الانتماء ودوره في الحدِّ من ظاهرة التطرف

  • | الأحد, 3 أبريل, 2022
الانتماء ودوره في الحدِّ من ظاهرة التطرف

 

     ظاهرة التطرف من الظواهر الخطيرة التي انشغلت شعوب العالم بمواجهتها، لما  تمثّله من تهديد لأمن المجتمعات وسلامتها، وصار كل مجتمع يبحث عن طوق النجاة من هذا الوباء، وذلك من خلال عدد من الوسائل والإستراتيجيات منها ما كان بالدعوة إلى التمسّك بقيم إنسانية تحضّ على التعايش والسلام من جانب، وإلى التخلّص من خصال تتنافى مع منظومة القيم الإنسانية من جانب آخر، كي تحظى المجتمعات بمزيد من الأمن والأمان وتنأى بنفسها عن التطرف والمتطرفين.

وفي هذا المقال نربط بين الانتماء بمفهومه العام -باعتباره أحد القيم الأخلاقية- وبين التطرف بمفهومه الشامل. ونبين دور الانتماء في الحد من ظاهرة التطرف لدى الفرد والمجتمع، ليوقن الناس أن التخلص من هذه الظاهرة المتفشية ليس بالضرورة أن يكون بالسلاح فقط، وإنما بغرس القيم الأخلاقية في نفوس الأطفال والناشئين، حتى يخرج جيل يحاصر التطرف بأخلاقه ويقضي عليه بمبادئه وإيمانه الراسخ. وليس من الإنصاف قصر التطرّف على التطرّف الديني فحسب، بل ينبغي التنبّه إلى أنّ للتطرّف أشكالًا أخرى غير تلك التي تتصدّر صفحات الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي تحت رايات الدّين، والدّين منها براء؛ فهناك التطرف الفكري والتطرف السياسي وغيرها من أشكال وصور التطرّف.

والتطرف - بكل أشكاله وصوره - إنما ينتج عن تجاوز الحد في استخدام الشيء، فالمغالاة في المشاعر تطرف، والمغالاة في الاعتقاد تطرف، والمغالاة في التدين تطرف، لكن أخطر أنواع التطرف هو ما يدعو إلى القتل والتخريب باسم الدين، وهو المغالاة في التدين أو ما يطلق عليه التشدد الديني وهو ما ينتج عن ضعف الهويَّة الذاتية والدينية والوطنية.

على الجانب المقابل يأتي الانتماء بوصفه قيمةً تدعو إلى البناء والتكامل والوفاء بالواجبات والحقوق تجاه النّفس والوطن والدين، ومعروف أن أشهر أنواع الانتماء هو الانتماء للوطن، لكنَّ أهمَّ أنواع الانتماء هو الانتماء للذات، والذي يجعل الشخص ثابتًا في رأيه وفكره وثقافته، لا هوائيًّا يسير وفق المعطيات المناخية المتغيرة، غير قابلٍ للانزلاق خلف أي رأي أو فكر إلا ببحث ودراسة وبسؤال المختصين، غير متشرب لأية ثقافة دخيلة إلا ما صلح منها، وهكذا يكوّن إنسانًا راسخًا في أفكاره وآرائه ومبادئه، ومن ثم راسخًا في إيمانه ومعتقده لا يقبل بأي تغيير إلا نتيجة بحث ودراسة واقتناع.

ومفهوم الانتماء بمعناه البسيط هو الانتساب والارتباط بشيء ما، ذكر ابن منظور في لسان العرب: "انتمى إليه: انتسب، وفلان ينتمي إلى قوم: ينتسب إليهم..." (لسان العرب، ابن منظور محمد بن مكرم، دار صادر، بيروت، الطبعة الأولى، 1989م: 13/451، مادة (وطن). وذكر النجار أن مفهوم الانتماء هو: "الإحساس تجاه أمر معين يبعث على الولاء له، والفخر به والانتساب إليه..." (الانتماء في ظل التشريع الإسلامي، عبد الله النجار، المؤسسة العربية الحديثة، القاهرة، الطبعة الأولى، 1411هـ، ص23). ويتنوع الانتماء بتنوع الثقافات والمجتمعات لكن أبرز أنواع الانتماء والتي سنتناولها في موضوعنا هنا ما يلي:

الانتماء للذات                           الانتماء للدين                               الانتماء للوطن

  1. الانتماء للذات: هو أهم أنواع الانتماء الذي لا بدَّ وأن يتمتع به كل إنسان عاقل، ومعناه أن يرتبط الإنسان بذاته التي هي عبارة عن أفكار وآراء ومبادئ وثقافات، ولا يتخلى عن مبادئه وأفكاره التي تربَّى عليها لمجرد أنه رأى أن تحقيق هدفه في تغيير رأيه أو التخلي عن مبادئه، أو التشرب بثقافة دخيلة على ثقافته الأصيلة. والشخص الذي ينتمي لذاته ويتمسك بأفكاره ومبادئه شخص راسخ البنيان قوي الفكر أصيل المبادئ، لا ينزلق خلف الأهواء والآراء المتغيرة، وإنما يبحث ويتحقق ويتحرَّى عن مصادر الأفكار والآراء والثقافات الواردة إليه من أي منشأ، وبهذا لا يسهل خداعه أو تجنيده أو استقطابه كما تستقطب التنظيمات المتطرفة عناصرها.

والإنسان الذي ينتمي إلى ذاته عندما يتحاور مع أحد الأشخاص أيًّا كان توجهه أو طريقة تفكيره سواء كان أصوليًّا متشددًا أم حداثيًّا متحررًا فإنه يأمن على نفسه من الانحراف الفكري ويُحكِّم عقله ويُعلي مبادئه وينأى بنفسه عن الانسياق خلف الأفكار المغلوطة والشبهات المغرضة. ولكنّه في الوقت ذاته يقبل النقد ويتعامل مع الآراء المخالفة له باحترام ويؤمن بالاختلاف وآدابه.

أما الشخص الذي لا ينتمي لذاته ولا يشعر بارتباط وثيق بينه وبين أفكاره ومبادئه، ولا يفخر بثقافته ويعتز بها فقد يسهل التلاعب بعقله وتغيير أفكاره وعزله عن مبادئه واستقطابه لجماعة متشددة أو تنظيم متطرف.

وبناء على ما سبق فينبغي لكل إنسان ذي فكر سليم أن ينتمي لذاته وأن يفخر بمبادئه وأن يبني أفكاره على استنتاجات صحيحة راسخة لا يسهل التلاعب بها أو الطعن في صحتها كي يسلم من شبهات المتطرفين وإشاعات المغرضين ويكون عنصرًا فاعلًا في مجتمعه مفيدًا لوطنه وأهله.

  1. الانتماء الديني: مفهوم الانتماء الديني هو ارتباط المرء بدينه وتمسكه بتعاليمه ومعرفة أحكامه وأوامره ونواهيه، ولا يقتصر الانتماء الديني على مجرد الانتساب للدين، ولا يقاس بشدة الالتزام والتعصب للأحكام المختلفة، وإنما يقاس بمدى معرفة المرء لأحكام دينه، وتفقهه في الأمور العقدية والتعبدية، وإيمانه الراسخ بأنه دين تسامح وعفو وقيم أخلاقية، ولا يحض على التدمير والتخريب وقتل الأبرياء وغير ذلك مما يدعو إليه المتطرفون.

والانتماء الديني من أهم ما يقي الإنسان من الوقوع في براثن الفكر المتطرف، لكنه يقع في المرتبة التالية للانتماء للذات، إذ بدون الانتماء للذات لا يمكن للإنسان المتدين الصمود أمام أفكار مغلوطة وشبهات مثارة يستخدمها المتطرفون في الإيقاع بضحاياهم واستقطابهم لصفوف الجماعة أو التنظيم، وبدون اقتناعه بمعتقده وإيمانه الراسخ بأن ما يؤمن به من صحيح الدين لا يأمر بالقتل أو التخريب لن يستطيع دفع الأفكار المغلوطة ولن يقوى على تفنيد الشبهات المثارة التي تدعوه إلى  تنفيذ الممارسات التي تدعو إليها التنظيمات المتطرّفة.

ففرق بين الشخص الذي يتمتع بالانتماء لدينه والانتماء لذاته فهذا يصعب استقطابه أو تغيير أفكاره ومعتقداته كي تخدم أجندة محددة، وبين الشخص الذي لا ينتمي لذاته، فهذا ما أسهل محاورته والتغلب عليه وتشكيكه في معتقداته واستقطابه إما إلى التشدد والتطرف، واستخدامه أداة لقتل الأبرياء وترويع الآمنين، أو إلى الانحراف والانحلال الأخلاقي، واستخدامه أداة طعن في أخلاقيات المجتمعات.

ولعلنا ندرك أن الانتماء الديني منشأه التوعية الدينية والتنشئة السليمة منذ الصغر على أيدي المختصين الذين يلتزمون بالوسطية ويبتعدون عن التعصب والتشدد، ما يسهم في إخراج جيل واعٍ يدرك خطورة الفتوى ولا يطلبها إلا ممن نُصِّب لها. أما من تلقن دينه على أيدي غير المختصين وأخذ ما يحتاج إليه من فتاوى دينية من غير المختصين الشاردين فهو لا يتمتع بالانتماء الديني، وإنما يسعى إلى إشباع رغبته الفطرية من أي منهل دون إعمال العقل وتقصٍّ للحقيقة، الأمر الذي قد ينتهي به إلى الانضمام لصفوف التنظيمات المتطرفة مقاتلًا باسم الدين والدين منه براء.

  1. الانتماء الوطني: إن أول ما يدفع الإنسان المتطرف إلى تخريب وطنه وتدمير معالمه هو انعدام الشعور بالانتماء الوطني لديه، فالانتماء الوطني معناه الانتساب للوطن والافتخار به والدفاع عنه وحماية مقدّراته ورعاية مصالحه، والوقوف أمام كل من يحاول المساس به، دون أدنى عنصرية أو كراهية تنتج عن تمييز بعض المواطنين دون بعض، فإن البلاد وإن جارت على أبنائها تبقى عزيزة على قلوبهم، ولا يستطيعون رؤيتها تنهار أمام أعينهم دون أن يحركوا ساكنًا؛ وذلك لأن الوطن هو المأوى والملجأ الذي يحمي الإنسان الذي يعيش فيه، ويؤمِّنه على حياته وحياة أسرته وعائلته، ويبعد عنه الشرور والأذى والضرر من أي عدو يحاول إيذائه أو استغلاله داخليًّا كان أم خارجيًّا.

والفرد الذي يتمتع بالانتماء للوطن لا يسهل على أية جماعة أو تنظيم استقطابه لعناصره وإعادة إرساله بعد حين إلى وطنه مخربًا ومدمرًا، فانتماؤه لوطنه يعصمه من الانسياق خلف المتطرفين المخربين، ويقوده إلى الحفاظ على ثروات وطنه والسعي إلى رفعة شأنه وازدهاره والتفكير جديًّا قبل اتخاذ أية خطوة أو اتباع أي توجيه من شأنه المساس بوطنه وسلامة أراضيه.

وفي النهاية نخلص إلى أن كل متطرف ليس لديه انتماء لا إلى ذاته ولا إلى دينه ولا إلى وطنه، فلو أنه ينتمي إلى ذاته ما سمح لأحد أن يتلاعب بأفكاره ومبادئه التي نشأ وتربى عليها، ولو أنه ينتمي إلى دينه ما استطاع أحد أن يثير الشكوك بداخله إزاء حكم فقهي أو مسألة عقدية أو أمر أخلاقي، ولو أنه ينتمي إلى وطنه لاستحال على المتطرفين أن يضموه إليهم أو أن يستغلوه في تدمير بلده وتخريب منشآته. فالانتماء يقي الإنسان من شر نفسه ويقي المجتمعات من شرور المتطرفين، ويغلق عليهم أبواب الاستقطاب والتجنيد ويحول دون الاستغلال لضرب أمن البلاد ووحدتها.

ومرصد الأزهر لمكافحة التطرف إذ يدعو إلى التمسك بالقيم الإنسانية بكل أنواعها، والتخلي عن الصفات غير الأخلاقية بكل صورها، فإنه يثمن دور الانتماء بوصفه قيمةً أخلاقية لها تأثير بالغ في الحد من ظاهرة التطرف إذا ما غرسناها في نفوس أبنائنا، ويدعو المؤسسات التعليمية والدعوية في كل مكان إلى تخصيص دروس عن الانتماء بكل صوره وأشكاله في المناهج التربوية والدعوية؛ لتسهم بشكل فاعل في إخراج جيل محصن من الوقوع في براثن الجماعات المتطرفة ولديه القدرة على محاربة هذا الوباء والتخلص منه.

وحدة البحوث والدراسات

طباعة