المواطنة والتعايش بين أبناء الوطن الواحد

  • | الخميس, 30 ديسمبر, 2021
المواطنة والتعايش بين أبناء الوطن الواحد

     خلق الله تعالى الإنسان وجعله خليفة في هذه الأرض يعمرها حَسَب ما قدر الله له من حياة، وقد أراد الباري تعالى أن يجعل الناس شعوبا وقبائل منهم الأحمر والأسود والأبيض، منهم الغني والفقير والقوي والضعيف، وكلهم إخوة، إلا أنه تعالى بيَّن أن التعارف بين الناس إنما مرده إلى أنهم من أب واحد ومن أم واحدة، فلا تفاخر بأنساب وأحساب وأموال.

وقد أسس الإسلام مبادئ العدل والمساواة والحق؛ حتى يعيش الناس متحابين متآلفين، وقد شاءت إرادة الله تعالى أن يختلف الناس، ومن بين ما اختلفوا فيه أن يكون اختلافهم في شأن ما يدينون وما يعتقدون، ولم يجعل الإسلام هذا الخلاف الكبير حجر عثرة بين أبناء آدم، وإنما أرسى المبادئ التي من شأنها أن يحصل التعاون بين هؤلاء المختلفين في العقائد.

ولقد عاش النبي عليه الصلاة والسلام مدة طويلة في مكة في وسط المشركين، وكان يعاملهم بجميل الأخلاق وحسن العادات، فأمنوه على ودائعهم وأموالهم مع اختلافهم معه في العقيدة والدين، ولقد ترك عليه الصلاة والسلام تلك الأموال مع علي بن أبي طالب عندما هاجر إلى المدينة.

ولم يمنعه كُفر عبد الله بن أريقط من أن يكون دليله وهو في رحلته إلى المدينة، ثم عاش عليه الصلاة والسلام في المدينة وفيها اليهود وقد عقد معهم المعاهدات التي بموجبها يدافعون عن المدينة المنورة من الخطر، ولقد مرض غلام يهودي في المدينة فما كان انتماؤه لليهود حجر عثرة أمام النبي عليه الصلاة والسلام في زيارته، وسمح النبي عليه والسلام لطائفة من نصارى نجران بأن يقيموا صلواتهم في مسجده الشريف.

وأمر سبحانه وتعالى بالتلطف معهم وعدم الغلظة: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]. بل إنَّ لغة القرآن الكريم لتسموا في معانيها حتى إنَّها تخاطب أهل الديانتين (اليهودية والنصرانية) بأهل الكتاب، بل إنَّ القرآن الكريم قد أحل ذبائحهم ومصاهرتهم قال تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 5].

ووصف القرآن الكريم النصارى بأنهم الأقرب مودة للمسلمين فقال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة:82].

ولقد كان الصحابة رضوان الله عليهم على هذا الحال الذي علمهم إياه النبي عليه الصلاة والسلام؛ فلقد مرت بقَيْسَ بن سَعْدٍ، وَسَهْل بن حُنَيْفٍ وهما بالقَادِسِيَّةِ جِنَازَةٌ فَقَامَا، فقِيلَ لهمَا: إنَّهَا مِن أَهْلِ الأرْضِ، فَقالَا: إنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ مَرَّتْ به جِنَازَةٌ، فَقَامَ فقِيلَ: إنَّه يَهُودِيٌّ، فَقالَ: أَليسَتْ نَفْسًا. [وفي رواية]: كُنَّا مع رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فَمَرَّتْ عَلَيْنَا جِنَازَةٌ [أخرجه مسلم].

وقد حَذر عليه الصلاة والسلام من سوء معاملة أهل الكتاب، مبينًا أن سوء معاملتهم يكون سببا في دخول النار، فمن ذلك ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَن قتل مُعَاهدًا لم يَرَحْ رائحة الجنة، وإنَّ ريحها يوجدُ من مسيرةِ أربعين عامًا) [أخرجه البخاري].

وهذه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: "قَدِمَت عليَّ أمِّي وهي مشركةٌ، في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، قلت: قدِمَتْ عليَّ أمِّي وهي رَاغِبةٌ، أفأَصِلُ أمِّي؟ قال: (نعم، صِلي أمَّك)" [أخرجه البخاري في صحيحه].

ولما كان التعايش السلمي بين المسلم وغيره قائمًا على الإخاء في حالات السراء والضراء فلم ير الإسلام حرجًا من تهنئتهم بأعيادهم، بل لم ير حرجًا في اتباع جنائزهم، فعن جابر، عن عامر، قال: "ماتَتْ أمُّ الحارث وكانت نصرانيةً، فشهِدها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم" [أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه].

كل ما سبق إنَّما هو دعوة لأن تكون الأمة قوية بأبنائها حتى ولو اختلفوا من حيث اللون أو الطبقة أو الدين، وأنه لا بد من إزالة كل ما من شأنه أن يعكر صفو العلاقة بين أبناء الوطن الواحد.

وعلينا أن ندرك أنَّ اختلاف الناس إنَّما هو من قَدَرُهُ تعالى وقضائه وأنه آية من آيات الله قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِين}َ [الروم: 22].

وإذا كان الخلاف سنة من سننه تعالى فلن تتغير ولن تتبدل سنته تعالى: {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر: 43].

بعد هذا كله لا بد من إشارة غاية في الأهمية وهي أنَّ أهل الكتاب في حمايتنا نبذل في سبيل حمايتهم الغالي والنفيس ضد أي عدوان، ولقد أكد الفقهاء على ذلك، قال الإمام القرافي: "والذي إجماع الأمة عليه أن من كان في الذمة وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح ونموت دون ذلك صونا لمن هو في ذمة الله تعالى وذمة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فإنَّ تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة ومنها أن من اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة في عرض أحدهم أو نوع من أنواع الأذية أو أعان على ذلك فقد ضيع ذمة الله تعالى وذمة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وذمة دين الإسلام تعين علينا أن نبرهم بكل أمر لا يؤدي إلى أحد الأمرين أحدهما ما يدل ظاهره على مودات القلوب" [الفروق للقرافي (3/ 26)].

أين هذا مما يفعله تنظيم داعش الإرهابي، تلك الفئة الضالة التي تسعى إلى إراقة الدماء بسبب اختلاف الدين، حتى المخالف لهم ممن هو منسوب إلى ملة الإسلام لم يسلم منهم، فهم يكفرون المخالف لعقيدتهم وفكرهم الفاسد ثم يقتلونه، وتلك سمات الخوارج.

ويرى مرصد الأزهر أنَّ شريعة الإسلام هي الضمان الوحيد للعيش المشترك بين أصحاب الأديان والفرق، وأنَّ دستور الدولة لا يفرق بين المواطنين على أساس الدين أو اللون أو العرق، وهذا بلا شك غاية العدالة التي تسعى الشرائع إلى أن تُطبق بين الناس.

من كل سبق يظهر أن قضية التعايش والسلم بين أبناء الوطن الواحد من الأهمية بمكان خاصة في هذا الوقت بالذات ... والله من وراء القصد.

وحدة رصد اللغة العربية

 

طباعة