مُعَلِّم التفسير والعلوم الإسلامية بالصين المعاصرة

وانغ جينغ تشاي wáng jìngzhāi (1879-1949)

  • | الأربعاء, 18 أغسطس, 2021
مُعَلِّم التفسير والعلوم الإسلامية بالصين المعاصرة

في إطار اهتمام "مرصد الأزهر لمكافحة التطرف" بمسلمي الصين وتذكيرهم بتاريخهم الإسلامي الذي لا يغيب عنهم، ويؤثر عليهم إلى الآن، تنشر وَحدة اللغة الصينية بالمرصد حلقة جديدة من سلسلة "علماء مسلمون صينيون"، للتعريف بتاريخ وسير هؤلاء العلماء، الذين كان لهم دورٌ كبير في خدمة الإسلام والمسلمين.

ونسلط الضوء هذه المرة على سيرة العالِم المسلم "وانغ جينغ تشاي" أول من ترجم معاني القرآن الكريم كاملًا، حتى عُرف بين المسلمين الصينيين بـ" مُعَلِّم التفسير والعلوم الإسلامية بالصين المعاصرة".

نشأته وعلمه:

وُلد العالِم المسلم "وانغ جينغ تشاي"  wáng jìngzhāiعام 1879 ميلاديًّا في مدينة "تيانجين" من أسرة مسلمة متفقِّهة في الدين، وهو أحد أبناء قومية "هويHui " والتي هي قوميةٌ مِن إحَدَى عَشْرَةَ قوميةً صينية مسلمة في الصين، وهي الأكبر بين القوميات المسلمة الصينية، حسب تقديرات الحكومة الصينية.
 وقد عُرِف عن أبيه الصلاح والتقوى؛ فقد حَرَص منذ نعومة أظفاره على تعليم "وانغ جينغ تشاي" wáng jìngzhāi  العلوم الدينية واللغة العربية، فعندما بلغ الـ(8) من عمره ألحقه والده بما يعرف في الصين بـ"التعليم المسجدي"، والذي كان له دور كبير في تخريج الآلاف من علماء مسلمي الصين، والذي بدأ مع نهايات عهد أسرة مينغ  míng cháo (1368م إلى 1644)، وأسسه الأستاذ الكبير "هو دنغتشو"Hú Dēngzhōu ، والذي يُعد المؤسس الرئيس للتعليم المسجدي في الصين.

 

وقد تتلمذ العالم المسلم "وانغ جينغ تشاي" على يد أساتذة مشاهير منهم "لي تشانغ جوي" Li Zhanggui، و"ما يو لين" Ma yulin، و" يو تشي تشنغ"Yu Zhicheng ، و"جين ليان رونغ" Jīn liánróng، و"ليو شو كوي" Liu Xukui، و"خاي شي فو" Hai sifu، وغيرهم من العلماء المسلمين الصينيين، الذين كان لهم دور كبير في تعليم وتأسيس "وانغ جينغ تشاي" وزيادة وعيه المعرفي حتى بلوغ الـ(26) من عمره ليتخرج من التعليم المسجدي عالمًا مسلمًا بارعًا في علوم القرآن الكريم، والسُّنَّة المطهرة، والفقه، بالإضافة إلى علم الكلام، كما كان متقنًا للغتين الفارسية والعربية.

وبسبب نبوغه وتفوقه العلمي استطاع أن يشغل عددًا من المناصب في أكثر من (10) مساجد بعدد من المقاطعات الصينية منها: بكين Beijing، وخبي Hebei، ولياونينج Liaoning، وتيانجين Tianjin، وشاندونغ Shandong، وتايبي Taibei ، وغيرها من المدن الصينية.

الأزهر الشريف وتأثيره على "وانغ جينغ تشاي":

لم يكن الأزهر الشريف في يوم من الأيام بعيدًا عن أبناء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وكان له التأثير الأكبر على تشكيل فكرهم الوسطي، وفتح أروقته لطلبة العلم من كل مكان، ومِن بين طلابه أبناء بلاد الصين، والتي كانت تُعرف لدى العالم العربي والإسلامي ببُعدها المكاني، حتى أصبحت مضربًا للأمثال في وقت لم تنتشر فيه وسائل الاتصال والمواصلات الحديثة، غير أن ذلك لم يمنع العالم "وانغ جينغ تشاي" من السعي وراء طلب العلم؛ فقد زار "مصر" حيث كانت محط رحال طلاب العلم، وكان الأزهر الشريف وجهتَه التي احتضنت الملايين من طلاب العلم.

وعلى الرغم من أن العالم المسلم "وانغ جينغ تشاي" لم يكن من أول البعثات المسجلة إلى الأزهر الشريف غير أنه كان له دور كبير في فتح أولى خطوات البعثات الصينية الرسمية إلى الأزهر.

 وقد كان العالم المسلم الصيني "وانغ جينغ تشاي" سَبَّاقًا إلى العلم والتعلم؛ فقد كان ممن اختار أن يبدأ رحلته إلى العالم الإسلامي في عمر الثالثة والأربعين حيثُ زار مصر، وتعلم في الأزهر الشريف ما بين عامي 1922 و1923، واستطاع رغم قصر المدة التي قضاها في مصر بصحبة أخيه "ما خون داو" Ma Hongdao أن يكون مسئولًا عن الطلاب الصينين الوافدين إلى مصر، حيث استطاع أن يمهد الطريق إلى فتح العلاقات العلمية والثقافية بين الأزهر الشريف وبلاد الصين.
 وفي مصر أتقن "تشاي" اللغة العربية، واطّلع على أمهات الكتب الإسلامية، والتي ساعدته بعد ذلك في عملية فَهم وترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الصينية.

والمعروف أن سجلات التاريخ القديمة لم تسجِّل لنا قوائمَ الأسماء مفصلةً للطلاب الصينيين القادمين إلى مصر للدراسة في الأزهر الشريف، فقد كان الأزهر مَحَطَّ الرِّحال لطُلاب العلم من كل أنحاء العالم، ومنهم من اختار البقاء في مصر، ليكون أحدَ علماء الأزهر الشريف، ومنهم من عاد إلى وطنه ليَحمِلَ وسطيةَ الأزهر الشريف بفكره ومنهجه.
ولم تُعرف الرحلات المنظمة أو الابتعاث المسجل إلا في بداية القرن الـ(20)، حيث أُرْسِلَتْ أولُ دُفعة من الطُلاب الوافدين الصينيين إلى مصر عام 1931، ووصولًا إلى عام 1938 أُرسِلَتْ آخرُ دُفعة من الطلاب الوافدين إلى مصر، وخلالَ هذه السنوات السبع، أُرسل إجمالًا (33) طالبًا، على (5) دفعات.

وقد تمتع طلاب هذه الدفعات الكُثر بطموح كبير، وجدٍّ واجتهاد في الدراسة، ومنهم من نال شهرة واسعة مثل الأستاذ العالم المسلم الصيني "محمد مكين" Ma jian الذي ترجم معاني القرآن الكريم فيما بعد إلى اللغة الصينية، كما كان له دورٌ كبير في إثراء الثقافة الصينية بالعلوم العربية والدينية وذلك بعد انتهاء دراسته والعودة إلى موطنه، كما كان لهم دورٌ كبير في تحفيز التبادل الثقافي بين العالم الإسلامي وبلاد الصين.

وبعد أن أمضى حياته في خدمة دينه، استطاع العالم المسلم الصيني "وانغ جينغ تشاي" أن يضع اسمه بين كبار علماء المسلمين الصينيين الذين أثَّروا في تاريخ حياة المسلمين الصينيين، ليس فقط لأنه تمكَّن من ترجمة معاني القرآن الكريم كاملة ليكون أول من ترجم معاني القرآن كاملةً، بل لأنه استطاع أن يترك خلفه عددًا من الكتب المؤلفة والمترجمة التي كانت ذُخرًا للمكتبة العربية الصينية، وباعثًا على التبادل الثقافي والعلمي بين الثقافتين العربية والصينية.

اشتهر "وانغ جينغ تشاي" عند المسلمين الصينيين بأنه "مُعَلِّم التفسير والعلوم الإسلامية بالصين المعاصرة"، فلديه العديد من المؤلفات منها "قاموس آسيا الوسطى"، و"قاموس تفسير اللغة العربية والصينية"، و"تاريخ الثقافة الإسلامية الصينية المعاصرة"، ومذكراته عن "زيارة الديار المقدسة".

 

 

ترجمة معاني القرآن الكريم:

 تُعَدُّ ترجمة "وانغ جينغ تشاي" لمعاني القرآن الكريم هي أكبر إنجازاته، بسبب أنها المرة الأولى التي يستطيع مسلم صيني أن يترجم معاني القرآن الكريم كاملًا، والتي كرَّس لها (20) عامًا من عمره بدأها عام 1914، وقد ترجم معاني القرآن الكريم عدة مرات، لكنها لم تَنَلْ استحسانه، حتى استطاع أخيرًا إصدار (3) طبعات من ترجمته: (أ، ب، ج) في أعوام: (1932، 1943، 1946) ميلاديةً على التوالي، وقد تَرجم معاني آيات القرآن الكريم فيها، لتصبح موضع ثقة وترحيب من قِبل المسلمين في الداخل والخارج.

والمعروف أن ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الصينية اقتصرت على ترجمة آيات محدودة، ولقد مرَّت هذه التراجم بمراحل متعددة، تمثّلت في: بداية دخول الإسلام إلى بلاد الصين، وتراجم لبعض الآيات القرآنية، إلى أن وصل إلى الترجمة الكاملة لمعاني القرآن الكريم.

وقد تطورت هذه التراجم تاريخيًّا مع الحاجة إليها، فمع بداية دخول الإسلام الصين كان المسلمون الصينيون يعتمدون في فَهم أمور دينهم على الشروح الشفوية في المساجد وداخل بيوتهم، ولم تكن في ذلك الوقت قد بدأت ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الصينية إلا في تفاسير يسيرة لبعض آياته الكريمة، بسبب عدم انتشار الإسلام بشكل واسع بين أبناء الصين، وترجع أسباب تأخُّر ظهور ترجمة معاني القرآن الكريم في القرون الأولى للإسلام في الصين إلى سببين:

الأول: أنّ العلماء المسلمين الصينيين في ذلك الوقت لم يُجيدوا تعلُّم اللغة العربية، واكتفوا بالثقافة الإسلامية الواردة إليهم، وحتى ذلك الوقت لم يكن عدد المسلمين يشكل الحاجة الكبرى لحركة ترجمة كبيرة.

الثاني: خشية المسلمين الصينيين من أن يُضيِّعوا كثيرًا من معانيه إذا قاموا بترجمته إلى اللغة الصينية بسبب أنَّ القرآن الكريم نَزل باللغة العربية، وهي لغة واسعة المعاني، في وقت لم يظهر فيه علماء صينيون متخصصون في العلوم الدينية، لديهم الجرأة للعمل على ترجمة وتفسير معاني القرآن الكريم إلى اللغة الصينية.

ومنذ رحلته لطلب العلم، كان العالِم المسلم الصيني "وانغ جينغ تشاي" كثيرَ التنقل، طالبًا للعلم، فقد استغل تأدية مناسك الحج وذهب للقاهرة للدراسة بالأزهر الشريف، كما لم ينفصل العالِم المسلم عن وطنه ومجتمعه؛ فقد عاش فترةً عصيبة في تاريخ وطنه، كان له فيها دورٌ بارزٌ بين أبناء وطنه؛ فقد شجَّع مسلمي الصين على المساهمة في كل الأحداث الصينية والوطنية.

وفي 25 مايو سنة 1949، وبعد حياة مليئة بالإنجازات والدفاع عن دينه وخدمة وطنه، حلّ بهذا العالم الجليل مرضُ الموت أثناء زيارته لمدينة "قوييانغ Guìyáng"، ليموت فيها، ويُدفن في مقابر المسلمين في ضواحي المدينة.

وحدة الرصد باللغة الصينية

طباعة