الفراغ الفكري.. مصيدة الإرهابيين!

  • | الأحد, 17 أكتوبر, 2021
الفراغ الفكري.. مصيدة الإرهابيين!

     لا يمكن مُدَاواة أية ظاهرة سيئة في المجتمع بعيدًا عن البحث والتحليل في جذورها التي انبثقت منها، ومن هذه الظواهر الإرهاب الذي ضرب المنطقة العربية في الأعوام الأخيرة، فمحاربة تلك الظاهرة ومواجهتها لا تكون بالآلة العسكرية فحسب؛ لأن الإرهاب من حيث النشأة هو فكرة، وبالتالي تكون مواجهته في المقام الأول مواجهة فكرية؛ إذ هي أنكى وأمرُّ من المواجهة العسكرية، وإذا كانت المنطقة العربية قد حققت بفضل الله عبر جيوشها النظامية الوطنية انتصارًا على التنظيمات الإرهابية، فإنه لا يمكن القضاء بشكل نهائي على الإرهاب بعيدًا عن اجتثاث الفكرة التي أنشأته، وقطع الطريق على الإرهابيين لاستقطاب مزيد من الشباب. 
لذا، علينا أن نتساءل ما السبيل الذي يمكن أن نجتث به شجرة الإرهاب ونحن الآن في مأمن نسبي منه؟ وبمعنى آخر من أين تنشأ فكرة الإرهاب حتى نقوم على اجتثاثها وقطع الطريق على الإرهابيين في استقطاب مزيد من الشباب؟
في نظرنا نرى أنه ما من شيء يجذب الشباب وغيرهم إلى تلك التنظيمات الإرهابية إلا الفراغ الفكري الذي أصبحنا نعاني منه في هذا العصر، فهو القنبلة الموقوتة التي يمكن أن تنفجر في أي وقت. 
ووفقا لدراسة نشرتها مجلة العلوم والبحوث الإسلامية بجامعة السودان للعلوم التكنولوجية، في العدد الثالث، أغسطس 2011 تحت عنوان: "الفراغ الفكري وخطورته على الشباب في ظل ثورة الاتصالات الحديثة" جاء فيها أن الفراغ الفكري يُقصد به "خلو العقل والفكر مما ينفع ويفيد"، وإذا دققنا النظر في أسباب هذا الفراغ وأردنا أن نعددها نجد أنها كثيرة بحيث لا يتسع المقام لذكرها جميعًا، فمنها انعدام الهدف، فالشخص الذي يعيش بلا هدف يكون صيدًا ثمينًا للإرهابين؛ إذ يقومون باستدراجه واستقطابه من خلال صناعة الأهداف التي لم يكن يحلم بها، ففي الدين نجد أن لسان حال الإرهابي يقول لمنعدم الهدف ستكون أداة لرفع الظلم ونشر العدالة في الأرض، وإذا مت فأنت شهيد تتنعم في الجنة، وبهذا الطريق يدخل الإرهابي لهؤلاء بما يضمن لهم حسن العاقبة في الدنيا والآخرة.
كما أن قلة القراءة وإن شئت فقل: انعدام القراءة -التي هي مستشفى العقول  كما عبرت الطفلة المبدعة مريم أمجون، الفائزة الأولى في مسابقة تحدي القراءة العربي- سبب من الأسباب الرئيسة في انتشار الفراغ الفكري، ومن ثم انتشار أفكار التطرف والإرهاب مع فراغ الساحة التي يقيم فيها الشباب، وامتلاك الإرهابيين أدوات تؤهلهم للدخول والسيطرة على عقول الشباب وإقناعهم أن ما يقومون به هو ما أمر به صحيح الدين، ولو أن كل واحد من الشباب المستقطَب قرأ كتابًا يناقش أفكار هؤلاء لاتضح له زيف ادعاءاتهم، إلا أن الواقع يحكي لنا مدى الجهل الذي يستغله الدواعش وأمثالهم في استقطاب الشباب؛ إذ ذكرت صحيفة "ديلي ميل" البريطانية خبرًا بعنوان: "استمارات تجنيد داعش تُظهر أن 70% من مقاتلي التنظيم لا يكادون يعرفون شيئًا عن الإسلام".
ويُرجع بعض المتخصصين السبب في هذا الفراغ إلى الثورة التكنولوجية المتسارعة ومواقع التواصل الاجتماعي، لا سيما  فيسبوك، إذ أصبح هو المرجع الفكري لدى كثير من الشباب الذين يستقون منه مصادر معلوماتهم، دون وجود إمكانية للتثبت من صحة هذه المعلومات، وقد كشفت دراسة أجرتها جامعة نيويورك في الفترة من أغسطس 2020م إلى يناير 2021م أن الأخبار الزائفة على فيسبوك حصدت متابعات أكبر ست مرات من الأخبار الحقيقية.
ومن العجيب أن هذا موجود في دول تُعد من الدول المتقدمة، ففي أزمة جائحة كورونا قام فيسبوك بحذف أكثر من (300) حساب على شبكتي "الفيسبوك" و"الانستغرام"، لترويجها معلومات مضللة عن لقاحات "كوفيد 19"، من هذه المعلومات المضللة القول بأن اللقاح يحول آخذه لقرد، وذلك ما أكده موقع CNET التقني؛ إذ ذكر أن فيسبوك قد حذف أيضًا على موقعه أكثر من مليون منشور بالإضافة إلى ملايين أخرى من المنشورات على موقعه "انستغرام" لخطورة المعلومات التي تتضمنها مثل هذه المنشورات وتأثيرها على المستخدمين الآخرين.
ومثل هذا الميدان بهذه الصفة لا يتركه الإرهابيون دون استغلال، ومن ثم فقد استعملوه بخبث ومكر شديدين للترويج لأفكارهم الهدامة للإسلام والمجتمعات، وهو ما أشار إليه المرصد في إصداراته المختلفة لا سيما الإصدار المسمى بـ "التطرُّف الإلكتروني.. الأسباب والمظاهر وسبل المواجهة"، والإصدار المسمى بـ "الـعـائـــدون مــن داعــــش" والذي أشار إلى أنه وفقًا لدراسة أعدها معهد "بروكينجز"، فإن هناك أكثر من (46) ألف حساب لداعش على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر" وحده، كما أن هناك العديد من الإحصاءات الأخرى التي تؤكد أن شبكات التواصل الاجتماعي هي الساحة الفكرية المسؤولة عن تجنيد نحو 80% من عناصر الجماعات المتطرفة.    
كما أن عدم قيام الأسرة بواجبها كما ينبغي من احتواء للصغار وتربيتهم وتنشئتهم تنشئة صحيحة، تفتقر إلى الضوابط الواجبة في ذلك، واعتمادهم على أساليب غير تربوية  كالقسوة، والتسلط، والتمييز في المعاملة بين الأبناء، والصد في المناقشة والتحاور أو منعهما بالأساس، سبب في تفشي آفة الفراغ الفكري.
ولا شك أن مما يترتب على حالة الفراغ الفكري بناء على ما ذُكر عدم القدرة على المشاركة الإيجابية في صنع القرارات وحل المشكلات التي قد تواجه من يعاني من هذا الفراغ، وبالتالي ينتج عن ذلك كله فشل وانعدام التطوير والابتكار.
وليست النماذج -التي تدل على أن هذا الفراغ هو سبيل داعش وغيرها في الاستقطاب- عنا ببعيدة، فكم سمعنا من أحدهم أنه كان لا يشغله أن يبحث عن الفكر بأدواته واستشارة العلماء المعترف بهم في ما يثيره هؤلاء المجرمون من شبهات، بل يُجذب جذبًا كالمسحور إلى ما يقدمه إعلام "داعش" من أكاذيب عن دولتهم المزعومة وإقامتهم الحق فيها دون سواهم، وبعد الانضمام يُلزم التنظيم من انضم إليه بالسماع منه وحده باعتبار أنهم هم الصادقون، كما يلزمهم بالأخذ عمن جعلوهم علماء وفقهاء، وهو ما أكد عليه أحد النادمين عن انضمامه لداعش -وهو «مارتن ليمكي» البالغ من العمر (28) وقد تم اعتقاله من قبل "قوات سوريا الديمقراطية" بتاريخ  13/1/2019م- في إحدى فيديوهات التي نشرها المرصد في حملة بعنوان: «أكاذيب داعش» وذلك بالتعاون مع مركز «صواب».
وإذا أردنا أن نعرض هذا الفراغ على ميزان الشريعة الإسلامية الغراء؛ فسنجد أنها قطعت الطريق على كل ما يجلب الفراغ الفكري، ومن هذا أمرها باستثمار الوقت فيما ينفع، ووصفها عدم الإتيان بذلك بالغبن [الخسارة والضياع نتيجة الخداع]؛ إذ الوقت هو السبيل والأداة في تحصيل العلم ومن ثم تكوين فكر سليم حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ»، وفي هذا يقول المُناوي -وهو بصدد شرح هذا الحديث-: "من الفراغ تكون الصَّبْوَةُ [الميل إلى الجهل والفتوة]، ومن أمضى يومه في غير حق قضاه أو فرض أدَّاه أو مجد أثَّله أو حمد حصَّله أو خير أسسه أو علم اقتبسه؛ فقد عق يومه وظلم نفسه. قال:
                   "لقد هاج الفراغ عليك شغلًا . . . وأسباب البلاء من الفراغ".
ونزيد على هذا بذكر ما نبَّه عليه الإمام الشافعي وغيره؛ من أن النفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، كما أن الشريعة أيضًا في سبيل الخروج من هذا الفراغ أمرت بالتعلم والقراءة، وهذا ما دل عليه منطوق بيان الله في أول آية نزلت منه حيث قال تعالى: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ}؛ فالمقصد من هذا كله محاربة الجهل وما ينتج عنه من خواء فكري يضر بالإنسان ومجتمعه في جميع النواحي، كما أن الشريعة في كثير من نصوصها تشير إلى أهداف وغايات من تشريعاتها، وكأنها ترشد المسلم إلى وضع أهداف وغايات على المدى القريب والبعيد في الدنيا والآخرة، مع الله والناس وهكذا، وفي هذا يقول ابن القيم: "العامة تقول قيمة كل امرئ ما يحسن، والخاصة تقول قيمة كل امرئ ما يطلب".
ونري أن سبيل العلاج والخروج من هذا يبدأ بالأسرة؛ إذ هي المؤثر في النشأة في المقام الأول وذلك بتربية أبنائها على وضع الأهداف، والحضّ على القراءة والتثقف بمختلف الجوانب العلوم، وليتعلموا من النماذج التي حصلت على جائزة "تحدي القراءة العربي"، كما أن عليهم أن يناقشوا الأبناء بطريقة راقية فيما يُستشكل عليهم من أمور، لا سيما ما يثيره أهل التطرف والإرهاب من شبهات، كما يجب على الأسرة مراقبة جوال الأبناء ونصحهم بعدم المكوث عليه طَوال الوقت، لا سيما إذا كان الأبناء صغارًا في السن، كما أن على الجهات التي تشارك الأسرة في التربية التنبه لتلك المشكلة وعلاجها؛ فعلى الخطيب أن يراعي تكوين الفكر عند مستمعيه وإيصاله بالشكل المناسب لجميع الفئات الكبار والصغار، ولا يثير شبهة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة إلا ويرد عليها إن كان أهلًا لذلك، لا سيما شبهات المتطرفين والإرهابيين، ونرى زيادة على هذا أن يقوم الأئمة والوعاظ في المساجد وكذا المدرسة والجامعة بعقد جلسة أسبوعية لمحو الفراغ الفكري لدى الصغار أو الشباب، ويجب أن يكونوا مؤهلين لذلك، وأن يستعان في هذا بالنخبة التي تتهم بمثل هذا لا سيما المشهور منهم.
وفيما يخص الإعلام فمن واجب العصر عليه الآن سواء في البرامج أو الأعمال الدرامية (الأفلام أو المسلسلات) أن يتنبه لمشكلة الفراغ الفكري ومعالجتها مستعينًا في هذا برُوَّاد الفكر في شتى التخصصات، وبالكُتَّاب والروائيين المنشغلين بهموم المجتمع وعلاجها. 
ونختم بالإشارة إلى أن المرصد باعتباره جهة تقوم على مناهضة الفكر المتطرف؛ فإن من أنشطته إلقاء المحاضرات -لطلاب الجامعات- التي من شأنها معالجة الفراغ الفكري، لا سيما المؤدي إلى اعتناق أفكار التطرف والإرهاب، ويقوم على إلقاء هذه المحاضرات نخبة من الأساتذة المتخصصين.
 

طباعة