مشروع "خريطة الإسلام" في النمسا.. الدوافع والتخوفات

  • | الأربعاء, 23 يونيو, 2021
مشروع "خريطة الإسلام" في النمسا.. الدوافع والتخوفات


     يبلغ عدد المسلمين في النمسا حوالي (800) ألف، أي حوالي 8% من مجموع سكان النمسا، وهذا العدد يعد من أعلى المعدلات في دول الاتحاد الأوروبي، وقد تفرَّدت النمسا عن باقي دول الاتحاد الأوروبي بالاعتراف بالدين الإسلامي عام 1912 كدين رسمي في البلاد، الأمر الذي أسهم في تأسيس الجالية الإسلامية للعديد من الكيانات الرسمية. كما أسهم الاعتراف بـ "يوم المسجد المفتوح" لأول مرة في شهر أكتوبر من عام 2013 في بناء علاقات بين المسلمين وغير المسلمين في النمسا.

وجاءت دعوة الرئيس النمساوي "ألكسندر فون دير بيلين" في شهر إبريل من عام 2017 لجميع النساء في النمسا بارتداء الحجاب لتكون بمثابة تضامن مع المسلمات من أجل محاربة "الإسلاموفوبيا المتفشية". وفي شهر يناير من عام 2020 دافع "بيلين" مرة أخرى عن حق ارتداء الحجاب للمسلمات في المجتمع النمساوي، وذلك بعد قرار المجلس الوطني النمساوي بحظر ارتداء الحجاب لأطفال المدارس الابتدائية في منتصف مايو من عام 2019؛ بسبب ضغوط من الأحزاب اليمينية في البلاد.

كل هذه الأجواء تشير إلى قدر ليس بالقليل من الإيجابية من طرف أغلب المسؤولين النمساويين في التعامل مع المواطنين المسلمين في النمسا؛ ما جعل البلاد في منأى نسبيًا عن موجة الهجمات الإرهابية في أوروبا خلال السنوات الأخيرة، حسب ما أفاده السيد "طرفة بغجاتي" رئيس مبادرة مسلمي النمسا وعضو المجلس الاستشاري للشبكة الأوروبية لمناهضة العنصرية.  كما يرى "طرفة" أن "فيينا" عاصمة دولة حيادية، وأنها في مأمن عن مثل هذه الهجمات، مقارنة بباريس ولندن وبروكسل على سبيل المثال.

الإعلان عن تدشين المشروع
لكن ما أثار حفيظة الكثير من المسلمين في البلاد ما أعلنته وزيرة الإندماج النمساوية السيدة "سوزانا راب" عن تدشين ما يُطلق عليه "خريطة الإسلام في النمسا" يوم 27/5/2021؛ حيث يقدم المشروع معلومات وبيانات عن الجمعيات والمساجد والمؤسسات التعليمية الإسلامية في النمسا والتي يبلغ عددها (623) مؤسسة تمَّ إدراجها على الموقع مع بيانات عن تصنيفها العرقي وتوجهها الأيديولوجي وعلاقاتها الخارجية والداخلية.

وبعد تدشين المشروع أعلنت جهات إسلامية في البلاد عن وقوع العديد من الاعتداءات منذ نشر الخريطة، وذكرت أن شخصًا مجهولًا كتب على نافذة أحد المساجد بمدينة جراتس عبارة: "لقد عاد القائد" وهو شعار للنازية، في إشارة إلى الزعيم النازي "هتلر".

كما ذكرت تقارير صحفية أنه منذ تدشين المشروع ظهرت لافتات تحذيرية وتحريضية أمام العديد من المساجد في مدن فيينا، وميدلينج، وليوبولدشتات، وتمَّ تعليق هذه اللافتات تحت إشارات المرور مع وجود إشارة مرجعية إلى خريطة الإسلام، وأعلنت حركة "الهوية اليمينية" المتطرفة مسؤوليتها عن تعليق هذه اللافتات العنصرية.  وقد أحدث الإعلان عن تدشين المشروع وما أعقب ذلك من حملات تحريضية جدلًا سياسيًّا واجتماعيًّا كبيرًا في النمسا خلال الأيام الأخيرة؛ حيث قوبل المشروع بالرفض من قبل الجمعيات الإسلامية في النمسا، وشخصيات وأحزاب سياسية ومسئولين محليين، وكنائس نمساوية، في حين تتمسك الحكومة والقائمون على الخريطة بالمضي قُدُمًا نحو اتمام المشروع.

المؤيدون للمشروع (الحكومة والقائمون على المشروع):

يرى د. محمد بسَّام قبَّاني (أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة فيينا) أن مشروع خريطة الإسلام بالنمسا يأتي كأحد إجراءات الحكومة في سياق تشديد الرقابة على التطرف؛ حيث إن كمَّ الاتهامات والضغوط التي تحيط بالحكومة النمساوية، والمتعلقة بإخفاقها في مكافحة التطرف الديني بعد الحادث الإرهابي في نوفمبر 2020 يعد أحد أسباب تدشين هذه الخريطة؛ لذا فهم يُعولون على هذا المشروع من أجل الإسهام في مكافحة هذا الفكر المتشدد والقضاء عليه.

يُذكر أن العاصمة "فيينا" شهدت هجومًا إرهابيًّا وحشيًّا بالأعيرة النارية في شهر نوفمبر عام 2020، راح ضحيته عدد من الأبرياء، وأسفر عن العديد من الجرحى والمصابين، وكان منفذه شخص من أصل ألباني، تبيَّن فيما بعد أنه من المتعاطفين مع تنظيم "داعش" الإرهابي. وقد دفع هذا الحادث حكومة النمسا إلى اتخاذ إجراءات صارمة ضد بعض الجمعيات والهيئات الإسلامية، وضد كثير من المسلمين وخاصة المنتمين للتيارات الدينية السياسية المتشددة.

من جانبها، صرحت وزيرة الاندماج السيدة "سوزانا راب" بأن الخريطة تهدف إلى الإسهام في خلق مزيد من الشفافية ومراقبة التطورات الخطيرة للتطرف الديني في البلاد، ولا تهدف إطلاقًا لوضع المسلمين في موضع الشك.

وبحسب تصريحات الوزيرة فإن الخريطة ستضمن عدم انتشار أيديولوجيا خطيرة تشكِّك في القيم الديموقراطية والليبرالية، مشيرة إلى أن الخريطة معنيَّة بمعالجة المواقف التي تنطوي على تحقير المرأة، أو المواقف العنصرية المعادية للاندماج دون أن تضع المسلمين في النمسا تحت حالة من الاشتباه العام. أما البروفيسور "مهند خورشيد" المشرف العلمي على المركز المكلف بالإشراف على مشروع خريطة الإسلام، يقول: "إن الهدف من الخريطة جعل وضع المسلمين وحياتهم في النمسا واضحة، فقد كانت هناك اتهامات متكررة لمساجد المسلمين بأنها تعمل في الخفاء، وأن هناك من يريد إخفاء أمور معينة. وبهذا المشروع، نحن نقول: لا نريد الاختباء، هذه هي عناوين وتفاصيل جمعياتنا، ويمكن معرفة انتماءات كل جمعية".

الرافضون للمشروع
الجمعيات الإسلامية: رفضت مشروع الخريطة؛ حيث رأت أن هذا المشروع يضع جميع المسلمين في النمسا تحت دائرة الاشتباه بالانتماء إلى جماعات التطرف الديني، وأن هذه الخريطة تشبه ما قامت به حركة "الهوية اليمينية" المتطرفة عام 2020 حين عمدت الى نشر قائمة بأسماء وعناوين أشخاص مسلمين، ادَّعت أنهم خَطِرون، وأن هذه القائمة تهدف إلى مساعدة ضباط الشرطة وعملاء المخابرات، وقد كانت القائمة جزء من مخطط خطير أُطلق عليه حينذاك "الطريق الثالث لحزب النازيين الجدد"، والذي تضمَّن أيضًا إدراج عناوين مساكن اللاجئين في ألمانيا تحت شعار: "لا يوجد منزل لطالبي اللجوء في مدينتي" في عام 2015؛ ونتيجة لهذه الخريطة وهذه الحملات وقع حوالي (1031) هجومًا على مساكن اللاجئين، أي ما يقرب من (٦) أضعاف ما حدث في العام السابق 2019، وفقًا لما أعلنه مكتب الشرطة الجنائية الفيدرالية، ورغم أنه لم يتم الربط رسميًّا بين عملية زيادة الهجمات على اللاجئين بسبب الخريطة وحملات اليمين المتطرف، فإن الواقع يؤكد ذلك.
وعن مشروع خريطة الإسلام، يقول الأستاذ "رامي علي" الباحث الإسلامي والمتخصص في المجال الرقمي والتطرف عند الشباب المسلم في مقال مفصل في موقع جريدة "تسايت" الألمانية (31/5/2021): "إن هذا المشروع يضع المسلمين في دائرة الاشتباه، وإن إتاحة مثل هذه المعلومات على الإنترنت بحيث تكون متاحة لليمينيين المتطرفين أمر خطير جدًّا، مضيفًا أن حزب الشعب الجمهوري ÖVP الذي أسس مركز توثيق للجماعات المتطرفة أصبح الآن في مواجهة مع المسلمين في النمسا من أجل استرضاء اليمين النمساوي، ومع ذلك فإن مثل هذا النهج لا يشجع على مكافحة التطرف الذي يجب أن يتم بشكل مثالي بمشاركة المسلمين والجمعيات الاسلامية بالنمسا، وأن هذا المشروع قد يأتي بنتائج عكسية؛ حيث قامت بعض الجماعات عقب تدشين المشروع باستغلال الموقف لأغراض دعائية على وسائل التواصل الاجتماعي، وادَّعت أن المسلمين في النمسا يعانون الآن مثلما عانى اليهود المضطهدون خلال الحقبة النازية، كما أن المتطرفين اليمينيين استغلوا أيضًا الخريطة لإثبات زعمهم بأن المسلمين باتوا العدو الأكبر والخطر الرئيس في المجتمعات الغربية بصفة عامة.

وفي اتجاه مواز، بدأت بعض المنظمات الإسلامية بالتحرك لرفع دعاوي قضائية ضد الخريطة، معتبرة أن نشر جميع أسماء ومهام وعناوين المؤسسات الإسلامية يمثل تجاوزًا غير مسبوق.

 كنائس نمساوية: اقترح رئيس أساقفة فيينا الكاردينال "كريستوف شونبورن" (وهو أحد الأصوات المهمة والمؤثرة) استبدال مشروع "خريطة الإسلام" بمشروع "أطلس الأديان" في النمسا، ودعا إلى حوار واضح بين المسؤولين السياسيين ومسؤولي الجمعيات الدينية بهذا الخصوص، محذرًا من خطورة انتقاء دين بعينه للمشروع كما هو الحال مع "خريطة الإسلام". ونبَّه الكاردينال إلى خطورة وضع دين بأكمله تحت طائلة الاشتباه، وهو ما قد يفهم من المشروع، على الرغم من أن ذلك لا يمكن أن يكون المقصود.
كما أعربت الكنيسة الكاثوليكية عن معارضتها للخريطة وقال "ماركوس لادشتر" الرئيس التنفيذي للجنة الأديان العالمية لمؤتمر الأساقفة النمساويين والباحث الديني في المعهد العالي الكاثوليكي للتربية بمدينة جراتس (KPH): "إن مشروع الخريطة يبدو مشكوكًا فيه، فلماذا تقوم سلطات الدولة الآن من جانب واحد بإنشاء خريطة بمعلومات شاملة وتقييمات لجميع مؤسسات مجتمع ديني واحد". وتابع "لادشتر": "إن استغلال فكرة محاربة التطرف لبعض المنتمين للإسلام؛ للتضييق على جميع المسلمين في النمسا باتت غير مقبولة، وتُظهر مدى التفرقة في المعاملة بين المسلمين وغير المسلمين من قبل الحكومة في النمسا.

وعلى الرغم من أن الأسقف البروتستانتي "مايكل تشالوبكا" طلب من وزيرة الاندماج "سوزانا راب" حذف الخريطة للأسباب نفسها المذكورة سابقا، فإن الوزيرة صرحت مُدافعة عن الخريطة بأنها تسهم في خلق الشفافية، وليس المقصود وضع المسلمين تحت الشبهة.

أحزاب ومسؤولون سياسيون وجمعيات مدنية: دعا حزب "نمسا المستقبل الاجتماعي" إلى توفير حماية فورية من الشرطة لجميع المساجد والمؤسسات الإسلامية، مشددًا علي ضرورة استقالة الوزيرة "سوزانا راب" لأنها –حسب قوله- تغذي العنصرية ضد المسلمين، وتُعرِّض المسلمين لخطر قاتل.
كما انتقدت جهات أخرى مشروع الخريطة مثل "حزب الخضر"، و"الحزب الاشتراكي النمساوي" SPÖ، وعمدة فيينا، وكذلك ممثل عن منظمة مجلس أوروبا؛ حيث طالب مجلس أوروبا على لسان المفوض الخاص بمكافحة العداء للإسلام والسامية "دانيال هولتغن" بضرورة سحب الخريطة، وقال: "إن الخريطة تجاوزت هدفها، كما أنه من المحتمل أن تكون ذات تأثير عكسي"، مشيرًا إلى أن الكثير من المسلمين شعروا بأنهم تعرَّضوا للتشهير، وأن سلامتهم معرضة للتهديد بسبب نشر الخريطة لعناوين الجمعيات الإسلامية وتفاصيل أخرى عنها. وذلك فضلًا عن رفض العديد من الصحفيين والناشطين وعلماء الاجتماع وغيرهم لهذا المشروع.

 موقف جامعة فيينا: رفضت جامعة فيينا التي شاركت بالفعل في إعداد المشروع استخدام شعارها على الخريطة، وانتقد رئيس الجامعة "هاينز إنجل" طلب هيئة التحرير معلومات مفصلة عن الجمعيات والمساجد.
وفي هذا السياق صرح مدير مشروع "خريطة الإسلام" الأستاذ الدكتور "عدنان أصلان" بأنه لا يفهم سلوك الجامعة، موضحًا في مقابلة مع وكالة APA للأنباء يوم الجمعة 28/5/2021 أنه تمَّ عقد اتفاق تعاون مع الجامعة بخصوص المشروع، فيما أفصح في بيان له على موقع الخريطة يوم 1/6/2021 عن أسفه من استغلال الخريطة سياسيًّا بشكل سيِّئ، واستخدامها من قبل اليمين المتطرف بشكل يخالف أهداف الخريطة، وأن اللافتات التي تمَّ تعليقها أمام المساجد تمثل صدمة كبيرة، وأنه يدينها بشدة، وأنه كان يهدف من هذه الخريطة خلق حالة مختلفة من الحوار حول الإسلام في النمسا، وأن تسهم الخريطة إسهامًا إيجابيًّا في هذا الحوار، كما تعكس التنوع الإسلامي في النمسا.

تعليق حزب الشعب النمساوي على ردود الأفعال المعارضة للخريطة
أكد حزب الشعب النمساوي (ÖVP) يوم الأربعاء الموافق 2/6/2021 أن الحزب ثابت على الموقف؛ حيث صرح كل من رئيس الحزب "ماركوس فولبيتش" والمتحدثة باسم وزارة الاندماج "كارولين هونغيرلندر" خلال مؤتمر صحفي مشترك بأنهما لن يتراجعا، وأضاف "فولبيتش" قائلًا: "إن التهديدات بقتل السياسيين والخبراء أثناء عرض خريطة الإسلام صادمة".

تعليق موقع الخريطة ثم عودته للعمل

وفي يوم 3/6/2021 نُشر بيان على موقع الخريطة يفيد بإغلاق الموقع بشكل مؤقت لأسباب تقنية، وأنه سوف يُفتَح قريبًا بعد إجراء بعض التعديلات، ما دفع البعض إلى اقتراح أنه عند عودة الموقع للعمل مرة أخرى لابد من اشتراط التسجيل قبل السماح بالدخول إلى الموقع. وبعد إغلاق الموقع لحوالي أسبوعين، تمَّ إعادة فتح الموقع مرة أخرى يوم 15/6/2021، لكن بدون اشتراط أسبقية التسجيل قبل السماح بالوصول إلى البيانات والمعلومات.

 وفي إطار اهتمامه بقضايا المسلمين حول العالم؛ يتابع مرصد الأزهر ما دار حول مشروع "خريطة الإسلام في النمسا"، والآثار المترتبة عليه، وكذلك موجة السخط والانتقادات والتهديدات التي لحقت بمن أطلقوا هذا المشروع وأشرفوا عليه، وهو الأمر الذي يرفضه المرصد تمامًا ويدينه بشدة. كما يتابع المرصد بقلق أيضًا مخاوف المسلمين في النمسا من المشروع؛ لذا يدعو المرصد إلى الحوار مع الجمعيات الإسلامية الرسمية المعتدلة حول هذا المشروع، وذلك في شكل نقاش مجتمعي هادف؛ لتحقيق ما يربو إليه المشروع بشكل معتدل دون المساس بحقوق وأمن المسلمين في النمسا أو إثارة خوفهم وغضبهم، وأيضًا بما يمنع الجماعات المتطرفة من استغلال المعلومات المتاحة على موقع الخريطة لاستهداف المسلمين في البلاد.

ويؤكد المرصد على أهمية جميع الأصوات المعتدلة والمحايدة التي عبَّرت عن رأيها حول هذا المشروع، كما يلفت المرصد الانتباه إلى أن اللافتات العنصرية التي تم وضعها من قبل المتطرفين أمام بعض المساجد بعد تدشين الخريطة تمثل تهديدًا واضحًا للمسلمين؛ لذا ينبغي التعامل معها بشكل جاد؛ إذ إنها تبيِّن أن تخوفات كثير من المسلمين من مشروع الخريطة منطقية ولها أسبابها التي ينبغي التعامل معها ومعالجتها بكافة الوسائل.

وحدة الرصد باللغة الألمانية

طباعة