سلسلة علماء مسلمي الصين

ما سونغ تينغ Mǎsōngtíng (1895~1992)

  • | الثلاثاء, 4 يناير, 2022
سلسلة علماء مسلمي الصين


     يستمر مرصد الأزهر في إبراز وتقديم الرموز والعلماء المسلمين الذين أثروا على الحياة الدينية والاجتماعية داخل مجتمعاتهم، ومن بين ذلك سلسلة علماء مسلمي الصين، وفي ثنايا هذا المقال نتناول سيرة العالم المسلم الشهير ما سونغ تينغ Mǎsōngtíng وهو أحد الأئمة الأربعة الكبار في الصين وهم: وانغ جينغ تشاي Wángjìngzhāi، و"ها دي تشنغ" hā dé chéng و"دا بوشينغ" dá pǔ sheng إضافة إلى الإمام ما سونغ تينغ الذي هو عنوان هذا المقال.
تزخر المكتبات الإسلامية بالعديد من الكتب التي تحمل أسماء أصحابها، لكن قليل من هذه الأسماء استطاعت أن تضع نفسها بين العلماء الذين أثروا في ثقافة وتاريخ المجتمعات، ومن بين هؤلاء العالم المسلم الصيني ما سونغ تينغ Mǎsōngtíng، العالم الإسلامي، والمربي الديني، والناشط الاجتماعي.
حياته ومناصبه
ولد ما سونغ تينغ Mǎsōngtíng عام ١٨٩٥م لأسرة مسلمة من قومية هوي، تقطن في بكين، ولقد توارثت العائلة حب الدين ودراسته، إلا أن "ما سونغ تينغ " ظهر تفوقه الدراسي في مرحلة مبكرة، حيث درس في طفولته اللغة العربية، وتعلم بجانبها علوم الفقه والدين، ولعل السبب في تفوقه المبكر أنه تتلمذ على يد العديد من العلماء المشهورين في زمانه، ويعد العالم الأكثر تأثيرًا في حياته العلمية والثقافية هو الإمام "تشانغ زي وين" zheng ziwe، وبعد تخرجه عام 1921م، عمل إمامًا لعدد من المساجد في المدن الصينية، مثل: بكين، وتايبيه، وهونج كونج، وجينان، وخلال مدة حياته السابقة لم يتوقف عن التفكير في كيفية تعزيز الثقافة الإسلامية، وتعزيز التبادل الأكاديمي والثقافي بين الصين والعالم الإسلامي.
كما أنه شغل العديد من المناصب مثل: نائب مدير الجمعية الثقافية للمسلمين الصينيين، ونائب مدير الرابطة الإسلامية الصينية، ونائب عميد المدرسة الإسلامية الصينية للاقتصاد، وكان عضوًا في اللجنة الوطنية الثانية والخامسة، والسادسة والسابعة للمؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني.
دوره الفكري والثقافي
شهد النصف الأول من القرن العشرين تغيرات عالمية قوية أثرت على مختلف دول العالم، ولم تكن الصين في معزل عن هذه الأحداث؛ حيث كان للمسلمين دور كبير في سياسة الصين بوصفهم مواطنين مخلصين لبلادهم، فلم يكونوا في معزل عن الأحداث، فقد شارك الكثير منهم في القضايا السياسية الصينية، وبغض النظر عن تطورات هذه الأحداث إلا أنها أنشأت وعيًا حاضرًا وقويًّا لمسلمي الصين.
وكان السيد "ما سونغ تينغ" شابًّا صغيرًا، إلا أنه كان يشاهد ويراقب الأحداث مع استمراره في عمله إمامَ مسجد، إضافة إلى ذلك درس اللغة العربية واللغة الفارسية، التي كانت تُكتب بهما أغلب الكتب الإسلامية، ومع استمرار اللهجة الوطنية القومية في البلاد شعر السيد "ما سونغ تينغ" حاجته إلى دراسة العلوم الاجتماعية والثقافية، وخاصة مع عدم معرفته بالكتابة الصينية التقليدية، فكان التعليم الإسلامي في الصين -التعليم المسجدي- على الرغم من قدرته على الحفاظ على العلوم الدينية لأكثر من 1000 عام إلا أنه يفتقد للكثير من العلوم الحديثة التي يحتاجها المجتمع، مثل العلوم الطبيعية والجغرافية وغيرها من العلوم الحديثة، فخُلق عنده نوع من العزلة مع المجتمع الصيني، مما دفعه إلى تأسيس مدرسة ثانوية في مدينة جينان Jǐnán عام 1925م، بالمشاركة مع عدد من علماء مسلمين الصين، وبالرغم من قلة التمويل المادي ونقص المعلمين، ونقص الطلاب، والموظفين، فإن الكثير من مشرفي المدرسة عملوا مدرسين، وقد تصادف وجود وانغ جينغ تشاي-أحد أشهر مترجمي معاني القرآن الكريم بالللغة الصينية- في المدرسة لكنه لم يمكث طويلًا، واستطاعت المدرسة أن تُخْرِّج جيلًا مسلمًا ذا ثقافة كبيرة وهمة عالية.
ورأى السيد "ما سونغ تينغ" أن أحد أهم الأسباب للأزمة التي تعيشها الصين في بداية القرن العشرين، هي النقص الشديد في عدد المتعلمين؛ لذا اعتبر الترويج للثقافة الإسلامية هو أحد طرق النهوض، وإنشاء المدرسة هو السبيل لذلك، ولذا سعى أن تكون خطة المدرسة تهدف إلى تخريج دفعات جديدة مؤهلة لتولي ثلاثة مناصب، الأول: العمل في الكادر التعليمي. الثاني: العمل في المجال الديني. الثالث: العمل في المجال المجتمعي والمنظمات الاجتماعية.
من أجل تحقيق أهداف المدرسة حرص على أن يتم التعليم داخل المدرسة باللغتين العربية والصينية وتدريس المواد الشرعية إضافة إلى المواد الاجتماعية والثقافية، وقد أثمرت جهوده بالفعل؛ فقد تَخرَّج من المدرسة العديد من الطلاب المسلمين الذين استطاعوا أن يقودوا الحركة الثقافية والفكرية لمسلمي الصين، وخاصة بعد دولة الصين الحديثة عام 1949م، ومن أمثلة هؤلاء تشانغ بينجدو (1913م—2004م) Zhāngbǐngduó النائب السابق لرئيس الجمعية الإسلامية الصينية، و"ما جين بينج "Mǎ jīnpéng ١٩١٣-٢٠٠١م) أستاذ اللغة العربية بجامعة بكين ومترجم لمعاني القرآن الكريم باللغة الصينية، وصاحب الترجمات العديدة من اللغة العربية إلى الصينية، وغيرهم من العلماء الذين استطاعوا أن يكونوا همزة وصل بين الصين والعالم الإسلامي.
دوره في الاتصال الصيني العربي
شهد بداية القرن العشرين تطورًا كبيرًا للتعليم الإسلامي في الصين، وكان للسيد "ما سونغ تينغ" دور كبير في هذا التطوير الذي يحدث، وخاصة في التواصل بالعالم العربي والإسلامي والحصول على الخبرات والعلوم الشرعية التي كانت تملأ المكتبات، فلم يلبث أن سافر إلى مصر مرتين في عامي ١٩٣٣م و١٩٣٦م، وكان له دور بارز في مساعدة الطلاب الراغبين في السفر إلى القاهرة للدراسة في الأزهر الشريف، وسافر إلى العديد من الدول العربية مثل فلسطين ومكة، وحرص على حمل العديد من الكتب العربية إلى الصين، ونتج عن هذه الزيارات طباعة الكتب الإسلامية والمواد التعليمية في الصين.
وكان لسمعة السيد ما سونغ تينغ الطيبة دور كبير في ذلك، ففي أثناء زيارته لمصر استطاع أن يقابل شيخ الأزهر محمد الأحمدي الظواهري (1878م- 1944م) والملك فؤاد، والذي أهداه 441 كتابًا عربيًّا قدمتهم حكومة مصر والجامع الأزهر للصين؛ ليتم وضع أساس المكتبة العربية الإسلامية بالصين لتسمى باسم مكتبة فؤاد اعترافًا بفضله في تأسيس هذه المكتبة والتي توجد حتى الآن شاهدة على دور مصر الإقليمي والدولي بشكل عام والأزهر الشريف بشكل خاص في نشر العلوم بشتى أنواعها.
كما عمل على استقدام اثنين من أساتذة الجامعات المصرية إلى الصين للتدريس الطلاب الصينيين، لكن مع اندلاع الحرب اليابانية الصينية اضطر إلى نقل المدرسة لمدينة "قولين" بمقاطعة "قوانغشي" ذاتية الحكم، ولم يكتفِ بإنشاء هذه المدرسة فقط، بل عمل على إنشاء العديد من المدارس الإسلامية مثل مدرسة الهلال الثانوية للبنات، كما أنشأ عام 1947م جريدة (يويه خوا Yuehua ) الأسبوعية.
مواقفه الوطنية
إن السيد "ما سونغ تينغ" كان له دور وطني بارز في الوقوف بجوار أبناء بلاده، كما أنه تولى عدة مناصب منها: نائب الجمعية الثقافية لشعب هوي الصيني، وهي منظمة ثقافية جماهيرية لشعب هوي في الصين وتأسست في بكين، وبعدها تولى منصب نائب مدير الجمعية الإسلامية الصينية، ومن مناصبه أيضًا التي شغلها نائب مدير لجنة تعليم المسلمين الصينيين، والعميد الفخري لمعهد الاقتصاد الإسلامي الصيني، وعضو اللجنة الوطنية للمؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني.
وفاته
على الرغم من تقدمه في العمر إلا أن ذلك لم يمنعه من المحافظة على زياراته للمقاطعات الصينية المختلفة؛ لإلقاء المحاضرات ورعاية شؤون المسلمين، لكن جسده لم يعد يحتمل هذا الجهد ليفارق الحياة بعد رحلة طويلة مليئة بالإنجازات الفكرية والوطنية عام 1992م ليصبح أحد الأئمة الأربعة الكبار في تاريخ مسلمي الصين.

وحدة الرصد باللغة الصينية

طباعة