قراءة في جرائم استهداف المساجد في النيجر

  • | الإثنين, 18 أكتوبر, 2021
قراءة في جرائم استهداف المساجد في النيجر

   طالعتنا المواقع الإخبارية بجريمة استهداف بعض مساجد الصوفية في النيجر من قِبل عناصر تنظيم «داعش»، لذا كان من الضروري إلقاء الضوء على تلك الظاهرة التي لا تزال تتكرر في الدول الإسلامية ومنها دولة النيجر.

قبل بدء التحقيق في قضية استهداف التنظيمات الإرهابية ومن بينها تنظيم داعش في الآونة الأخيرة للمساجد في عدد من البلدان الإسلامية، فإن هناك حقائق عقائدية تكشفت وتنبع من أصول متطرفة في الرأي والتأويل، مستندة إلى أقوال ونصوص تُستخدم في غير موقعها، تستهدف النشء المسلم، لاستقطابه وحثه على القيام بأعمال إرهابية تجاه مواقع دينية وأمنية، حيث اتضح أن سعي التنظيمات المتطرفة ليس جهادًا في سبيل نشر الدعوة أو تطبيق الشرع أو تغيير المنكر، بل إن الهدف الحقيقي من سعيهم هو استهداف المساجد، وترويع الآمنين، وقتل رجال الأمن الذين يعتبرونهم من وجهة نظرهم منافقين ومرتدين.

إن التكفير هو الأصل الفكري الذي تعتمد عليه كل التنظيمات المتطرفة منذ عصر الخوارج وحتى اليوم، ويتمخض عن هذا الأصل الفكري المتطرف ما نراه من تفجيرات واغتيالات واستهداف لكل مخالف في الفكر والمعتقد، وهذا الفكر المتطرف الشاذ وجده تنظيم داعش سبيلًا لتغليف مطامعه السياسية بغلاف من الشرع، فاستهداف المساجد أحد أيديولوجيات «داعش» للوصول إلى حلم دولة الخلافة المزعومة، ونذكر أنه في أكتوبر عام 2016م أصدر تنظيم «داعش» الإرهابي بيانًا أعلن فيه وضع المنتمين للطرق الصوفية على قائمة الاغتيالات لعدم الالتزام بشروط التنظيم التي تتمثل في عدم ممارسة شعائر الصوفية مثل: الموالد، وحلقات الذكر، ورفع أسماء الطرق الصوفية من على أبواب المساجد.

وإذا تحدثنا عن الصوفية في إفريقيا، فإننا نتحدث عن أصحاب دعوة متكاملة كانت تعتمد على جهودها الذاتية، ولم يكن أهلها يتلقون أي دعم من أي نوع أو من أية جهة رسمية، واستطاع علماء الصوفية بإمكاناتهم المتواضعة أن ينشروا الإسلام في ربوع إفريقيا، وقد اتبعوا في دعوتهم للإسلام نظام الخلوة القرآنية، أي ما يعرف في العالم العربي بالكتاتيب؛ حيث أقنعوا الأهالي بإرسال أولادهم من الجنسين إلى هذه المدارس الصغيرة التي تُبنى من العيدان والأخشاب، ثم بعد أن يكمل الطفل القرآن يبدأ في تلقي الدروس العلمية المبسطة في العلوم الشرعية واللغة العربية، وبعدها يكون داعية يرشد الناس إلى أمور دينهم. وقد اتبع الصوفية إلى جانب ذلك نظام الطرق المعروفة؛ حيث ينتظم المريدون في سلك إحدى الطرق، يتلقون التربية الروحية المستقاة من أهل الصوفية القدماء، ويفتح المريد عينيه على بحر واسع من العلوم الشرعية والروحية.  وهذه الطرق هي التي حفظت للمسلمين في إفريقيا هويتهم الدينية، وبسببها لم تتمكن قوى الشر من النجاح في مخططاتها للنيل من القارة التي تسكنها.

الصوفية في النيجر: من المعلوم أن انتشار الإسلام وثقافته في دول غرب إفريقيا كان بفضل جهود الزوايا الصوفية، ومعلوم أن الصوفية تشكل ركيزة أساسية لنشر الثقافة الإسلامية الصحيحة المبنية على الكتاب والسنة وأعمال السلف الصالح، وقد بدأ الفكر الصوفي في غرب إفريقيا مع توسع إمبراطورية سونغاي (1375-1591) ومؤسسها أسكيا شيخ محمد، ذلك الرجل الصوفي الذي تنازل عن ملكه لابنه كي يتفرغ لحياة الزهد والتصوف، كما انتشر الإسلام أيضًا عن طريق تأثير التجارة عبر الصحراء في شمال وغرب إفريقيا.

وجد الفكر الصوفي سبيله للانتشار في النيجر عندما تأثر شعب الهوسا والزرما بالنزعة الصوفية بقيادة "الفولا" في القرن العشرين، كما انتشرت الطريقة "التيجانية" عن طريق هجرات دعوية لشيخها ومؤسسها الشيخ إبراهيم نياس، "صاحب الفيضة" كما يلقبه أبناء الطريقة التيجانية في غرب إفريقيا، وأيضًا الطريقة "الختمية" لشيخها محمد عثمان الميرغني، وهناك الطريقة "القادرية"، و"السانوسية" وغيرها من الطرق.

ومن معالم الحقبة التاريخية التي تمر بها منطقة غرب إفريقيا في الوقت الراهن محاولة أعداء الصوفية تجنيد الرأي العام العالمي ضد التصوف الإسلامي، ذلك لأنهم يرون في التصوف العدو اللدود الذي يقف حجر عثرة أمام تحقيق مطامعهم، فأتباع الطرق الصوفية في النيجر لهم عناية خاصة بتحقيق التآخي والتكافل بين أفراد المجتمع النيجري المسلم، فليس صوفيًّا على الحقيقة من يرى نفسه أعلى من بني جنسه، بل من لوازم النظرة الصوفية أن البشر جميعًا إخوة يجب عليهم أن يتعاونوا، لأن الأخوة بين الأفراد المقبلين على الله تعالى وتبادل التآزر والتناصح والتضامن فيما بينهم دافع مهم في ابتغاء القرب من الله جل شأنه. وقد أثر هذا الفهم السامي لمعنى الأخوة في علاقة الصوفية بغيرهم من المواطنين النيجريين، مما جعلهم محل تقدير وثناء واقتداء. 

أحداث استهداف المساجد التابعة لأهل التصوف في النيجر: من الأحداث الدموية المؤسفة التي تعرض لها أهل التصوف بالنيجر الهجوم الإرهابي الخسيس على مسجد في منطقة "تيلابيري" الواقعة في منطقة المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، والذي أسفر عن مقتل 10 أشخاص إثر هجوم نفذه عناصر من داعش مساء يوم الاثنين الموافق 11/10/2021م، حيث ذكر مسؤول في مدينة بانيبانجو أن المهاجمين وصلوا على دراجات نارية خلال صلاة العشاء، وأن الضحايا كانوا في المسجد عندما قُتلوا، جدير بالذكر أن التقارير تشير إلى مقتل ما يقرب من 450 شخصًا حتى الآن إثر هجمات إرهابية وقعت غرب النيجر منذ بداية العام 2021م.

وقد سبق هذا الحادث هجوم آخر على أحد المساجد وقت صلاة العشاء أيضًا وفي المنطقة نفسها ما أسفر عن مقتل 19 شخصًا وجرح اثنين آخرين، ولعل السبب في اختيار هذا التوقيت كون أبناء الطرق الصوفية يقيمون حلقات الذكر بين المغرب والعشاء، وهو الأمر الذي تكفره التنظيمات الإرهابية الناشطة في تلك المنطقة المعروفة باسم "الحدود الثلاثة" بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، والمرتبطة أيديولوجيًّا إما بتنظيم «القاعدة» أو «داعش» في الصحراء الكبرى.

  ومرصد الأزهر لمكافحة التطرف إذ يدين هذه الجريمة النكراء، فإنه يؤكد على أن الإرهاب لا دين له، وأن الأديان السماوية كلها يسر وسماحة، وأن هؤلاء المغالين المتطرفين الكارهين لكل مخالف والمكفرين لكل من لا يعتنق أفكارهم يرون في التصوف عدوًّا لهم لما فيه من نشر لقيم التعايش وقبول الآخر والعمل على تقويم النفس والذات، كما يؤكد المرصد  على حرمة سفك الدماء وحرمة التعدي على دور العبادة وانتهاك قدسيتها بدعوى تكفير من فيها لفساد عقيدتهم أو لمخالفتهم إياهم في الفكر؛ الأمر الذي لا يقبله أي دين، وتنفر منه  الفطرة السوية.

وحدة الرصد باللغات الإفريقية

 

طباعة