد منافقين لا مؤمنين، والإسلام يحارب النفاق والمنافقين أشدَّ حرب، وينطلق من أن خطرهم أَشد من خطر سواهم.
والقارئ المنصف للسيرة النبوية وسيرة الخلفاء الراشدين، يجدها مليئة بالتطبيقات العملية لمبدأ حرية الاعتقاد، وما أنتجه تطبيق ذلك المبدأ من تعددية دينية في بلاد المسلمين، حيث طبَّقه النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- في وثيقة المدينة التي نصَّت على أن للمسلمين دينهم ولليهود دينهم، وأكَّدت على أن يهود المدينة يُشكِّلون مع المسلمين أمة واحدة. وكذلك فى صلحه مع نصارى نجران، حين كفل لهم حرية اعتقادهم وممارسة شعائرهم الدينية، وفي فتح مكة حين لم يُجبر الرسول صلى الله عليه وسلم قريشًا على اعتناق الإسلام، رغم تمكنه وانتصاره، ولكنَّه قال لهم: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ».
وعلى منهاجه أعطى الخليفةُ عمرُ بن الخطاب النصارى من سكان القدس الأمانَ "على حياتهم وكنائسهم وصلبانهم، لا يُضَارُّ أحدٌ منهم ولا يرغم بسبب دينه"، وغير ذلك الكثير من المعاهدات والتطبيقات في التاريخ الإسلامي. 
ومع نشأة الدولة الوطنية الحديثة القائمة على مبادئ حرية الاعتقاد والمواطنة، والنصّ على مبدأ حرية العقيدة في المواثيق والمعاهدات الدولية، أكَّد علماء الأزهر ذلك المبدأ، تطبيقًا لما أرساه الدين الإسلامي، وأزالوا ما علق به من ممارسات تاريخية انقضت بانقضاء أسبابها وسياقاتها، ووضَّحوا الثابت فيه والمتغير. فالإمام محمد عبده (ت.1905م) أحد أكابر علماء الأزهر ورائد التجديد في الفكر الإسلامي في العصر الحديث حين صاغ مسودةَ برنامج الحزب الوطني، نصَّ فيها على أن "الحزب الوطني حزب سياسي، لا ديني، فإنه مؤلف من رجال مختلفي العقيدة والمذهب، وجميع النصارى واليهود، وكل من يحرث أرض مصر، ويتكلم لغتها منضم إليه؛ لأنه لا ينظر لاختلاف المعتقدات.. وأن حقوقهم في السياسة والشرائع متساوية، وهذا مسلَّم به عند أخص مشايخ الأزهر".
ثم جاء العالم عبد المتعال الصعيدي (ت. 1966م) وأعدَّ دراسةً عن الحرية الدينية في الإسلام وناقش فيها الأدلة القرآنية والأحاديث النبوية، وخلُص إلى أن الحرية الدينية هي أن يكون للإنسان الحق في اختيار ما يؤديه إليه اجتهاده في الدين، فلا يكون لغيره حق في إكراهه على ما يعتقده بوسيلة من وسائل الإكراه، وإنما يكون له حق دعوته إليه بالإقناع بدليل العقل، أو بالترغيب في ثواب الآخرة والتخويف من عقابها.  وأكَّد على أن الحرية الدينية في الإسلام "مطلقة لا تقييد فيها، وخالصة لا شائبة تكدرها، وليكون له بها فضل السبق على مُشرِّعي عصرنا فيما شرعوه من حرية الاعتقاد في دساتيرهم الحديثة، وهو فضل للإسلام عظيم الشأن في هذا الزمان".
وقد ذكر الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت (ت.1963م) في كتابه: "الإسلام عقيدة وشريعة" أن الإسلام حين يطلب من الناس أن يؤمنوا بعقائده لا يحملهم عليها إكراهًا؛ لأن طبيعة الإيمان تأبى الإكراه، ولا يتحقق إيمانٌ بإكراهٍ، وقد جاء في القرآن: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} وجاء في خطابه لنبيه محمد – صلى الله عليه وسلم-: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}، وإنما المبيح للقتال هو محاربة المسلمين، والعدوان عليهم، وأن ظواهر القرآن الكريم في كثير من الآيات تأبى الإكراه في الدين؛ فقال تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}، وقال سبحانه: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}".
وقد أكَّد ذلك المعنى الأصولي الأزهري طه جابر العلواني( ت. 2016م)  الذى أفرد لتلك المسألة كتابًا مستقلًّا، ناقش فيه مذاهب الفقهاء المسلمين وأدلتهم، والوقائع التاريخية في شأن حرية العقيدة، ليخلص في هذه الدراسة إلى أن حرية العقيدة مقصد من مقاصد الشريعة، وقيمة عليا وردت في حوالى 200 موضع من القرآن الكريم. ويؤكد العلواني في نهاية بحثه أن الإنسان المكرّم المستخلف المؤتمن أكبر عند الله، وأعز من أن يكلفه ثم يسلب منه حرية الاختيار؛ بل إن جوهر الأمانة التي حملها، والتي استحق بها القيام بمهمة الاستخلاف في الأرض، إنما يقوم على حرية الاختيار التامة الكاملة حيث {لا إكراه في الدين}.
وقد واصل الأزهر الشريف التركيز على قضية حرية العقيدة، اعتقادًا منه أن إقرار حرية الاعتقاد من مبادئ الإسلام الراسخة، وتكلَّلت اجتهادات الأزهر في تلك القضية في عهد فضيلة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب، بإطلاق وثيقة الأزهر للحريات عام 2012، إحدى وثائق الأزهر المهمة والتي تنصَّ على أن:" حريّة العقيدة وما يرتبط بها من حقِّ المواطنة الكاملة للجميع، القائم على المساوة التامة في الحقوق والواجبات، حجر الزّاوية في البناء المجتمعي الحديث، وهي مكفولةٌ بصريح الأصول الدستورية والنصوص الدِّينية القطعيّة؛ إذ يقول المولى عز وجل: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256] ويقول :{ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]،  ويترتّب على ذلك تجريم أيِّ مظهر للإكراه في الدِّين، أو الاضطهاد أو التمييز بسَبَبِه، فلكلِّ فردٍ في المجتمع أن يعتنق من المبادئ ما يشاء، دون أن ينقص ذلك من أهليته باعتباره مواطنًا حرًّا مسؤولًا عن تصرفاته، ودون أن يمسَّ حق عقيدته في الحفاظ على عقائده."
 وأعاد الأزهر وإمامُه الأكبر، التركيز على تلك المعاني في مؤتمر "الحرية والمواطنة.. التنوع والتكامل" وما صدر عنه من إعلان الأزهر للمواطنة والعيش المشترك عام 2017، ثم في إعلان الأزهر الختامي لمؤتمر الأزهر العالمي للتجديد في الفكر الإسلامي مطلع عام 2020.
ولا شكَّ في أن ترسيخ مبدأ حرية الاعتقاد والتعددية الدينية، من شأنه أن يكون له دور فاعل وبارز في مكافحة التطرف؛ فقضايا التعايش السلمي وقبول الآخر، دائمًا ما تكون في مرمى نيران المتطرفين وهجومهم نظريًّا وتطبيقًا، حيث يساهم ذلك الترسيخ في محاولة تشكيل صورة موضوعية- قدر الممكن- عن "الآخر" المختلف المتنوع، في مواجهة ثنائية تميز"الأنا" وقبوله، ودونية الآخر ورفضه، التي تنشرها وترتكز عليها جماعات التطرف. 

 وحدة رصد اللغة الألمانية
 

طباعة