فوارق وتمايزات بين الجماعات المتطرفة (2) .. الإعلام بين داعش والقاعدة

  • | الأحد, 27 يونيو, 2021
فوارق وتمايزات بين الجماعات المتطرفة (2) .. الإعلام بين داعش والقاعدة

يمثل استخدام الإعلام -بل والمهارة في استخدامه- أحد أهم الفوارق بين تنظيمي "داعش" و"القاعدة" الإرهابيَّيْن اللذيْن قد فطنا لقوة الإعلام وأهميته، واعتمدا عليه بصورة متفاوتة وفقًا لإمكانيات كل منهما، ووفقًا لطبيعة مرحلة القوة عند كل تنظيم، ووفقًا لطبيعة الإعلام وأدواته في سنوات قوة كل تنظيم على حده.

فطفرة الإعلام غير التقليدي التي لم تكن موجودة بشكلها الحالي في وقت قوة تنظيم "القاعدة"، وتربُّعه على عرش الجماعات المتطرفة أعطت تنظيم "داعش" الإرهابي قوة لا تقل عن قوته العسكرية، بل ربما تزيد عنها كثيرًا، وفقًا لكثير من الخبراء؛ من أجل ذلك نال الإعلام نصيبًا كبيرًا من اهتمام قادة تنظيم "داعش" الإرهابي الذي قدَّم خطابًا إعلاميًّا وإفتائيًّا لمن أطلق عليهم "أبو بكر البغدادي" فرسان الإعلام.

ولقد نوَّهنا في المقال السابق (فوارق وتمايزات بين الجماعات المتطرفة: 1) أننا سنخصص مقالًا من هذه السلسلة للحديث عن الإعلام عند تنظيمي "داعش" و"القاعدة" الإرهابيَّيْن. وسيكون حديثنا في هذا الموضوع بشكل مختصر يتناسب مع طبيعة المقال، ومن عدة جوانب على النحو الآتي:

أولًا: الاستراتيجية الإعلامية عند كلا التنظيمين

كان لتنظيم "القاعدة" السبق من بين كافة التنظيمات المتطرفة في استخدام الإعلام استخدامًا حقيقيًّا لبث رسائله للعالم؛ وذلك عن طريق بث التسجيلات الصوتية لـ "أسامة بن لادن" على إحدى القنوات العربية خلال العقد الأول من القرن الحالي.

لكن بعد ذلك سمحت التكنولوجيا للمنظمات الإرهابية بأن تصبح أكثر حداثة، وأن تنتج موادها الإعلامية بنفسها، وتنشرها وقتما تريد، وساعدتها على استخدام أدوات ووسائط أكثر تطورًا وتعقيدًا. وهو الأمر الذي تفاعل معه تنظيم "القاعدة"، فاستخدم الشبكة العنكبوتية بقدر ما سمحت الإمكانات التكنولوجية آنذاك، وتمثلت مشاركاته في المنتديات وصفحات الإنترنت، وأبرز من خلالها نفسه على شبكة التواصل العالمية.

وفي عام 1988 قرر "أسامة بن لادن" إنشاء "إدارة إعلام القاعدة"، التي أطلق عليها فيما بعد اسم "الجناح الإعلامي" للتنظيم، والتي اهتمت في ذلك الوقت بإصدار البيانات الصادرة عن قيادات "القاعدة"، وتعميمها على مختلف المعسكرات، وذلك وفقًا لتقرير أعده المركز العربي للبحوث والدراسات في أبريل 2016.

كما كان للحصار الإعلامي الذي فرضته الولايات المتحدة على تنظيم "القاعدة" أواخر عام 2001 دور رئيس في تأسيس التنظيم لمؤسسة "السحاب للإنتاج الإعلامي"، أو تفعيلها بإنتاج إعلامي مكثف لبث خطابات زعماء "القاعدة"، مثل: "بن لادن"، و"الظواهري" عبر الإنترنت. وفي عام 2006 أسس "أبو مصعب الزرقاوي" قائد تنظيم "القاعدة" في العراق مؤسسة "الفرقان" الإعلامية لنشر المواد المسموعة والمرئية والمقروءة، وهي المؤسسة التي استمرت مع تنظيم "داعش" الإرهابي بعد ذلك. وبهذا يمكننا القول: "إن تنظيم "القاعدة" كان أول تنظيم يضع لنفسه إستراتيجية إعلامية واضحة الأهداف".

أما تنظيم "داعش" الإرهابي فبشهادة الواقع ورؤية جميع الخبراء، ووفقًا للعديد من التقارير التي أعدها مرصد الأزهر فهو أكثر التنظيمات الإرهابية اعتمادًا على الإعلام واستفادة منه؛ حيث اشتهر بأن لديه آلة إعلامية تتمتع بقدرات تقنية عالية وكفاءة كبيرة في التعامل مع العوالم الافتراضية وشبكات التواصل على وجه الخصوص، وقد استطاع من خلال منصاته الإعلامية استقطاب المقاتلين من دول مختلفة، كما استطاع نقل عملياته الإرهابية من الشرق إلى الغرب عبر الشباب الذين خُدِعوا بدعايته الضالة والمضللة، وقاموا بعمليات نوعية عُرفت إعلاميًّا باسم "عمليات الذئاب المنفردة". ووفقًا لدراسة قام بها الباحثان "ينال جوكسون" و"أمين صالح" عام 2018 بعنوان "استراتيجية داعش الإعلامية"، فإن هذا التنظيم الإرهابي اعتمد في بناء إستراتيجيته الإعلامية على مجموعة من الأسس، يمكن إجمالها على النحو الآتي:

  1. استخدام وسائل الإعلام الرقمي كسلاح، وهذا واضح في الخطاب الإعلامي والإفتائي الذي يكان قدمه التنظيم لأتباعه، ويصور لهم كذبًا أنهم يجاهدون من خلال نشاطهم الإعلامي، ودائمًا ما يستخدم قادة التنظيم في خطابهم مصطلحات مثل "فرسان الإعلام"، و"الثغور الإعلامية"، و"الغزوات الإعلامية".

كما أصدر التنظيم فتوى لأتباعه عام 2017 لتشجيعهم على التواجد على مواقع التواصل وممارسة أنشطة إعلامية، وكان نصها: "تواجدوا على "تويتر"، فهو بمثابة النزال مع الأعداء، أحكموا الحسابات وأكثروا منها، وانقلبوا على الكافرين"!

وفي رسالة مرئية (فيديو) نشرتها مؤسسة "فرقان" يقول التنظيم لأتباعه: "فإذا أغلقوا لكم حسابًا واحدًا فأنشئوا ثلاثة، وإن أغلقوا ثلاثة فاصنعوا ثلاثين .. ألهبوا لهيب الغزوات لخلق مناخ القلق واليأس على جميع منصاتهم"! وفي وصية أخرى نشرها التنظيم على أحد مواقع التواصل، يقول فيها لأتباعه: "وأنت على هذا الثغر الإعلامي تذكر فضل الله عليك ولا يعجبك فعلك، وانظر إلى حالك بعين التقصير".

وفي أحد أعداد جريدتهم الأسبوعية الناطقة باللغة العربية نشر التنظيم مقالًا بعنوان: "الإعلام المناصر"، واتخذ التنظيم شعار: "أنت مجاهد أيها الإعلامي"، ونقل لأتباعه مقولة "أبو حمزة المهاجر" أحد قادة التنظيم الذي قُتل عام 2010، والتي جاء فيها: "الزم ثغرك فنحن نحتاجك في مكانك، إياك أن تحسب أن عملك نافلة من القول أو الفعل، عملك فرض عليك فاجتهد فيما حملت من أمانة". ولا شك أن مثل هذه التعبيرات والمصطلحات كان التنظيم حريصًا على استعمالها لإلهاب حماسة الشباب ممن يغرر بهم للانضمام أو الاستمرار في كنف هذا التنظيم الإرهابي.

  1. تحقيق تفوق إعلامي بقدر التفوق العسكري على الأقل، والمضي قُدُمًا في تنفيذ هاتيْن الركيزتيْن بشكل متزامن. وهذا كان واضحًا في حجم الدعاية التي قام بها التنظيم لنفسه، والتي كانت لا تُعبِّر تعبيرًا حقيقيًّا عن حجم قوته. فمعظم الأراضي التي سيطر عليها التنظيم كانت بسبب الحرب النفسية التي مارسها عبر مواقع التواصل، ومن خلال مشاهد العنف التي كان ينشرها، والتي كانت سببًا في هروب الناس من مواجهته، ثم ظهر بعد ذلك مدى ضعفه في معارك كثيرة؛ مثل: "الرقة"، و"الموصل"، و"الباغوز".

٣. استهداف المعايير الدولية في جودة النصوص والخطابات التي تبثها أبواق التنظيم. وهذا يتضح تمام الوضوح من مدى التقنية العالية للمجلات والصحف سواء من حيث اللغة أو الشكل والإخراج، وكذلك من حيث الجودة العالية للمقاطع المرئية التي كان ينشرها التنظيم عبر أبواقه، والتي شبَّهها بعض الباحثين بأنها "مقاطع هوليودية".

٤. التأثير على أجندة الأجهزة الإعلامية الدولية وأدواتها التقليدية في بث أخبار التنظيم والترويج له دون أن تدري. حيث قد نجح في ذلك بدرجة كبيرة خصوصًا خلال عامي 2014 و2015، متبعًا سياسة الإغراق الإعلامي التي جعلت بعض وسائل الإعلام تروج ما ينشره التنظيم على صفحاته دون أن تستضيف خبراء لتفنيدها أو الحكم عليها حكمًا موضوعيًّا. وهذا يُحتِّم على وسائل الإعلام ضرورة الانتباه، ومعرفة الفرق الدقيق بين المكافحة والترويج.

٥. تجريد القيم الدينية من محتواها، وإضفاء معاني العنف والشدة عليها. وهذا يتضح في مقاطعهم المرئية والمسموعة ومنشوراتهم من خلال استشهادهم بالنصوص الدينية في غير موضعها، وبتفسيرات مغلوطة نتيجة الانحراف الفكري النابع من جهل منظري هذا التنظيم الإرهابي.

وهنا يتضح لنا مدى تفوق تنظيم "داعش" الإرهابي على "القاعدة" في استراتيجيته الإعلامية. ويرى مرصد الأزهر أن أسباب ذلك كثيرة؛ أهمها قوة التواجد الجماهيري على مواقع التواصل خصوصًا في عالمنا العربي في وقت قوة "داعش" وضعف "القاعدة". وكذلك استقطاب "داعش" لعدد كبير من الشباب الغربي أو المتعلم في الغرب، وكان منهم كثيرون يجيدون التعامل مع مواقع الإنترنت، ويعرفون إستراتيجياتها معرفة جيدة، وهو الشيء الذي أسهم في زيادة المنضمين إلى التنظيم.

وفي مقارنة بين إعلام تنظيمي "داعش" و"القاعدة" يقول "عبد الباري عطوان" في كتابه "الدولة الإسلامية، الجذور _التوحش _ المستقبل"، المنشور عام 2015: "إن النجاح الذي حقّقه تنظيم "داعش" الإرهابي يتمثل في أذرعهِ الإعلامية القوية التي لعبت دورًا كبيرًا في إيصال رسالته وإرهاب أعدائه ووضعه على الخريطتيْن الإقليمية والدولية بقوة وفي زمن قياسي. إن إعلام "القاعدة" الأم الذي شغل العالم بأشرطته وبياناته طوال عشرين عامًا يبدو بسيطًا ومتواضعًا إذا ما قورن بإعلام تنظيم "داعش" الإرهابي. إن التقنيات الحديثة يستخدمها "داعش" وكتائبه الإعلامية لا تقل أهمية عن الصواريخ والدبابات والعمليات الانتحارية والمتفجرات بل تفوقها؛ لأنها تحقق نجاحات كبيرة في الحرب الأهم وهي حرب العقول المستعرة.

ويُعول تنظيم "داعش" الإرهابي كثيرًا على وسائل الإعلام المضادة له، ويسعى إلى جعلها تُروج غزواته وأخباره وأيديولوجيته المتشددة لإيصالها إلى محبيه وأعدائه على حدٍ سواء، ويستخدم في سبيل ذلك تقنيات عالية تضاهي أفلام هوليود وكبريات محطات التلفزة العالمية".

ثانيًا: الظهور الإعلامي لقيادتي داعش والقاعدة

بالرغم من أن تنظيم "داعش" الإرهابي حقق تفوقًا كبيرًا وملحوظًا على تنظيم "القاعدة" الإرهابي في الإعلام، والقدرة على الاستفادة منه، وتوظيفه، فإن الآلة الإعلامية للقاعدة استطاعت إبراز شخص "أسامة بن لادن"، وإحاطته بهالة من التوقير، وجعلت منه زعيمًا روحيًّا للتنظيمات الإرهابية الأخرى ومن بينها تنظيم "داعش" نفسه الذي يمدح "أسامة بن لادن" في إعلامه، ويتهم "أيمن الظواهري" بالتدليس والانحراف عن طريق "القاعدة" الذي رسمه "بن لادن". وقد ظهر "أسامه بن لادن" إعلاميًّا (31) مرة بعد أحداث 11 سبتمبر2001 وحتى وفاته، وذلك في تسجيلات مختلفة لحشد أنصاره وتحفيزهم.

على الجانب الآخر، ظهر "أبو بكر البغدادي" قبل وفاته مرتيْن؛ الأولى على منبر مسجد "النوري الكبير" في الموصل في 4 يوليو 2014؛ حيث ألقى الخطاب الذي أعلن فيه قيام دولته المزعومة، والثانية في 29 أبريل 2019 ليعلن انتهائها، وبيْن المرة الأولى والثانية خرج مرتيْن في تسجيلات صوتية، وذلك وفقًا لتقرير أعدته جريدة "إندبندنت" النسخة العربية في سبتمبر 2019. وبالرغم من قلة ظهور "البغدادي" إعلاميًّا، فإنه ظهر أكثر من قائد التنظيم الحالي "أبو إبراهيم الصلبي" الذي لم يظهر إعلاميًّا حتى الآن رغم توليه قيادة التنظيم منذ أكثر من عام ونصف.

ويرجع البعض عدم ظهور قيادات "داعش" إعلاميًّا إلى رغبة التنظيم في عرض الفكرة والتركيز عليها، أكثر من عرض كاريزما القائد، وذلك كي يرتبط مقاتلو التنظيم ومؤيدوه بالتنظيم والفكرة أكثر من ارتباطهم بشخصية القائد، وبالتالي لا يتعرَّض التنظيم لهزات أو انشقاقات بمجرد موت زعيمه، كما حدث بعد مقتل "بن لادن"، حيث فقدت "القاعدة" جزءًا كبيرًا من قوتها بسبب مقتله.

ويرى البعض الآخر أن عدم ظهور قادة "داعش" إعلاميًّا هو إستراتيجية داعشية قائمة على عدم تصدُّر زعيم التنظيم المشهد الإعلامي لدواعٍ أمنية، استفادةً مما حدث مع قادة "طالبان"، و"القاعدة" في "أفغانستان" و"العراق"؛ حيث إن الولايات المتحدة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 قامت بتصفية الكثير من قادة تنظيم "القاعدة" وقادة حركة "طالبان"، عن طريق هجمات مكثفة وموجهة بطائرات بدون طيار. وقد فعلت ذلك أيضًا مع العديد من زعماء "داعش" المؤسسين، مثل: "العدناني"، و"الشيشاني"، و"العفري" وغيرهم. فكانت الإستراتيجية الداعشية قائمة على عدم ظهور قائد التنظيم، حتى لا يساعد ذلك في تحديد مكانه، وبالتالي يسهل استهدافه. وهذا يفسر لنا عدم ظهور زعيم التنظيم الجديد حتى الآن.

ثالثًا: توصيات

بعد هذا التطواف مع إعلام تنظيمي "داعش" و"القاعدة" الإرهابيَّيْن، ومعرفة مدى استفادتهما من الإعلام غير التقليدي، يرى مرصد الأزهر أن هذا الإعلام كان أهم سبب لتفوق "داعش" على "القاعدة" وعلى غيره من التنظيمات الأخرى؛ لذلك يمكن القول بأنه لا ينبغي ترك الفضاء الإلكتروني ساحة فارغة للمتطرفين، ينشرون فيه ما يشاءون، بل ينبغي مزاحمتهم فيه، وتفنيد أفكارهم وحماية الناس من الوقوع فريسة سهلة في براثنهم.

وهذا يتطلب المشاركة الفاعلة من جميع فئات المجتمع؛ علماء الدين، والمثقفين، والكتّاب، والشعراء، والمدرسين، وأساتذة الجامعة، والرياضيين، والإعلاميين وأصحاب الفن الهادف، وكل من له جمهور وله قدرة على الكتابة والتواصل والتأثير، عن طريق استغلال صفحاتهم الشخصية على مواقع التواصل في القيام بدور توعوي بلغة الميديا الحديثة والبسيطة، يحذرون فيها من التطرف وجماعاته، ويسعون في الوقت ذاته إلى تعزيز القيم الدينية والإنسانية.

وقد تفاعل الأزهر الشريف مع هذا الأمر، وأصبح لكل هيئاته تواجد قوي عبر مواقع التواصل، يُشكل من خلاله حائط صدٍّ أمام صفحات جماعات التطرف والإرهاب. كذلك ينبغي على من يتصدى لمكافحة التطرف إعلاميًّا أن يُتقن جيدًا الفرق بين المكافحة والترويج، وألَّا يتحدَّث عن أية مادة إعلامية لتنظيم متطرف دون أن يكون لديه أدوات الحكم على هذه المادة. فهذه الأدوات هي التي تمكنه من معرفة إن كانت هذه المادة حقيقية أم دعاية ضالة. كذلك ينبغي عدم التساهل مع أي شخص يرى العنف والتنمُّر مشروعًا في مجال الفكر، فهؤلاء هم الذين يرسخون للعنف، ويقنعون الشباب بمشروعيته.

وحدة رصد اللغة التركية

طباعة