سلسلة علماء مسلمي الصين

ما جين بينغ(1913/2001م)

  • | الخميس, 2 ديسمبر, 2021
سلسلة علماء مسلمي الصين


يستمر مرصد الأزهر في استعراض "سلسلة علماء مسلمي الصين"؛ وذلك بهدف توضيح جهودهم وأثرهم في تاريخ الصين، ودورهم في تكوين الثقافة الإسلامية الصينية داخل المجتمع الصيني؛ ليكون اللقاء بواحد من أهم مترجمي القرآن الكريم باللغة الصينية وهو العالم المسلم "ما جين بينغ" "majinpeng"(1913م/2001م)أستاذ اللغة العربية بجامعة "بكين".
ورغم قلة المصادر العربية التي تتحدث عن الأستاذ "ما جين بينغ"، لكن لا يستطيع أحد أن ينكر الدور الذي لعبه في إثراء التبادل الثقافي الصيني العربي؛ كونه ضمن المترجمين الأوائل للقرآن الكريم، إضافة إلى العديد من الكتب العربية التي عرفها القارئ الصيني من خلال ترجماته، وأهمها "رحلات بن بطوطة"، كما استطاع أيضًا أن يكون ضمن الشخصيات المؤثرة داخل المجتمع الصيني، فقد كان صاحب تاريخ مشرف لصالح قضايا بلاده الوطنية، إضافة إلى أنه من أوائل الدفعات الرسمية المرسلة إلى القاهرة ضمن البعثة الصينية إلى المملكة المصرية - الاسم المعتمد في ذلك الوقت- للدراسة في الأزهر الشريف.
نشأته وحياته:
ولد الأستاذ "ما جين بينغ" في الثاني من يونيو عام 1913م ميلادية لأسرة مسلمة من قومية الهِوي في مدينة جينان "Jǐnán"، عاصمة مقاطعة شاندونغ "shandong"، والمعروف أن قومية هِوي من أكثر القوميات الصينية الــ56 تميزًا؛ والمنتشرة في الأراضي الصينية، ويرتكز أكثر أهلها في أقصى شرق الصين، ويتحدثون اللغة الصينية، وبالرغم من اندماجهم الكبير داخل المجتمع الصيني؛ لكنهم حافظوا على الهوية الدينية والعرقية الخاصة بهم، ولم يذوبوا داخل قوميات أخرى كما حدث لبعض الأقليات في تاريخ الصين، كل هذا كان له أثر كبير في حياة أبناء قومية الهِوي، ومنهم السيد "ما جين بينغ" الذي نشأ فردًا مسلمًا صينيًّا يحمل الهوية الإسلامية، إضافة إلى انتمائه إلى وطنه الصين.
 كعادة أبناء قومية هِوي تم منح الأستاذ "ما جين بينغ" اسمًا إسلاميًّا منذ ولادته، إضافة إلى الاسم الصيني، واخُتير له اسم (إسماعيل)، وقد حرصت عائلته منذ نعومة أظفاره على تلقيه العلوم الشرعية داخل ما يُعرف بالتعليم المسجدي في الصين.
كان التعليم المسجدي في ذلك الوقت يمثل أولى خطوات التعليم لدى المسلمين الصينيين؛ حيثُ يهدف هذا النوع من التعليم إلى تربية العقيدة الدينية، والقيم والمبادئ الأخلاقية والمعارف الإسلامية في نفوس المسلمين في بلاد الصين، وقد بدأ التعليم المسجدي في الأراضي الصينية في أواسط القرن السادس عشر الميلادي على يد المعلم الإسلامي الكبير "هو دنغ تشو" (Hu dengzhou) (1522- 1597)، وقد كان للتعليم المسجدي أثر كبير على مسلمي الصين؛ واستطاعوا من خلاله إثراء عقول أطفال المسلمين الصينيين بالعلوم الإسلامية والصينية، ولم ينفصل هذا النوع من التعليم عن الثقافة الصينية المحلية، فقد حمل معه خصائص الثقافة التقليدية لبلاد الصين؛ وبهذا فقد جمع بين خصائص الثقافة الإسلامية وبين خصائص الثقافة الصينية التقليدية.
وفي العصر الحديث ومع محاولة تطوير التعليم المسجدي في الصين كان العديد من أبناء المسلمين الصينيين يلتحقون بالمدارس الصينية العامة بعد الالتحاق بالتعليم المسجدي، وهذا ما حدث للأستاذ "ما جين بينغ"، فقد التحق بالمدرسة الابتدائية، وفي الوقت نفسه قام العديد من المسلمين الصينيين الذي كان لهم دور في تاريخ الصين بإنشاء مدارس تقوم بتدريس العديد من المناهج العلمية الحديثة والمعاصرة، مثل مدرسة تشينغ دا (chengda)، واستطاع أن يلتحق عام 1925م بالمدرسة ليتخرج منها عام 1932م، وفور تخرجه تم اختياره للدراسة في الأزهر الشريف بمصر.
وفي القاهرة ومع التحاقه بالدراسة في الأزهر الشريف، أعرق الجامعات الإسلامية في العالم، ومن أكثرها جذبًا للطلاب المسلمين حول العالم؛ تطورت شخصية الأستاذ "ما جين بينغ" بشكل كبير، وأصبح يتقن اللغة العربية، حيث حرص على حضور المحاضرات سواء داخل أروقة الأزهر الشريف أو في المناسبات العامة، وأتقن قراءة القرآن الكريم، وأحب سماع الإنشاد الديني حتى أصبح مولعًا به، كما حرص على شراء العديد من الكتب في مختلف المجالات، جمعها داخل (4) صناديق خشبية حملها معه إلى الصين، مستفيدًا من الامتيازات المالية التي حصل عليها الطلاب الصينيون بوصفهم أول بعثة رسمية تصل إلى القاهرة، ولم يلبث أن تخرج عام 1936م ليعود إلى وطنه الصين ليعمل مدرسًا للغة العربية.
ترجمة معاني القرآن الكريم ودوره الأكاديمي:
كان لثقافة الأستاذ "ما جين بينغ" ودوره الوطني أثر طيب داخل المجتمع الصيني متعدد الأعراق، وتم تعيينه عام 1953م مدرسًا بجامعة بكين، ليشارك في وضع حجر الأساس لهذا القسم الجديد داخل الجامعة، وقد ساعده اطلاعه الواسع على ترجمة العديد من الكتب العربية، أهمها ترجمة "رحلات ابن بطوطة"، والتي تحتوي على معلومات قيمة لدراسة تاريخ الاتصالات الصينية والعالم.
وتبقى ترجمته لمعاني القرآن الكريم أعظم ما تركه الأستاذ "ما جين بينغ"؛ فقد كرّس آخر سنواته لترجمة معاني القرآن الكريم، معتمدًا على ما درسه طوال حياته من اللغة العربية والتفسير وغيرها من العلوم الإسلامية، وبالرغم من تأخر ظهور تراجم معاني القرآن الكريم إلى اللغة الصينية، لكن مع نهاية القرن التاسع عشر الميلادي وبداية القرن العشرين ظهرت نُسخ عديدة من الترجمة الكاملة لمعاني القرآن الكريم، ولا شك أن سعي المسلمين الصينيين في إرسال أبنائهم إلى الدول العربية، وخاصة إلى الأزهر الشريف بمصر لدراسة العلوم الشرعية، كان أحد أهم الأسباب التي يرجع لها الفضل الكبير في ظهور تراجم معاني القرآن الكريم، وبعد إنهاء دراستهم وعودتهم إلى الصين ساهموا في تطوير تَعلُّم اللغة العربية لدى أبناء المسلمين الصينيين، كما كثُرت ترجمة الكتب الإسلامية العربية إلى اللغة الصينية، مما مهَّد الطريق لأصحاب هذه البعثات لترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الصينية، وكان من بين هذه التراجم ترجمة الأستاذ "ما جين بينغ" التي حظيت بمكانة وباحترام كبير في قلوب المسلمين الصينيين، وقد استغرقت ترجمته لمعاني القرآن الكريم ما يقرب من (١٠) سنوات.
وعلى الرغم من مرور أكثر من (٢٠) عامًا على وفاة العالم المسلم "ما جين بينغ"، إلا أن تأثيره الثقافي والديني ما زال حيًّا في قلوب تلامذته ومحبيه، والذي يُلْزمنا بضرورة إيصال رسالته وعلمه إلى القارئ العربي، حيث ندرة المقالات العربية التي تتناول مسيرته العلمية والثقافية والوطنية.
وحدة رصد اللغة الصينية
 

طباعة