ثنائية الأنا والآخر في الفكر المتطرف

  • | الإثنين, 10 يناير, 2022
ثنائية الأنا والآخر في الفكر المتطرف


      تمثل ثنائية فوقية "الأنا" ودونية "الآخر" إحدى أكبر الأفكار الرئيسة التي يقوم عليها وينشرها الفكر المتطرف أيًّا كان توجهه، دينيًّا كان أو اجتماعيًّا أو سياسيًّا. 
فعلى المستوى الديني تبرز لدى المتطرفين فكرة أن جميع المؤمنين بالأديان الأخرى أقل شأنًا وأحط منزلةً، وعلى المستوى الاجتماعي تسود لديهم نظرة عنصرية تجاه الأعراق والأجناس والألوان الأخرى، وعلى المستوى السياسي يمارسون أبشع أنواع  التنكيل بالآخر بدعوى إقامة "دولتهم الخاصة بهم" في بعض الدول، أو "المحافظة على الهوية الدينية للدولة" في دول أخرى. غير أن الواقع يؤكد أن هذه الممارسات تتشابك وتتداخل؛ حيث يصعب التمييز بشكل واضح بين مجالاتها وروافدها، لأن قضية "الأنا" و"الآخر" ترتبط -بشكل عام- ارتباطًا وثيقًا بمسألة الهوية، والهوية حاضرة في جميع ممارسات التجربة البشرية. 
وبوجه عام فقد غدت ثنائية "الأنا" و"الآخر" حاضرة عند مناقشة مختلف قضايا الاجتماع الإنساني، كما برزت تلك الإشكالية -لأسباب متعددة- عند الحديث عن العلاقة بين الغرب "الأنا / الآخر" والإسلام "الأنا / الآخر"، والتي تشكلت من مجموع تاريخ طويل كانت روافده الرئيسة عدائية، وما أعقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١م من أحداث وانطلاق موجات العمليات الإرهابية على يد تنظيمات تدَّعي -زورًا- الحديث باسم الإسلام.
 وكان من مخلفات تلك المراحل المختلفة أن تبلورت صورة ذهنية سلبية عن الطرف الآخر على نطاق ليس بالضيق في كلا الجانبين. وعلى الرغم من الجهود العالمية الحثيثة المبذولة في مختلف المجالات وخاصة مجالات القانون الدولي وحقوق الإنسان ومكافحة العنصرية والتمييز لتجاوز ذلك الإرث التاريخي، فإن المتطرفين من الجانبين (اليمين المتطرف / تنظيم داعش الإرهابي وأمثاله) يعملان على الاستدعاء السلبي الدائم لثنائية تميز "الأنا" ودونية "الآخر"، ويحاولان بشكل تعسفي استحضار التاريخ ليكون حاكمًا على الواقع ومحركًا له؛ ليس في باب العلاقة مع الآخر الديني والحضاري فقط، ولكن أيضًا في العلاقة مع الآخر الفكري والآخر المجتمعي والآخر السياسي إلى غير ذلك.

اليمين المتطرف 
يقوم اليمين المتطرف على خطاب شعبوي قومي، يرتكز في صلبه على الاستحضار الدائم للتفرقة بين "الأنا" و"الآخر"، فهو يعتمد على نشر خطاب كراهية "الآخر" المختلف واحتقاره وتفوق الجنس الأبيض "الأنا" على ما عاداه من الأجناس، وهو ما تم صياغته باسم "نظرية تفوق العرق الأبيض"، والمحافظة على الهوية الدينية "الأنا" مقابل الهوية "الأخرى"، والتخويف من غزو "الآخر" وهم اللاجئون والمسلمون بشكل رئيسي، وهو ما عُبر عنه في كتابات يمينية متطرفة باسم نظرية "الاستبدال العظيم"؛ وقد بدا تأثير تلك النظريات والأفكار المتطرفة بوضوح في "المانيفستو" الذي نشره الإرهابي اليميني الذي قتل أكثر من خمسين مسلمًا داخل مسجدين في نيوزيلندا قبل قرابة ثلاثة أعوام، مما مثَّل ذروة جرائم الإرهاب اليميني بحق "الآخر المسلم"، ناهيك عن جرائم اليمين المتطرفة البشعة التي ارتكبت – ولا تزال-  في غالبية البلدان الأوروبية والأمريكية. ومن ثم تقوم أيديولوجية اليمين المتطرف على الاستحضار الدائم لتلك المتقابلات وإبراز تلك التقسيمات، وقد انعكس ذلك على تسميات حركاته المتطرفة، بدءًا من حركة "مدن ضد الأسلمة" التي أعلنت الأحزاب اليمينية الأوروبية عن قيامها عام 2008م، بهدف مكافحة "الأسلمة" في أوروبا، وصولًا لحركة "PEGIDA،  وهي اختصار لحركة "وطنيون أوروبيون ضد أسلمة الغرب"، التي أُعلن عن قيامها في مدينة "درسدن" الألمانية عام 2014م، وذلك بالتزامن مع بداية اشتعال أزمة اللاجئين التي نتجت عن التقلبات السياسية والاجتماعية والأمنية في عدد من الدول العربية، على رأسها سوريا وليبيا، بعد أن كانت قد سبقتهما العراق وبلدان أخرى إلى ذلك الواقع المأزوم.  
وقد لعبت الاعتداءات الإرهابية في 11 سبتمبر 2001م وما تبعها من جرائم مشابهة دورًا محوريًّا في إذكاء روح الخوف والعداء ضد الآخر -المسلمين-  في أوروبا وأمريكا، حيث عملت حركات اليمين المتطرف على استثمار خوف البعض من ذلك الآخر، وتأكيد ذلك الخوف وإبرازه وتحقيق الاستفادة منه، ساعدهم في ذلك الظرف السياسي المضطرب في العالم الإسلامي، ممَّا كان له أثر واضح في زيادة حجم العداء والإرهاب ضد المسلمين "الإسلاموفوبيا" واللاجئين بشكل غير مسبوق، خاصةً بعد نجاح تلك الأحزاب في أن يكون لها موقع سياسي فاعل في بعض الدول الأوروبية، للحد الذي أصبحت فيه الحكومة الألمانية –على سبيل المثال- تعتبر اليمين المتطرف الخطر الأكبر الذي تواجهه.
 

تنظيم "داعش" الإرهابي
يقدم تنظيم "داعش" الإرهابي نفسه -كغيره من التنظيمات الإرهابية- باعتباره الممثِّل الحصري للإسلام الصحيح "الأنا"، ومن ثم يسوغ لنفسه التنكيل بالآخر (الديني، والفكري، والحضاري، والتنظيمي)، ويستخدم لتحقيق أهدافه أدوات وإستراتيجيات كثيرة، من بينها الاستدعاء التعسفي لآراء فقهية وتفسيرات دينية اجتهادية، كان لبعضها ما يسوغها سياسيًّا واقتصاديًّا في ظرفها التاريخي بمكوناته المتشابكة، والتي انقضت - أو هكذا يجب أن يكون - بانقضاء زمنها وظرفها وأصبحت تاريخًا في سياق تطور تعاطي الفقهاء والساسة مع ظروف عصرهم، والتي كان يمثل فيها الدين - قبل قيام مفهوم الدولة الوطنية القائمة على الرابط الجغرافي والقومي-  الرابط الرئيسي للاجتماع الإنساني.
كما أن تنظيم "داعش" الإرهابي يمثل الوجه الآخر من اليمين المتطرف، بل إننا لا نعدو القول إن قلنا: إنهما يحتاجان لبعضهما أشد الاحتياج؛ فقد ساعدت جرائم وممارسات تنظيم "داعش" الإرهابي -وغيره من الحركات الإرهابية والتنظيمات المتطرفة- اليمين المتطرف على الربط بين الإسلام والإرهاب، ومن الناحية الأخرى يستغل تنظيم "داعش" الإرهابي والتنظيمات المتطرفة جرائم اليمين المتطرف لإظهار صورة "الغرب الذي يكنُّ العداء للإسلام والمسلمين". 
وبنظرة سريعة على جرائم تنظيم "داعش" الإرهابي في حق "الآخر"، نجد أنه مارس أبشع الجرائم في حق الآخر الديني، فكانت جرائمه المفجعة بحق مسيحي الموصل وغيرهم من شيعة وإيزيديين وسريان، وكذا بحق الآخر الفكري، وهو ما تجلى في ممارساته الإجرامية العديدة مع كثير من المسلمين الذين يختلفون معه فكريًّا، بل إنه مارس التمييز في حق الآخر التنظيمي، فتوسع تنظيم "داعش" الإرهابي في تكفير بعض أشباهه من التنظيمات الإرهابية الأخرى. وقد سارع الأزهر في حينها إلى رفض تلك الأعمال والتنظيمات جملةً وتفصيلًا، فأكد الإمام الأكبر في المؤتمر العالمي لمكافحة الإرهاب الذي عقده الأزهر الشريف في أوج سطوة تنظيم "داعش" الإرهابي عام 2014م، أن جماعات وتنظيمات "ترتكب هذه الجرائم البربرية النكراء تدثرت بدثار هذا الدين الحنيف وأطلقت على نفسها اسم الدولة الإسلامية في محاولة لتصدير صورة إسلامهم الجديد المغشوش". ناهيك عن جرائمه الإرهابية واعتداءاته الوحشية بحق الآخر الحضاري والديني في دول العالم المختلفة.


«النّاسُ صِنْفانِ إمّا أَخٌ لَكَ في الدِّيْنِ، أو نَظِيرٌ لَكَ في الخَلْقِ» 
دعا الإسلام إلى الأخوة والتعارف والمساواة بين الناس جميعًا، فقد جاء في القرآن الكريم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، وصرح بذلك النبي صلى الله عليه وسلم حين أكد ذلك المعنى في خطبته الجامعة في حجة الوداع قائلًا: "أيها النّاسُ إن رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وإنّ أَبَاكُمْ واحِدٌ، كُلكُّمْ لآدمَ وآدمُ من تُراب، إنّ أَكرمُكُمْ عندَ اللهِ أتْقَاكُمْ وليس لعربيٍّ فَضْلٌ على عجميٍّ إلا بالتّقْوىَ".
بل إن الإسلام تجاوز هذه النقطة إلى التأكيد على أن الاختلاف بين البشر ضرورة إلهية وطبيعة كونية، مما يعني التأسيس للقبول بالتعددية بوصفها حقيقة إنسانية ومشيئة إلهية لا تنفك، وفي هذا جاء في القرآن الكريم {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}، ولذا فالنظرة إلى الآخر في الإسلام ينبغي أن ترتكز على قاعدة: «النّاسُ صِنْفانِ إمّا أَخٌ لَكَ في الدِّيْنِ، أو نَظِيرٌ لَكَ في الخَلْقِ».
وفي هذا السياق عمل الأزهر الشريف - ولا يزال -  باعتباره المرجعية الدينية الإسلامية الأعلى في العالم على تفكيك ودحض الرافد الديني لتلك الإشكالية على عدة أصعدة، ومن بين ذلك إعلان الأزهر على لسان الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب عن رفضه القاطع لمصطلح "الأقلية" وما يستلزمه من تصورات، والتأكيد على مبدأ "المواطنة" بديلًا، وهو ما تم بلورته بعد ذلك في إعلان الأزهر للمواطنة والعيش المشترك عام 2017م، مرورًا بتأكيد فضيلة الإمام الأكبر على أن تصورات الذميَّة والجزية - التي خضع لها الآخر الديني - كانت ممارسات تاريخية ارتبطت بسياق تاريخي وانتهت، وصولًا إلى وثيقة الأخوة الإنسانية التي وقعها فضيلة الإمام الأكبر مع بابا الفاتيكان عام 2019م، والتي تنص في ديباجتها من بين ما تنص: "باسمِ الله الَّذي خَلَقَ البَشَرَ جميعًا مُتَساوِين في الحُقُوقِ والواجباتِ والكَرامةِ، ودَعاهُم للعَيْشِ كإخوةٍ فيما بَيْنَهم ليُعَمِّروا الأرضَ، ويَنشُروا فيها قِيَمَ الخَيْرِ والمَحَبَّةِ والسَّلامِ". ثم تعود لتأكد: "يحملُ الإيمانُ المؤمنَ على أن يَرَى في الآخر أخًا له، عليه أن يُؤازرَه ويُحبَّه، وانطلاقًا من الإيمان بالله الذي خَلَقَ الناسَ جميعًا وخَلَقَ الكونَ والخلائقَ وساوَى بينَهم برحمتِه، فإنَّ المؤمنَ مَدعُوٌّ للتعبيرِ عن هذه الأُخوَّةِ الإنسانيَّةِ بالاعتناءِ بالخَلِيقةِ وبالكَوْنِ كُلِّه، وبتقديمِ العَوْنِ لكُلِّ إنسانٍ، لا سيَّما الضُّعفاءِ منهم والأشخاصِ الأكثرِ حاجَةً وعَوَزًا". كما أخذ الأزهر زمام المبادرة وأنشأ مرصد الأزهر لمكافحة التطرف عام 2015م، الذي يعمل ليل نهار على مكافحة ومحاصرة الفكر المتطرف، ونزع رداء الدين عنه، وبيان ضلال أفكاره وخسة أهدافه.
كل ما سبق يؤكد على أن ذلك الباب عظيم الأغوار يستلزم تكاتف الجهود على المستويات كافة، للعمل على الترسيخ الديني والاجتماعي والسياسي لمبدأ القبول بالتعددية والاختلاف، وعدم الوقوع في فخ التمركز ومحاولة إلغاء الآخر أو اقصائه أو استتباعه. 
 

وحدة رصد اللغة الألمانية

طباعة