مسْجِد نِيُوجِيه.. قراءة في تاريخ مسلمي بكين

  • | الأربعاء, 1 سبتمبر, 2021
مسْجِد نِيُوجِيه.. قراءة في تاريخ مسلمي بكين

 

تظل العمارة هي الطريقة الأفضل لقراءة تاريخ المدُن والشعوب، ومسجد نِيُوجِيهNiú jiē  أو مسجد "البقرة" كما يُعرف في الصين، لا يُعَدُّ واحدًا من أهم مزارات بكين الثقافية والإسلامية فحسب، بل شاهدًا على تاريخ مسلمي بكين، الذين استطاعوا على مدار قرون أن يسطروا وجودًا قويا لهم في الصين. ويسعى مرصد الأزهر دومًا لإيصال الصورة الحقيقية لتاريخ مسلمي العالم، وبيان نموذج التعايش السلمي بين القوميات الصينية على وجه الخصوص، لذا تعرض وَحدة الرصد باللغة الصينية صورة وقراءة تاريخية لأحد أهم وأعرق مساجد الصين "نِيُوجِيه" الذي كان شاهدًا على الكثير من الأحداث.

وقد ظل نور الإسلام ينطلق إلى ربوع الدنيا ليوحِّد البشرية على كلمة التوحيد على مدار 1400 عام، ولم يكن حِكْرًا على شعب أو قومية، وهذا ما فهمه المسلمون الأوائل لينشروا رسالة الإسلام، ومن أقصى بقاع الأرض -الصين- استقبلت بشائر الرسالة الإسلامية على أيدي رسل الخليفة الراشد عثمان بن عفان في عهد الإمبراطور الصيني غَاوزٌونْغ Gāo zōng (649-683م)، والذي استقبل أول مبعوثٍ من الخليفة، ومُنذ ذلك الوقت وثَّقت السجلات التاريخية الصينية أول اتصال بين المسلمين والإمبراطورية الصينية. وبالرغم من وجود العاصمة الصينية في ذلك الوقت في أقصى شرق الصين وتحديدًا في مدينة "شِيآن" Xī'ān، إلا أن التأثير الإسلامي امتد إلى ناحية الغرب، وخاصة عندما اختارت أسرة يُوان الصينية cháo  Yuán (1271 – 1368) مدينة بكين عاصمة لها؛ ليشهد الوجود الإسلامي -في الصين عامة وفي بكين خاصة- نشاطًا ملحوظًا، وخاصة بعد الهجرات القادمة من بلاد فارس وغيرها من مدن العالم الإسلامي.

تاريخ بكين والعصر الإسلامي

الصين من الدول العريقة التي تملك تاريخًا طويلًا ومساحة شاسعة، وعلى مدار هذا التاريخ بُنيت العديد من العواصم التي أُطلق عليها تاريخيًّا العواصم الثماني القديمة في الصين، وكان أشهرها "شِيآن Xī'ān، وبِكين Běijīng، و نَانْجِينْغ Nánjīng، و لُويَانْغ Luòyáng"، وذلك قبل توحيد الصين الحديثة عام 1949، والتي استقرت على أن تكون "بكين" هي العاصمة الحديثة للصين.

تتمتع "بكين" العاصمة الحالية للصين بتاريخ طويل يعود لأكثر من (3000) عام، وبالرغم من ذلك ظلت طوال تاريخها واحدة من أهم المدن في شمال الصين، واتخذتها العديد من الأسر الحاكمة للصين عاصمة لها، وفي العصور التي عَرَفَت فيها الصين الإسلام كان لها النصيب الأكبر والحظ الأوفر بحكم موقعها المتميز في غرب الصين؛ لذلك اتخذتها العديد من الأسر الإمبراطورية عاصمة لها، ومن أهم هذه الأسر التي نشط في عهدها الإسلام في بلاد الصين بشكل عام وفي مدينة بكين بشكل خاص، أسرة "يُوان"cháo  Yuán  (1279–1368).

 كما اتخذتها أسرة مِينْغ Míngcháo (1368 - 1644م) عاصمة للحكم في الصين في عهد الإمبراطور "تشُو دِي" zhūdì (1360- 1424م)، وقد ساعد في بناء أسوار مدينة بكين وخنادقها وقصورها على نطاق واسع. وفي أواخر عهد أسرة مِينْغ، نهضت قومية مان (المَانتشُو) Mǎnzú في شمال شرق الصين، وأسست أسرة تشِينْغ Qīngcháo (1644 - 1911م)، واتخذت بكين عاصمة لها، بالإضافة إلى عهد جمهورية الصين (1912-1928)، وحتى بعد إعلان جمهورية الصين الشعبية الحالية.

 

شارع ومَسْجِد نِيُوجِيه

 للمسجد منذ فجر الإسلام أدوار متعددة، أهمها الدور التعليمي والدعوي، وفي الصين حَرَص المسلمون الأوائل على بناء المساجد في كل مكان يعيشون فيه، واتخذوا منها دُورًا للعبادة ومكانًا لتعليم الإسلام، فنشأ ما عُرف بعد ذلك بـ"التعليم المسجدي"، والذي كان له دور هام في إعداد وتنشئة أجيالٍ من العلماء المسلمين الصينيين، ولتقديس المسلمين لمكانة المسجد في قلوبهم أُطلق على المسجد في اللغة الصينية "محلُّ الطهارة والنقاء". وتميزت المساجد في الصين بعمارتها الفريدة التي امتزج فيها التاريخ والفن الصيني، كما ظهر بعد ذلك امتزاج بين العمارة العربية والصينية، وبخلاف كافة المساجد في العالم حرصت النماذج الصينية في البناء على وجود الحدائق والأشجار داخل المسجد والتي يمتد إليها الحسُّ الجمالي.

ويُعد مسجد "نِيُوجِيه" أكبر المساجد في شمالي الصين وأعرقها، وذلك بالرغم من كثرة الآثار والمساجد التاريخية في الصين والعاصمة بكين، يقع المسجد في أشهر شوارع بكين وهو شارع نيوجيه، والذي يتميز بالتنوع العرقي، فيقطنه أبناء العديد من القوميات الصينية المختلفة أمثال قوميات هُوِي Huī ، و هَان Hán ، ومنغُوليا  Ménggǔ، والإيغور"Wéiwú ، لكن يفضل العديد من مسلمي قومية "هُوِي" العيش في هذه المنطقة حيثُ يمثلون 23% من إجمالي عدد سكان شارع نيوجيه -حسب التقارير الحكومية الصينية. ويتميزون بالتعايش مع باقي أبناء القوميات بسلام ووئام، كما تمتاز المنطقة بعراقتها وتاريخها الطويل، يظهر ذلك في تاريخ بناء مسجد نِيُوجِيه الواقع في هذا الشارع قبل أكثر من ألف عام، ويتفاخر به المسلمون الصينيون، فبحسب السجلات التاريخية هو المسجد الأقدم في بكين فقد تم بناؤه عام 996م.

وبالرغم من عدم التأكد من منشأ المسجد إلا إن بعض الروايات ترجع إلى مسلم عربي يُدعى الشيخ "قوام الدين"، الذي جاء إلى بلاد الصين، بصحبة أبنائه الثلاثة، وفور وصولهم إلى بكين تفرقوا في بلاد الصين لينشروا الإسلام. ويرجع تسمية الشارع بهذا الاسم إلى حرص المسلمين على الطعام الحلال، وأكثره من لحوم البقر، بالإضافة إلى زراعة الرُمَّان بكثرة في الشارع وتشابه نطق الكلمتين باللغة الصينية (الرمان -البقر)، واشتُهر بين الصينيين بشارع البقر، ليتحول مع مرور الزمن إلى أكبر تجمع إسلامي في العاصمة الصينية بكين، ليشتهر بالعديد من المتاجر والمطاعم ذات الخصائص القومية والإسلامية. وفي العصر الحديث بدأت الحكومة الصينية حملة ضخمة لإصلاح وترميم منطقة نيوجيه السكنية.

وبالرغم من مساحة المسجد الصغيرة في بداية بنائه، سرعان ما بدأت مساحة المسجد في التوسع في عهد أسرتي مِينْغ Míngcháo (1368-1644) وتشِينْغ   Qīngcháo  (1368-1911م)، ويرجع محافظة حكام الصين على العناية بالمسجد، لإظهار حرص الإمبراطوريات المتلاحقة احترامها للإسلام، وقد نقلت السجلات التاريخية أن المسجد قد تم ترميمه سنة 1696م على حساب البلاط الإمبراطوري ووضع عليه لوحًا مكتوبًا عليه "دار الصلاة الإمبراطورية"، كعهد مساجد الصين في ذلك الوقت التي التزمت بالطراز الصيني في العمارة، كما ظهرت عليها ملامح وصفات العمارة الإسلامية من الآيات القرآنية والتسابيح الإلهية والمدائح النبوية، وبداخل المسجد مرقدان  للشيخ أحمد البرتاني المتوفى سنة 1280م والشيخ عماد الدين المتوفى سنة 1283م، وهما من المسلمين العرب الذين جاءوا إلى الصين في وقت مبكر لنشر الإسلام.

أخلاق مسلمي بكين والعهدة الإمبراطورية

اعتمد المسلمون في وقت مبكر على الدعاية الإيجابية لنشر الإسلام، فتميزت أخلاقهم بالسمو والأمانة مما دفع العديد إلى الإعجاب بمبادئ الإسلام، ولقيت هذه الأخلاق الترحيب بين أبناء الصين. وكان لمسجد نيوجيه دور في تثبيت هذه السمعة لدى المسلمين، فأناروا المساجد ليلاً وأقاموا الدروس الدينية وفتحوا مساجدهم للعامة، مما حمل الحاقدين على الإسلام في عام 1694م اتهام المسلمين بمحاولة التمرد على الإمبراطور كَانْغْشِي (1654-1722) kangxi رابع إمبراطور من أسرة تشِينْغ، مما جعل الإمبراطور يذهب ليلاً لمسجد نِيُوجِيه وذلك بعد وشاية أحد الضباط المسئولين عن المنطقة بالمسلمين عند الإمبراطور "كَانْغْشِي"، متهمًا إياهم بمحاولة التمرد على الإمبراطور، فاصطحب الإمبراطور وزيره المقرب "نِيو شي" والمعلم الكبير "وَانْغْشٍي" Wang Shi ليتحقق بنفسه من هذه الإشاعة، وقاموا بتبديل ملابسهم الرسمية بملابس المسلمين، ولبسوا العمائم البيضاء التي كانت تميز المسلمين في ذلك الوقت، وتوجهوا مباشرة إلى مسجد نِيُوجِيه ليكتشف الإمبراطور بنفسه كذب هذه الوشاية، بعدما جلس بين المسلمين وسمع بنفسه الدروس الدينية التي تحث على اتباع الرسول ﷺ وإقامة الصلاة. وما أدهش الإمبراطور ورفاقه هو سماحة المسلمين وكرمهم، عندما مروا في الطريق بأحد مطاعم المسلمين، وادعوا عدم امتلاكهم للمال اختبارًا لسماحة الإسلام، فرأوا بأنفسهم كرم المسلمين وإطعامهم الطعام دون مقابل.

وتسجل الوثائق التاريخية الصينية ما عُرف "بالعهدة الإمبراطورية" لمسلمي الصين في الشهر السادس من السنة الثلاثة والثلاثين لعهد الإمبراطور " كَانْغْشِي " وهذا نصها: "أنا الحاكم المطلق لإمبراطورية تِشينْغ العظيمة، أُعلن لكم أنه بعد استعراض الأحداث الهامة في تاريخ قومية "هَان" وقومية "هُوي" المسلمة وجدت أن أبناء هَان وأبناء المسلمين مخلصين للبلاد، وملتزمين بعقائدهم السياسية والدينية الصحيحة. ولأسباب عديدة، نشأت في مجتمعنا عقائد فاسدة تشوش عقول الناس، وتخلق اضطرابات اجتماعية، وإني إذْ أعلن هنا أن البلاط قد تخلى عن قراره السابق في محاكمة المسئولين عن الاضطرابات الماضية، فإنني لن أسمح بارتكاب هذه الجرائم فيما بعد. إن الحكام والضباط من قومية "هَان" يؤدون واجبهم الإداري، ويطبقون أوامر الإمبراطور بجدية واجتهاد، ولكنهم يتسلمون الرواتب مقابل عملهم، بينما يؤدي المسلمون واجبهم الديني، ويصلون لله تعالى خمس مرات يوميًا، ولا يحصلون على راتب مقابل هذا، لكنهم مخلصون ومجتهدون كذلك، لذلك أعتقد أن أبناء المسلمين أفضل من أبناء هان في هذا الأمر.. ومن اليوم، إذا قام أي ضابط أو موظف حكومي بتلفيق التُهم ضد المسلمين انطلاقا من ضغائن شخصية، يجب على الحاكم المحلي أن يعدمه أولًا، ثم يرفع تقريرًا بشأنه إلى البلاط الحاكم. ومن جانب المسلمين عليهم أن يلتزموا بالمذاهب الإسلامية التزامًا دقيقًا، وألا يخالفوا قوانين الدولة في جميع تصرفاتهم، وهذه نصيحتي لهم".

وقد حرَص الإمبراطور على تقديم هدايا نفيسة إلى المسجد؛ منها لوحة كتب عليها الإمبراطور بخط يده: "المسجد المُشيَّد بأمر الإمبراطور"، وإلى اليوم لا يزال المسجد يحتفظ بالعهدة الإمبراطورية داخل المسجد. وبعد 1400 عام ما زال الوجود الإسلامي حاضرًا بقوة داخل مدينة بكين، وفي شارع البقرة يقف مسجد نِيُوجِيه، ليشهد على قوة الإسلام ومكانته، والتي استطاعت أن تخترق حصون المدن بقوة الحق التي لا تحتاج إلى سلاح أو عنف، ليشكل مجتمعًا إسلاميًا يحتفظ بثقافته مع تقاليد وثقافة الصين العريقة، وهو أكبر رد على جماعات العنف المسلح.

 وهو ما يرغب مرصد الأزهر في إبرازه كنموذج فريد، ذي يظل شاهدًا على قدرة الإسلام والمسلمين على التعايش السلمي بين العديد من القوميات والعرقيات والأديان المختلفة.

وَحدة رصد اللغة الصينية

 

طباعة