قراءة في إصدارات تنظيم داعش الإرهابي (1)

  • | الأربعاء, 7 يوليه, 2021
قراءة في إصدارات تنظيم داعش الإرهابي (1)


     تأتي متابعة المواد الإعلامية والإفتائية الصادرة عن التنظيمات المتطرفة على رأس أولويات مرصد الأزهر لمكافحة التطرف؛ حيث يتعمق المرصد في خطاب هذه الجماعات كي يستطيعَ معرفةَ ما تهدف إليه، ثم يقوم المرصد بتفنيد هذا الخطاب، ومن ثَمَّ يستطيع بناء حائط صَدٍّ يحمي الشباب من خطورة الاستقطاب. فالرد على أي فكرٍ هدَّام يتطلب معرفة هذا الفكر أولًا، وقراءته قراءة جيدة؛ كي يستطيع المرصد في النهاية أن يرسخ لفكرٍ مضاد له، يشتبك معه ويُظهر فساده.
وفي هذا الإطار، يتابع مرصد الأزهر جميع إصدارات الجماعات المتطرفة الصادرة باللغة العربية واللغات الأجنبية المختلفة. وهنا سوف نتعرض لسلسلة مقالات، كان تنظيم "داعش" الإرهابي قد أصدرها عبر أحد أبواقه الإعلامية على مدار عدة أسابيع، تحمل هذه السلسلة عنوان "تجديد أمر الدين، بأقوال وأفعال أئمة المسلمين". ويمكن إجمال ملاحظاتنا على المقال الأول من هذه السلسلة، على النحو الآتي:
أولا: يزعم الكاتب في المقال الأول أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بُعث بالسيف. 
وهذا الأمر يسعى التنظيم بكل قوة لتصديره وترسيخه في الأذهان، في جميع إصداراته وخصوصًا المرئية، وعلى لسان جميع متحدثيه وقادته، وكأنه قالب محفوظ يرددونه في بداية جميع إصداراتهم.  
وفي هذا الجانب يرى المرصد أن هذا الأمر يقع في إطار إستراتيجية التنظيم الإعلامية التي بناها على أسس ستة، ذكرناها في عدة مقالات سابقة. أحد هذه الأسس هو تجريد الإسلام من قيم الرحمة والتسامح، وإضفاء صفة العنف عليه؛ وكان نتيجة ذلك أن تعرَّضت الكثير من مفاهيم دين الإسلام إلى ظلمٍ وتحريف على لسان أفراد هذا التنظيم الإرهابي، وكان لمصطلح "الجهاد" النصيب الأعظم من التحريف.
ويؤكد مرصد الأزهر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُبعث بالسيف، ولم يستخدمه صلى الله عليه وسلم إلا على مَن حاربه مِن الظالمين المغتصبين للحقوق المتفَق على حُرمتها مِن عِرضٍ أو نفسٍ أو مال، وأنه لم يبدأ بقتال أحد في حياته كلِّها، ولم يُقاتل بالسيف إلا مَن قاتَله هو ومَن معه.
فهذا السيف هو سيف العدالة المتفق على قَبوله عالميًّا، وعلى أنه من اختصاص الجهات الأمنية في البلاد؛ لحماية الأوطان مِن كيد المعتدي. فالعدالة فضيلةٌ وقيمةٌ عُليا تَحرِص عليه جميع الدول. وأمَّا حديث "بُعِثْتُ بالسيف"، فبالإضافة إلى ضعفه في بعض طرقه، نجد أن معناه يخالف أكثر من 100 آية في القرآن الكريم تُبين أن النبي بُعث بالرحمة والسلام والهداية -حسبما قال فضيلة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر- ، كما أن هناك العديد من التأويلات لمعاني "السيف" مبثوثة في كلام العلماء لا تفيد العدوان والدموية والبشاعة التي يقوم بها تنظيم داعش الإرهابي.
والشواهد والبراهين ومواقف السيرة النبوية في غزواته صلى الله عليه وسلم تؤكد بما لا يدع مجالًا للشك، أن النبي لم تَشهد حياتُه أيًّا من هذه المشاهد الدامية في سفك دماء الأبرياء التي يمارسها هذا التنظيم الإرهابي، بل ويتفاخر بها في إحصاءاته، ثم يسعى إلى إلصاقها بالإسلام وهو منها بَراء. 
لقد بُعث النبي الخاتَم صلى الله عليه وسلم رحمةً للعالمين، فقال تعالى: {وما أَرسَلْناكَ إلا رحمةً لِلعالَمِين}، وقال تبارك اسمه: {لقد جاءَكُم رسولٌ مِن أنفسِكُم عزيزٌ عليه ماعَنِتُّم حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنينَ رَءُوفٌ رَحِيم}، وقال صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناسُ إنَّما أنا رحمةٌ مهداة»، فهو ﷺ بُعث رحمةً للعالمين، وليس كما يزعمون أنه بُعث بالسيف. ومشاهد الرحمة في حياته صلى الله عليه وسلم أكثر وأوفر من أن يتسع لها مقالنا الصغير محدود المساحة.
ثانيًا: يتحدث التنظيم في الفَقرة الأولى من المقال عن قادته ومنظِّريه، واصفًا إياهم بالصادقين والمجدِّدين لأمور الدين، وذلك في مشهد يتعارض مع ما توصلَتْ إليه العديد من البحوث التي تؤكد أن تنظيم "داعش" الإرهابي ليس لديه منظِّرون قادرون على إضفاء شرعية على جرائمه الإرهابية، بخلاف التنظيمات الإرهابية الأخرى مثل "القاعدة" التي تهتم بالجانب التنظيري وتربية المنظِّرين. 
ويؤكد ذلك الرسالة التي وجهها الداعشي "أبو خباب"، إلى "أبي محمد الفرقان" (مؤسس الآلة الإعلامية الداعشية الذي قتل عام 2016)، والتي تحدَّث فيها عن مخالفات منهجية في المعاهد التعليمية للتنظيم؛ معللًا ذلك بأن القائمين على التدريس جهلاء، وبعضهم مُنْحَلٌّ أخلاقيًّا، وبعضهم مختلس، وبعضهم يتاجر في الموادِّ المخدِّرة. 
إذن تنظيم "داعش" الإرهابي ليس لديه منظِّرون أو علماء يجدِّدون في أمور الدين كما زعموا. 
وفي بحث نشر عام 2016 بعنوان "داعش: التشكُّل والدوافع" قال الكاتب "نواف القديمي": "في الوقت الذي نرى فيه تباينات بين المرجعيات المدرسية للتنظيمات المختلفة نرى "داعش" خارج هذه الدوائر، فهو تنظيم رغم امتداده وكثرة المنتسبين إليه لم يُصدر تنظيرًا شرعيًّا تأسيسيًّا موسَّعًا لمواقفه العقدية والسياسية يمكن الاعتماد عليه ودراسته، وما أصدره لا يَعْدُو أن يكون تأصيلًا لاحقًا ذا طابع تبريري جدلي. كما أنه لا يوجد في هذا التنظيم أيًّا من الشخصيات الشرعية ذات التأثير كما في التنظيمات الإرهابية الأخرى. 
في المقابل، تتصدر السُّلَّمَ القيادي في تنظيم "داعش" الإرهابي شخصياتٌ ذات خلفية عسكرية"؛ وبهذا يتضح لنا أن هذا التنظيم الإرهابي ليس به شخصياتٌ علمية، فكيف سيكون لديه مجدِّدون كما يدَّعي كاتب المقال.    
ثالثًا: ذكر كاتب المقال عبارة: "لقد غابت عن المسلمين الغايةُ الصحيحة التي يريدها الله من تشريع الجهاد في ظل تسويق المبطلين ممن لَبِسَ لباس الجهاد"!! 
ويرى مرصد الأزهر أنَّ التنظيم يَقصُر على نفسه فَهم الجهاد فَهمًا صحيحًا، مُدعيًا أن كل من لا ينتسب إليه لا يَعِي الغاية التي أرادها الله جل جلاله من وراء تشريع الجهاد. 
وهنا يُعرِّض الكاتب بالتنظيمات الإرهابية الأخرى، وعلى رأسها تنظيم "القاعدة"، حيث نَشب الخلاف بينهما بصورة علنية منذ إعلان "البغدادي" دولته المزعومة في عام 2014م؛ ونتيجة لهذا الخلاف صدَرت العديد من التسجيلات الصوتية لكلا التنظيمين، يكيل فيها كل واحد منهما الاتهامات للآخَر. 
وكان من أهم هذه التسجيلات تسجيل لأبي محمد العدناني (الذي قُتل في غارة أمريكية عام 2016م)، وجَّه فيه الاتهامات للقاعدة، واتهمها بأنها لم تَعُدْ قاعدةَ الجهاد، وأنها تَخَلَّتْ عنه؛ ولذلك نالت المدح من الأعداء والأراذل وَفقًا لتعبيره. 
ويرى مرصد الأزهر أن التنظيم الإرهابي يسعى من خلال هذه الفَقرة إلى استمالة مقاتلي التنظيمات الإرهابية الأخرى إليه. 
رابعًا: يشير كاتب المقال إلى أن الجهاد لا يعني الدفاع عن الوطن وإخراج المحتلِّ منه فقط. 
ويرى مرصد الأزهر أن هذه المعلومة وإن كانت صحيحة، فإن الكاتب لم يسهب في الحديث عن الجهاد وحكمة مشروعيته، ولم يوضحه بمفهومه الواسع الذي يشمل مجاهدة الشيطان والنفس التي هي أعظم وأصعب الأنواع. 
وهذا يؤكد على تدليس الكاتب واجتزائه للأحكام، كما يؤكد من جهة أخرى على سعيه إلى توضيح صورة العدو الذي يحاربه، ويريد ترسيخ صورته في الأذهان، مقللًا من خطورة الأجنبي المحتَلِّ، حتى يبرز خطورة الجماعات الإرهابية الأخرى التي لا تنتسب للتنظيم، ولم تبايع خليفته المزعوم، ويعتبرها التنظيم عدوًّا قريبًا أكثر خطورة من المحتلِّ الأجنبي. 
لذا فإن الهدف الحقيقي هو التعريض بالجماعات الإرهابية المنافسة للتنظيم، ومحاولة استقطاب مقاتليها. 
خامسًا: من أهم ما يلفت النظر في هذا المقال هو محاولة الكاتب ضرب الهُوِيَّة الوطنية لدى الشباب من خلال وضع حاجز من الفوارق بين الهُوِيَّتَين "الوطنية" و"الدينية"، ومحاولة إثبات أنه لا يمكن أن يجتمع حب الوطن والإيمان في قلب واحد. 
ويرى مرصد الأزهر أن ضرب الهُوِيَّة الوطنية لدى الشباب يُعد جزءًا من الخطاب التحريضى للتنظيم، والذي يسعى من خلاله إلى تشويه الواقع في أعين الشباب، ثم تحريضِهم على التمردِ عليه، وهذه هى الخطوة الأولى على طريق تحويل الشباب إلى ذئاب منفردة. 
هذا وقد تابع مرصد الأزهر لمكافحة التطرف الكثيرَ من المنشورات المتطرفة التي تحاول إضعاف الهُوِيَّة الوطنية لدى الشباب، ومِن ثَمَّ نَظَّم العديد من الفاعليات الشبابية الخاصة بالهُوِيَّة من خلال ورش عمل، وتنظيم ندوات ومحاضرات وزيارات ميدانية بالمدارس والجامعات؛ بهدف تقوية مناعة الشباب أمام فيروس التطرف الذي يُضعف الانتماء، ويزرع بذور الفتنة. 

  وَحدة الرصد باللغة التركية 

طباعة