يوسف مادا شين .. العالم المسلم الصيني

  • | الثلاثاء, 29 يونيو, 2021
يوسف مادا شين .. العالم المسلم الصيني

 

إنَّ من يُعطي حياته للإسلام لا يُمكن أن ينساه المسلمون أو يتغافلوا عن دوره. ومن الأدوار التي يضطلع بها "مرصد الأزهر" تعريف المسلمين بعلماء الإسلام، الذين كان لهم دور في نشر تعاليمه السمحة؛ لذا يسلط التقرير الضوء على عالم مسلم ممن خدموا الإسلام والمسلمين في بلاد الصين؛ حيث ازدهرت على مر السنين قوميات مسلمة متعددة نشأت من قلب الأمة الصينية، لتُكَوِّن مجتمعًا مسلمًا، ومن داخل أكبر قومية صينية قومية "هِويّ" Hui، ومن ولاية "تايخي" بمقاطعة "يُونَّان" Yun Nan، ولد "مادا شين" Ma Dexin أو كما يُدعى "يوسف روُح الدين".

نشأته وعلمه

مادا شين Ma Dexin (١٧٩٤م - ١٨٧٤م) هو أحد أشهر العلماء المسلمين الصينيين، يُدعى بالعربية "يوسف"، ويُعرف لدى المسلمين الصينيين بـ"روُح الدين"، وهو أحد أبناء قومية "هِويّ" القومية الأكبر بين (10) قوميات مسلمة تعيش في الصين، وأكثر المفكرين تأثيرًا في التاريخ الإسلامي في الصين. وقد تميَّز "مادا شين" بقدرته على استخدام اللغة العربية في فهم وقراءة العلوم الإسلامية والعربية، كما استعمل اللغة الصينية أيضًا في ترجمة الكثير من الكتب والمؤلفات الإسلامية؛ وذلك ليتعرَّف المثقفون الصينيون على الثقافة الإسلامية.

وتذكر التراجم والسير عن "مادا شين" براعته في التحدث باللغتين: العربية والفارسية اللتان تعلمهما على يد والده، وحِرص والده على تعليمه أصول الدين، والفقه الإسلامي منذ نعومة أظفاره. وقد ساعده حبه الشديد للاطلاع والمعرفة في شتى العلوم الإسلامية على اكتساب شهرة كبيرة بين أبناء القوميات المسلمة وخاصة قومية "هِويّ"، حيث يمتلك "مادا شين" رصيدًا كبيرًا من المؤلفات والتراجم التي أسهمت في نشر الثقافة الإسلامية داخل المجتمع الصيني.

 

التعليم المسجدي وأثره على "مادا شين":

لن نستطيع فهم الحياة العلمية لمسلمي الصين وطرق فهمهم للشريعة بدون معرفة طرق تدريس الشريعة هناك؛ حيثُ كان التعليم الديني في الصين مع بداية القرون الأولى لدخول الإسلام مقتصرًا على المساجد، حيث يتم فيها دراسة القرآن الكريم وحفظه، ودراسة السنة النبوية المطهرة.

وكان استيفاء العلم الشرعي يختص به إمام المسجد الذي يحمل على عاتقه إلقاء المحاضرات الدينية على المسلمين في وقت صلاة الجمعة، أو في العيدين، أو خلال شهر رمضان المبارك، بالقدر الذي يتيح للمسلمين معرفة تفاسير الآيات القرآنية، وشروح الأحاديث النبوية المطهرة، والأحكام الشرعية، والفقه، وسير الأنبياء عليهم السلام، وكل ما ينفعهم في دينهم ودنياهم؛ لذلك كان ظهور العلماء داخل المجتمع الصيني المسلم نابعًا من اجتهاد المسلم، وحبه للمعرفة الإسلامية. وقد أدى "التعليم المسجدي" إلى حدوث طفرة كبيرة لدى كافة أبناء المسلمين من قومية "هِويّ" الذين التحقوا بهذا النموذج الفريد من نوعه في التعليم.

وقد بدأ "التعليم المسجدي" مع نهايات عهد أسرة مينغ Míng  (1368م  - 1644م)، وكان له أثر كبير داخل المجتمع المسلم بالصين، واستمر حتى فترة قريبة، وشاع في كل مكان يقطنه أبناء قومية "هِويّ"، حيث كان هناك مدارس ابتدائية ومتوسطة وعليا.

فكان يُدرس بالمرحلة الابتدائية: معارف الدين الإسلامي، والأبجدية، والإملاء للغة العربية. ويُدرس في المرحلة المتوسطة: تعاليم الدين الإسلامي، والفقه، والتفسير، والعقيدة والأخلاق. ويُدرس في المرحلة العليا قواعد اللغة العربية، أو الفارسية، وعلم البلاغة، وعلوم القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وكذلك علم الفقه، وعلم المنطق وغيرها من العلوم العربية والشرعية.

وتتراوح مُدة الدراسة من (٣) إلى (٥) سنوات. وبعضهم كان يدرس أكثر من (١٠) سنوات، أو مدى الحياة.  وكان يُطلق على طلاب المراحل الأخرى عدا تلاميذ المرحلة الابتدائية اسم "الملا" بمعني "طالب". وعندما كان يصل واحد من بين "الملا" إلى مستوى عالٍ من المعارف الدينية؛ يتم الاحتفال بتخرجه وإلباسه زي الإمام؛ حيث كان زيًّا تقليديًّا يرتديه أئمة الصين من المسلمين.

وكان "التعليم المسجدي" يهدف إلى غرس مشاعر الإيمان في الشباب المسلم من الصغر عن طريق نشر وتعميم المعارف الإسلامية، وخلق جيل من العلماء والمفسرين والأئمة، والإسهام في دفع ودمج الثقافتين العربية والصينية، وتعزيز تطور الثقافة الإسلامية لقومية "هِويّ" في نفس الوقت.

ومن هذا المنطلق نستطيع أن نفهم أثر "التعليم المسجدي" على طلاب العلم من المسلمين الصينيين، ومن ضمن هؤلاء الدارسين داخل هذا النظام من التعليم "مادا شين" الذي كان له دور كبير في تطوير "التعليم المسجدي"؛ حيثُ تعلم فيه، ثم أصبح أستاذًا وإمامًا مطورًا وناشرًا للتعليم المسجدي داخل المدن الصينية.

 وقد ذهب "مادا شين"  إلى "تشانغ آن" Chang'an في "شانشي" Shānxī  ؛ حيث تعلم العلوم الإسلامية على يد أستاذه " تشو ليانغجون "Zhou liangjun  الذي يعتبر التلميذ الرابع للأستاذ الكبير "خو دنغتشو"  Hu Dengzhou، الذي يُعد المؤسس الرئيسي للتعليم المسجدي في الصين، وعلى يده ظهر النبوغ الواضح في تعلم العلوم الإسلامية.

ولكنه لم يكتف بذلك، ففي عام 1841 ذهب إلى مكة لأداء فريضة الحج، ومنها انتقل إلى العديد من البلاد الإسلامية لدراسة العلوم الإسلامية والعربية، ومن ضمنها "مصر"؛ حيُث زار "القاهرة"، و"الإسكندرية"، وتتلمذ على يد مشايخها، كما ذهب إلى "القدس"، و"اسطنبول"، و"عدن" و"سنغافورة"، وتقابل مع عدد كبير من علماء الدين الإسلامي، واستطاع الحصول على العديد من أمهات الكتب الإسلامية التي ترجمها بعد ذلك.

ولم يلبث حتى عاد إلى وطنه بعد (8) أعوام من الدراسة والتعلم؛ ليبرز دوره بعد ذلك في نشر الثقافة الإسلامية في جميع أنحاء مناطق المسلمين بالصين التي يقطنها أبناء قومية "هِويّ"؛ حيثُ مكث يُدرس العلوم الإسلامية التي تعلمها في العالم الإسلامي، وترجمها إلى اللغة الصينية، ليصبح واحدًا من أشهر المعلمين في نظام "التعليم المسجدي" في الصين، وتتلمذ على يديه الكثير من الطلاب المسلمين الصينيين، وازدهر على يديه "التعليم المسجدي"، واستطاع ترجمة أجزاء من القرآن الكريم إلى اللغة الصينية كأول محاولة من نوعها، فأطلق عليه المسلمون حينذاك: "المُعلم الكبير".

أسلوبه ومؤلفاته

امتاز أسلوب "مادا شين" Ma Dexin بالوسطية والاعتدال في شرح ونشر الثقافة الإسلامية، فقد احترم العادات الصينية، كما حاول أن يعطي لتعاليم وعقائد الإسلام تفسيرًا يلائم المجتمع الصيني، فكان أسلوبه سابقًا على عصره بعد نقل كثير من العلوم الإسلامية التي كان من الصعب على المسلمين والأئمة وغيرهم من المقيمين في الصين تجشم معاناة السفر لآلاف الأميال إلى مكة المكرمة والبلاد الإسلامية للحصول عليها؛ بسبب بُعد مسافة السفر إلى تلك البلاد.

كما كانت لديه العديد من المؤلفات والتراجم، من بينها ما يتعلق بقواعد اللغة العربية، وترجمة كتب نظرية تتعلق بطرق التقويم الإسلامي، كما كتب في آداب المعاشرة الإسلامية، والمعتقدات والنظريات الفلسفية، وترجم أذكار فريضة الحج.

 وتتميز ترجماته بتنوع مصدرها، فمنها ما تُرجم من اللغة العربية وأخرى من اللغة الفارسية ومن أشهر كتبه: (مجمع الأربع كتب) أو (الاحتفالات الأربعة)، (العودة إلي الحق)، (مغزى الحياة)، (حقيقة الطاو) و (شعائر الحب) وغيرها من الأعمال.

 

وإن كانت وحدة اللغة الصينية بمرصد الأزهر تُذكِّر بِسيَر أعلام المسلمين في الصين، فإنها تؤكد على استمرارها في إلقاء الضوء على كل من أسهم في خدمة الإسلام، ونشر الدين الحنيف في ربوع الدنيا، وقدرتهم على الاندماج في أوطانهم، والإسهام في بنائها. ومرصد الأزهر يُشيد بهذه الشخصية وأثرها في إثراء هذا الجانب من التاريخ الإنساني، معتبرا إياه نموذجًا من أهمِّ نماذجِ الشخصيات في التاريخ الإسلامي كمثال للتعايُش، ووسيطًا بين مُلتقى الحضارات.

وحدة الرصد باللغة الصينية

طباعة