سلسلة علماء مسلمي الصين

"ها داتشينغ" (1888—1943) Hā dé chéng

  • | الجمعة, 21 يناير, 2022
سلسلة علماء مسلمي الصين

     تحتاج كل أمة من الأمم إلى مثقفيها وعلمائها؛ كي ينهضوا بها، ولم يكن مسلمو الصين بعيدين عن النهوض بأمتهم الصينية، ومع كثرة القوميات الصينية التي تبلغ 56 قومية، فإن مسلمي الصين يشبهون القوميات الصينية في تنوعهم واختلافهم؛ حيث يبلغون 10 قوميات مسلمة.

 وعلى مدار التاريخ لم ينفصل مسلمو الصين عن واقع وطنهم ودينهم، وفي إطار تناول وحدة اللغة الصينية بمرصد الأزهر لسلسة علماء مسلمي الصين نتناول أحد أبناء قومية "هوي"، وواحدًا من أهم علماء الصين، إنه العالم الإمام "ها داتشينغ" Hā dé chéng (1888م—1943م).

حياته:

ولد الإمام ها داتشينغ عام 1888م بمقاطعة شانشي Shanxi، وفي سنواته الاولى انتقل مع والده إلى شنغهاي، وهناك قام بدراسة الثقافة التقليدية الصينية على أصولها، وبهذا يكون قد جمع بين الثقافتين الإسلامية والتقليدية الصينية حتى يستطيع أن يؤثر على المثقفين داخل المجتمع الصيني ويصبح للإسلام مكانة في قلوب المجتمع الصيني آنذاك. ، وتعلم على يد والده اللغة العربية، كأغلب أبناء المسلمين، وفي السادسة عشرة من عمره أراد والده أن ينغمس في دراسته ويكون أكثر عمقًا في دراسة العلوم الإسلامية، فشجعه على الذهاب إلى جيانغسو Jiangsu، وخنان Henan وغيرها من المدن، مما جعله بعد ذلك جديرًا بأن يكون إمامًا لمسجد الطريق بمقاطعة شنغهاي “Shànghǎi zhèjiāng lù qīngzhēnsì”، والذي بني على يد الأجانب الذين كانوا يقيمون في المدينة في عهد الإمبراطور تونغجي Tongzhi أحد أباطرة أسرة تشينغ والذي حكم في المدة بين عام (1861م-1875م)، وهناك ازداد شغفه بدراسة العلوم وخاصة علوم اللغة؛ بسبب أن معظم الزائرين للمسجد من الأجانب وخاصة الهنود، فدرس اللغة العربية والفارسية والإنجليزية والأردية، ولم يكن تعلُّم كل هذه اللغات أمرًا واسع الانتشار في الصين؛ مما جعل شخصيته متميزة بين أقرانه.

لكن شغف الإمام "ها دا تشينغ" للعلم جعله يذهب لبلاد الحرمين لأداء مناسك الحج عام 1913م، وهناك فكر بشكل جادٍّ في الذهاب إلى دول العالم الإسلامي، وتنمية الفكر والثقافة الإسلامية لديه، وفي ذلك الوقت أدرك أنه يحتاج لأموال كثيرة لتحقيق أهدافه، لكن لم تكن بحوزته وقتها، فعاد إلى الصين ليبدأ رحلته التجارية؛ حتى يستطيع أن يجمع ما يكفيه من المال لاستكمال دراسته، وبالفعل استطاع الذهاب إلى سيرلانكا والقاهرة عام 1919م في رحلات عمل، ومكث في القاهرة عامًا واحدًا قبل أن يعود إلى وطنه عام 1924م، وكان قدومه إلى مصر قبل وصول البعثات الرسمية الصينية، والتي وصلت أولى دفعاتها عام 1931م، وكان لجهوده أثر طيب في مجال الدعوة؛ فعند عودته للصين تم اختياره إمامًا لمسجد الطريق في شنغهاي، واستطاع أن ينشر الدعوة بعدة لغات لخاصية هذا المسجد الفريدة وقدرة الإمام "ها دا تشينغ" على التحدث بعدة لغات.

دوره الثقافي والتعليمي:

لم يتوقف دور الإمام "ها دا تشينغ" على الدور الدعوي؛ ففي مدة قصيرة استطاع أن يجذب إليه أنظار المجتمع الإسلامي؛ ليستغل ذلك في إنشاء "جمعية التعليم الإسلامي الصيني"، وضم فيها شخصيات صينية إسلامية معروفة منها "ما جانغ هو" (1868م-1936م)  Mǎ gāng hóu وهو خطيب مُفوَّه، ترقَّى في مناصب حكومية مختلفة، وكان اختيار الإمام "ها دا تشينغ" لـ "ما جانغ هو" موفقًا؛ فقد استطاعت الجمعية في خلال سنوات قليلة أن تكون واحدة من أهم المراكز الثقافية والفكرية الإسلامية في الصين، وأكبر منظمة أكاديمية وثقافية إسلامية صينية في ذلك الوقت، وكان أهم أدوار الجمعية تعزيز التعليم الإسلامي، وإجراء تبادل ثقافي ومعرفي بين الصين والدول الإسلامية.

كان الإمام "ها دا تشينغ" يؤمن إيمانًا راسخًا بأهمية التعليم لبناء الأمة الصينية، وتكوين شخصية المسلم الصيني، وقد ظهر ذلك جليًّا في أعمال "الجمعية الصينية للتعليم الإسلامي"، والتي عملت على نشر العديد من الكتب، وإنشاء مكتبات دينية لنشر المعرفة بالثقافة الإسلامية، إضافة إلى المجلة الشهرية للجمعية، وإنشاء مدرسة شنغهاي الإسلامية العادية، ومدرسة دونهوا الابتدائية، وأشرفت على اختيار وإرسال الطلاب المسلمين الصينيين المتميزين في الدراسة إلى مصر في أول البعثات الرسمية الصينية إلى الأزهر الشريف، وساعدت الجمعية في إخراج جيل جديد من المتعلمين الذين استطاعوا تفادي الأخطاء القديمة في التعليم المسجدي الخاص بالمسلمين الصينيين هناك، الذي استمر لقرون، واستعان في ذلك بعدد من العلماء المسلمين الصينيين الذين استطاعوا أن يطوروا التعليم، ومن بينهم الأستاذ "دابوشينغ" Dá pǔ shēng (1874-1365) أحد الأئمة الكبار في الصين، والذي عمل مديرًا لمدرسة شنغهاي للمعلمين، والتي كان لها الفضل في اختيار الطلاب المتفوقين الذين سافروا إلى القاهرة للدراسة في الأزهر الشريف، كما قدمت تلك الجمعية إسهامات كثيرة، منها دراسة اللغات الأجنبية المختلفة للطلاب، كما دربت أكثر من 60 شابًّا مسلمًا صينيًّا، وقد سافر الطلاب على مرحلتين الأولى عام 1931م والثانية 1935م، وبعد التخرج أصبح هؤلاء الطلاب ركائز انتشار الثقافة الإسلامية في الصين.

ظهرت نتائج اهتمام الإمام "ها دا تشينغ" بالتعليم على التوالي؛ فكانت البداية مع ظهور مقتطفات تراجم معاني القرآن الكريم، والتي كانت ممنوعة من قبل بسبب الخوف من تغير المعنى الأصلي للنص القرآني، لكن مع ظهور الخريجين من الأزهر الشريف والطلاب المتقنين للغة العربية والعلوم الإسلامية لم يعد هذا الأمر صعبًا على الإطلاق، وبالرغم من أن المحاولات الأولى لترجمة معاني القرآن الكريم التي أشرف عليها الإمام "ها دا تشينغ" بنفسه عام 1926م لم تكتمل، لكنها كانت خطوة شجاعة للبدء في ترجمة معاني القرآن الكريم على يد المسلمين الصينيين، ويرجع عدم اكتمال تلك الترجمة إلى المخاوف التي يترتب عليها ترجمة معاني القرآن الكريم، لكن لم تمر مدة طويلة حتى بدأ الطلاب المبتعثون إلى الأزهر الشريف بالعودة إلى الصين، ليكونوا هم بأنفسهم البذرة الأولى للترجمة الكاملة لمعاني القرآن الكريم، وكان أهم هؤلاء الطلاب السيد محمد مكين Ma Jian، الذي استطاع أن يترجم معاني القرآن الكريم كاملًا بدعم من الإمام "ها دا تشينغ".

ورغم الظروف العصيبة التي مرت على الصين وأدت إلى تعليق أعمال الترجمة مؤقتًا، عاش الإمام "ها دا تشينغ" ليكمل رسالته في دعم النهضة الثقافية والعلمية لمسلمي الصين، إلا أنه وافته المنية ولم يشهد انتهاء عملية ترجمة معاني القرآن الكريم كاملة، حيث أكمل الأستاذ محمد مكين من بعده الترجمة.

ولدوره الوطني، تولى الإمام "ها دا تشينغ" منصبًا في الجمعية الوطنية الإسلامية الصينية للإنقاذ، وهناك تم تعيينه رئيسًا للجنة الترجمة.

وفاته:

في أثناء إقامته في "تشونغ تشينغ"، كان مشغولًا للغاية بالعبادة والترجمة، ولم يتوقف عن التفكير في مشروعه القديم ترجمة معاني القرآن الكريم كاملًا إلى اللغة الصينية، لكن بشكل غير متوقع مرض الإمام "ها دا تشينغ" بالملاريا، وتدهورت حالته بشدة لتوافيه المنية في 25 أكتوبر عام 1943م، بعد حياة مليئة بالدعوة والنشاط، ليكون واحدًا من أبرز أئمة الصين وعلمائها الذين أثروا في الحياة الدينية لمسلمي الصين.

 

وحدة الرصد باللغة الصينية

طباعة