سلسلة "علماء مسلمي الصين"

نا تشونغ Na Zhong (1909م-2008م)

  • | الخميس, 4 نوفمبر, 2021
سلسلة "علماء مسلمي الصين"

 تواصل وحدة اللغة الصينية بمرصد الأزهر العمل على التعريف بعلماء الإسلام في الصين، من خلال سلسلة "علماء مسلمي الصين"، وفي هذه الحلقة نضع بين أيدي القارئ سيرة رجل استطاع أن يضع اسمه بين أشهر العلماء في اللغة العربية والثقافة الإسلامية في تاريخ الصين المعاصر، فقد استطاع "نا تشونغ"  Na Zhong ابن قومية هِوي المسلمة أن يُسهم في تعزيز التبادلات الثقافية بين الصين والدول الإسلامية، ويضع لبنة مهمة في تعليم اللغة العربية للصينين.

سيرته وحياته:

لم يكن يتوقع أحد للطفل "نا تشونغ" Na Zhong المولود في عام 1909م أن يصير واحدًا من أكبر علماء الثقافة الإسلامية والعربية في الصين، لكن لم يمر الوقت حتى ظهر نبوغه وذكاؤه، فقد أبدى إرادة كبيرة في السعي إلى التعلم في مختلف المجالات، وقد بدأت حياة "نا تشونغ" في محافظة تونغهايTonghai  بجنوب غربي مقاطعة يوننان Yunnan، حيث ولد في قرية صغيرة تسمى ناجياينغ  Nàjiāyíng، وفور ولادته وكعادة مسلمي هِوي اختير للطفل "نا تشونغ" اسمًا إسلاميًّا، وهو عبد الرحمن ليعرف باسم عبد الرحمن نا تشونغ.

كان لقريته التي ولد بها حظًّا وشهرة بسبب مقولة يرويها أبناء القرية؛ بأنهم أحفاد السيد الأجَلّ شمس الدين عمر(1211م-1279م)، حاكم إقليم يوننان المسلم خلال فترة حكم أسرة يوان (1271م- 1386م)، صاحب الإصلاحات الكبيرة في يوننان ويعود إليه الفضل في دخول الإسلام المقاطعة.

ويقطن إقليم يوننان مسلمو قومية هِوي ثاني أكبر قومية في الصين بعد قومية الهان والتي تنتشر في كافة أرجاء الصين، وبسبب حبه للعلوم لم يكتفِ السيد "نا تشونغ" بالعلوم الدينية التي كان يتعلمها من خلال التعليم المسجدي، والذي كان منتشرًا بين أبناء قومية هِوي بشكل خاص والقوميات المسلمة بشكل عام، لكنه سعى مُنذ صغره إلى الالتحاق بمدرسة ابتدائية غير دينية؛ حيث درس بها العلوم المختلفة، من بينها اللغة الصينية واللغة الفرنسية والرياضيات وعلم النبات، وفي فترة قصيرة استطاع نا تشونغ أن يجمع بين العلوم الدينية التي استقبلها داخل التعليم المسجدي والدراسة العلمية داخل المدرسة الفرنسية بالصين.

اهتم الأستاذ "نا تشونغ" بشؤون دينه وأبناء قوميته من الهِوي، كما ارتبط بالكتابة والقراءة منذ شبابه فعمل في الصحف ومنها صحيفة ((تشينغتشن داوباو))Qingzhen Daobao ، كما كتب في مختلف المواضيع الدينية وغيرها، واهتم بالأدب وخاصة في مجال النقد الأدبي، وانطوت أغلب المواضيع التي ناقشها الأستاذ "نا تشونغ" حول تطوير التعليم المسجدي وإصلاح التعليم بين أبناء قوميته في مدينة يوننان، فكان من الطبيعي أن يبحث عن العلم خارج أراضي الصين، وخاصة في إحدى دول العالم الإسلامي، ولم يكن هناك أفضل من القاهرة والجامع الأزهر؛ قبلة طلاب العلم في العالم الإسلامي، وقد أوضح ذلك في مقاله المنشور في بمجلة ((يويهوا)) Yue hua[1]، أن الهدف من الذهاب إلى مصر والتعلم في الأزهر الشريف هو تحسين التعليم الإسلامي في الصين.

الرحلة إلى القاهرة والدراسة في الأزهر الشريف:

الأستاذ "نا تشونغ" شأنه شأن باقي طلاب العلم في العالم الإسلامي، فقد كان "نا تشونغ" يشتاق للذهاب إلى القاهرة والتعلم في الجامع الأزهر؛ حيثُ يُرفع راية العلم الديني الوسطي، وبدعم من التجار والمثقفين والسياسيين المسلمين وعلماء الدين بالإضافة إلى المؤسسات المجتمعية للمسلمين، استطاعت دفعة من الطلبة المسلمين أن يتمكنوا من السفر إلى القاهرة للدراسة في الأزهر الشريف، وبالطبع استغل "نا تشونغ" هذه الفرصة، فاستطاع أن يكون ضمن أول بعثة رسمية صينية تصل إلى القاهرة عام 1931م، وقد جمعت العديد من الطلاب الصينين، الذين كتبت لهم شهرة واسعة واستطاعوا أن يصلوا إلى مناصب رفيعة عند عودتهم إلى الصين، وكان من ضمن هذه البعثة السيد "دينغ جونغ مينغ" Ding Zhongming والذي أصبح أستاذًا ورئيسًا لقسم اللغة العربية بجامعة تايوان، والسيد "ما تزين بينغ" Ma Jinpeng أستاذ اللغة العربية بقسم اللغات الشرقية بجامعة بكين، والذي له العديد من التراجم أهمها ترجمة كتاب "رحلة ابن بطوطة"، والسيد "ليو لين روي" Liu Linrui الأستاذ بقسم اللغة العربية بجامعة بكين، والذي يعود له الفضل في وضع الكثير من مناهج اللغة العربية بالصين، والسيد محمد مكين المشهور بترجمته للقرآن الكريم وترجمات أخرى شهيرة.

نالت هذه البعثة اهتمامًا كبيرًا، ففي اليوم التالي لوصول البعثة، غطت أكبر الجرائد المصرية (جريدة الأهرام) [2]خبر وصول أول دفعة من الطلبة المسلمين الصينين إلى مصر، فقد كانت البعثة الأولى الرسمية التي تصل إلى الأزهر الشريف من الصين، حيثُ أَولى الجميع اهتمامًا كبيرًا بوصول بعثة الطلاب المغتربين الصينين إلى مصر، ابتداءً من ملك مصر فؤاد الأول وحتى وزير التعليم، حيث قاموا بوضع خطة دقيقة لطعامهم ومسكنهم ودراستهم.

وقد أظهرت العلاوة الخاصة والدروس التكميلية لمدرسي اللغة العربية التي ذكرت في التقارير الصينية على الاهتمام الخاص الذي حظي به الطلبة الصينين، فوفقًا للتقارير التي كان يرسلها الطلبة، فإن المعاملة التي تمتعوا بها تتمثل في القرارات التي تميز الطلاب الصينين عن غيرهم، ومنها القرار الذي ينص على إعطاء كل الطلبة الصينين شهريًّا علاوة خاصة بهم أكثر من الطلبة الآخرين، كما ذكر الأستاذ محمد مكين Ma Jian، أن رئيس الجامعة قد ذهب بنفسه إلى مساكن الطلاب لزيارتهم وتهنئتهم.

الأزهر وتأثيره على "نا تشونغ":   

كان للاهتمام الكبير الذي حظت به البعثة فور وصولها لمصر أثر كبير على كل طُلابها وخاصة الأستاذ "نا تشونغ" الذي لم يكن عمره يزيد عن 22 عام، فزاد اهتمامه بطلب العلم، وبدأ بدراسة المناهج الدراسية في الأزهر الشريف، حيث فوجئ بقلة حجم العلوم الإسلامية التي كان يُحصِّلُها في الصين وبمدى غزارة العلم في أروقة الأزهر الشريف؛ فعمل على ترجمة بعض المناهج الدراسية، كما اهتم بدراسة الحضارة العربية والإسلامية وترجمة العديد من الكتب العربية إلى اللغة الصينية، وخاصة كتب المفكر المصري المعروف أحمد أمين، حول تاريخ الثقافة العربية والإسلامية.

كان اجتهاده في التحصيل الدراسي مثالًا يُحتذى به، وظهر ذلك بعد ما أصبح أول طالب صيني يحصل على شهادة العالمية من الأزهر الشريف عام 1936م، ولم يكتفِ بذلك فالتحق بكلية التاريخ بجامعة الأزهر الشريف ليترجم العديد من الكتب الخاصة بالتاريخ العربي والإسلامي، ولم يقتصر الأستاذ "نا تشونغ" بطلب العلم داخل أروقة الأزهر الشريف، فقد كان لعلاقته بالمفكر المصري أحمد أمين دورٌ كبيرٌ في طلب العلم، حيثُ ساعده في حضور دروس علمية بجامعة القاهرة.

كما أثرت دراسته في الأزهر الشريف على إدراكه وفهمه لقضايا بلاده والعالم الإسلامي، وساعده ذلك في أن يلعب هو وزملاؤه من الطلاب الصينين دورًا مُهمَّا أثناء الغزو الياباني للصين؛ وظهر ذلك أثناء مشاركته في المؤتمر الإسلامي العام في القدس بفلسطين عام 1932م، حيث عرض القضية الصينية، كما استغل سفره إلى مكة لأداء فريضة الحج للوقوف أمام وفد حكومة شمال شرقي الصين العميلة لليابانيين، مما كان له أثر طيب في تقوية وضع قومية هِوي داخل المجتمع الصيني.

وشارك الأستاذ "نا تشونغ" في المؤتمر البرلماني العربي للبلاد العربية والإسلامية للدفاع عن فلسطين بالقاهرة، وعرض نفسه كممثل للصين، وفي كلمته قال: "أعلن باسم مسلمي بلادي إدانتنا للسياسات الاستعمارية الهادفة للقضاء على فلسطين العربية الإسلامية، وأؤكد مجددًا باسم مسلمي الصين استعدادنا لبذل الجهود والتضحيات من أجل فلسطين".

مواقفه وعلمه:

حرص الأستاذ "نا تشونغ" على تحصيل العلم طوال حياته، ولم يظهر ذلك فقط في حصوله على شهادة العالمية من الأزهر الشريف، بل ظهر ذلك في الترجمات المختلفة، فقد ترجم العديد من الكتب منها: الإسلام والحضارة العربية، وتاريخ مصر الحديث، وتاريخ حضارة البلدان الإسلامية، ومؤرخون عرب في العصور الوسطى، وتاريخ العرب العام.

وحظى الأستاذ "نا تشونغ" على تقدير كبير سواء داخل الصين أو على المستوى الدولي، فبعد عودته إلى مصر عام 1942م بدأ العمل في تدريس التاريخ العربي والإسلامي بالجامعة الوطنية المركزية (جامعة نانجينغ حاليًّا)، وألف أول كتاب لتعليم اللغة العربية، كما عمل بجامعة يوننان بمدينة كونمينغ Kun Ming، وفي عام 1962م وبناء على طلب من وزارة الخارجية لجمهورية الصين الشعبية انتقل إلى بكين؛ لإنشاء برنامج للغة العربية في جامعة الشؤون الخارجية ببكين، كما اختير رئيسًا للجمعية التاريخية الأفريقية الصينية، ومستشارًا لمؤتمر الشرق الأوسط العلمي، وعضوًا دائمًا في تأليف (موسوعة الصين العظمى.. التاريخ الخارجي) وعضوًا بالجمعية الإسلامية الصينية، وعضوًا علميًّا بمعهد بحوث التاريخ بأكاديمية العلوم الاجتماعية بالصين، وعضوًا شرفيًّا بمؤتمر ثقافة آسيا الوسطى بالصين، وعضوًا شرفيًّا بمؤتمر أبحاث اللغات الأجنبية بالصين.

كما نال الأستاذ "نا تشونغ" تكريمًا دوليًّا، فقد منحت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) في الرابع من ديسمبر2001م، الأستاذ نا تشونغ جائزة الشارقة للثقافة العربية، كما نال تكريمًا من دولة باكستان عام 1981م.

وفاته:

بعد رحلة طويلة من البحث العلمي نالت تقدير كبير من كافة الباحثين وعلماء اللغة والأديان، استطاع أن يضع نفسه بين علماء الصين المسلمين المؤثرين في التاريخ والثقافة العربية والإسلامية في الصين، رحل عن عالمنا عام 2008م، بعد معاناته في سنواته الأخيرة من المرض أدهش فيها الأطباء بذاكرته التي فقدت كل شيء واحتفظت بالقرآن الكريم الذي ظل يردده حتى آخر لحظات حياته ليشيع جنازته المئات من طلابه ومحبيه من مقر الجمعية الإسلامية الصينية في بكين.

وحدة الرصد باللغة الصينية

 

 

 

[1] الموسوعة الصينية، مطبعة سيتشوان 2007، ص 410.

[2]  كتاب التاريخ المبسط للإسلام في الصين: ما بينغ، دار نشر نينغشيا الشعبية 2006، ص280-281.

 

طباعة